المحرر موضوع: في ظلال القرآن :: 2016 ::  (زيارة 28711 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #100 في: 2018-03-28, 12:14:34 »
وفيك بارك الله بهي .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #101 في: 2018-03-28, 13:38:54 »
تأملت سورة إبراهيم ... لمَ سميت بسورة إبراهيم ... ألأجل تلك الدعوات الخاتمات ؟ أم لأجل المعاني فيها مجتمعة ؟

تأملتها، وكانت لي معها جلسات ... فإذا السورة مبتدؤُها : "الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ" .

وهذا مدار السورة كلها، أنّ دور الرسول صلى الله عليه وسلم إخراج الناس من الظلمات إلى النور بهذا القرآن بإذن الله تعالى، بإذن الهادي الذي لا يهدي غيرُه سبحانه ... الرسول وسيلة للبيان وللتبليغ والهداية، والهادي هو الله تعالى ... يهدي من يشاء ويضل من يشاء، مشيئة عدل تام، وحكمة تامة، وعلم محيط بدقائق الأمور كلها، سرها وعلانيتها وبدقائق ما يعتمل في النفوس  :" وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " -إبراهيم:04-

--ثم يأتي الله تعالى في معرض الآيات بموسى عليه السلام مثالا لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وفي أمره له أن يذكّر قومه بأيام الله، بنعمه ونقمه، بنعمة نصره لعباده المؤمنين، وإهلاكه للكافرين، وفي ذلك التذكير  آيات وعِبر يعتبر بها "الصبّار الشكور" ...
والصبر في سبيل الله، وعلى الإيذاء في سبيله، والشكر على النعمة مناط الحفاظ عليها واستسقاء المزيد منها ...

وهذا هو رأس النور الذي يُخرَج إليه الناس من الظلمات ... نور شكر المنعم على نعمه، بعكس حال الجاحدين الذين يكفرون نعمه سبحانه، ويؤثرون تلك الظلمات على نوره ..."وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" -إبراهيم :07-

الشكر قَيد الموجود وصيد المفقود ... وليست دعوة الله عباده للشكر، وأنّ زيادة النعمة بعد وللزيادة من نعمه بعدعه سبحانه الغني، الغنيّ عمن كفر والغنيّ عمن شكرسبحانه  سواء بسواء .. "وَقَالَ مُوسَىٰ إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ" -إبراهيم:08-

--ثم يُردف الله سبحانه بذكر أحوال الرسل مع أقوامهم، في حوار نموذجي هو من جنس ما كان بين كل نبي وقومه من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حوار عرفنا فيه أنّ الأنبياء قد عزموا على الصبر على إيذاء أقوامهم فوق ما آذوهم، وعلى التوكل على الله : "وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ۚ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ" -إبراهيم :12-   وهم ما جاؤوهم إلا ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، ولكنهم أبوا وأعرضوا ...

فلما أن عرف الله تعالى من أنبيائه وأتباعهم الصبر والمجالدة والتوكل عليه، تأذن سبحانه بأمره الذي أمضاه، وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين الأرض بعدهم ... وما هذا إلا نصر من الله لعباده الصابرين، وإهلاك منه للظالمين ...

--ثم ينتقل بنا المولى عز وجل إلى مشهد من أعظم مشاهد يوم القيامة ... يومَ يُقضى أمره، فالمؤمنون مخلدون في الجنة والكافرون مخلدون في النار ...
يوم يتبرأ كل المُتَّبَعين من غير سلطان من الله من أتباعهم ... يتبرؤون ويتنصلون منهم، ولا يغنون عنهم من عذاب الله من شيء ... بل ويتبرأ الشيطان من أتباعه، ويدعوهم إلى لوم أنفسهم وألا يلوموه وما كان له عليهم من سلطان إلا أن دعاهم فاستجابوا ... وهو وأمثاله من شياطين الإنس دعاة من زيّن للناس الظلمات، فاختاروا المكوث بها بإرادتهم، فما أغنى عنهم يوم انقضاء الأمر، وقضاء الأمر أحدهم من الله من شيء ...

--ثم نشهد ضرب الله مثلا للكلمة الطيبة وهي كلمة التوحيد، وللكلمة الخبيثة وهي كلمة الشرك والكفر بالشجرة الطيبة وبالشجرة الخبيثة ... فأما الأولى فتنفع أهلها في الدنيا والآخرة، إذ يثبت الله بها عباده، بينما تُردي الثانية أهلها فهم من أهل الضلال والخسار ..."يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ(27)"


ومعها يدعو الله عباده للتقديم من أنفسهم بالاستجابة له ليفوزوا بذلك التثبيت  : "قل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ" -إبراهيم:31-   

وإنما هذه الاستجابة رأس شكر المنعم على نعمة إخراجهم من الظلمات إلى النور وعلى كل نعمه ...

والآن ....

--هو ذا سيدنا إبراهيم مع ختام السورة ... يتمثل داعيا ربه سبحانه ... وإذا تأملنا دعاءه عرفنا فيه مما كان في سياق آيات السورة من دور الرسل في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن فرق بين كلمة الكفر وكلمة الإيمان، ومصير أهل كل كلمة ... وكيف أن الصبر والشكر والتوكل على الله أدوات حفظ نعمة المنعم سبحانه ...

"وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ(35)"

** فهي منه دعوة لعدم نسيان المنعم سبحانه في غمرة النعمة ... فقد دعا بالأمن، ثم دعا بعدها بالثبات على مجانبة الشرك، على الحنيفية ....

"رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(36)"

**وهذا صلى الله عليه وسلم من ثقته بربه وبأنه المثبّت على الحق، يلجأ إليه ليَثبت، ولا يعوّل على نفسه، ولا يرى نفسه خيرا من الناس وإن كان أمة ... !!

ويبيّن أن من تبعه فهو منه... في بيان ضرورة أن يُتَّبَع الرسل الدعاة إلى نور الله ...

"ربَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ(37)"

**وهي سنام الغايات ورأسها .... "إقامة الصلاة" في الأرض ... تحقيق عبادة الله في الأرض... إعمار الأرض بتعبيدها لله تعالى ... هي رأس الغايات كلها ... "ليقيموا الصلاة"   بهذا الوادي الأجرد القاحل الذي لا يُنبت شيئا .. وليس فيه قطرة ماء ...ولكأنها الوسيلة ليُعمَر والغاية في آن ...!

من هذه الأرض ستكون الانطلاقة ... انطلاقة النور المخلّص للأرض من ظلمتها ... الذي سيخرجها من قحلها وجدبها إلى نمائها وعمارها ...

وها هو ذا صلى الله عليه وسلم يدعو لأجل هذه الغاية ...أن يجعل الله أفئدة من الناس تهوي إليهم لإيناسهم، وليجتمعوا حول دعوة التوحيد، حول إقامة الصلاة في الأرض، إقامة الصلة بالله في الأرض ...

دعوة لسبب من أسباب الحياة لتُسخّر لغاية إقامة الدين في الأرض ... دعوة لتكثير الناس وبالتالي تكثير أسباب الحياة بهم ودواعي تيسيرها...

وها هو ذا صلى الله عليه وسلم يدعو بأن يرزقهم الله من الثمرات ... دعوة أخرى من أسباب الحياة وتيسيرها ... وكلها في خدمة وتيسير تحقيق عبادة الله وإقامة دينه في الأرض ...

وقد دعا من قبل أن يجعل البلد آمنا، ثم ثنّى بأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، ثم دعا بأن يرزقهم من الثمرات ...  وما هي إلا الدعوة بالأمن من خوف، والإطعام من جوع لتحقيق إقامة الصلاة، إقامة عبادة الله في الأرض ... وهي التي استجاب لها الله تعالى ...

حتى جاء يوم جحدت قريش تلك النعمة ... وكفر فيهم مَن كفر، فجاءت دعوتهم أن يعبدوا الذي أمنهم من خوف، وأطعمهم من جوع، دعوة لتذكّر نعمِه سبحانه عليهم برأس الشكر... العبادة ... "فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ "

إذن فإننا نجد سيدنا إبراهيم عليه السلام يعلمنا بدعواته أن : إعمار الأرض يكون بإقامة العبادة فيها لله غاية أولى دون أن يكون ذلك نافيا للأخذ بأسباب الحياة الميسّرة لتحقيق هذه الغاية لا غيرها

ولذلك ... كانت سورة "إبراهيم" ... حقيقة بأن تكون السورة التي فيها بيان إخراج الناس من الظلمات إلى النور... تخليص الأرض من ظلمات الكفر والجهالة بإعمارها بنور الإيمان وبتعبيدها لله تعالى غاية كبرى وأولى تُسخّر لأجل تيسير تحقيقها الوسائل المادية خادما للإعمار الأعلى الغاية الأولى من الوجود ...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #102 في: 2018-04-04, 12:55:15 »
هل كان إبليس من الملائكة ؟ وإن لم يكن فما معنى الاستثناء "إلا أبليس أبى" ؟ .. يجيب عن ذلك الدكتور فاضل السامرائي :

https://youtu.be/Gkss4S7Mees
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #103 في: 2018-04-05, 08:21:48 »
في سورة الحجر، في حوار الله سبحانه وتعالى مع الشيطان لعائن الله عليه، جاء :

"قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)"

ومعنى أغوى: أضلّ وأغرى بالفساد .

وهذا منه تجرؤ ثانِ على مقام الله عزّ وجلّ بعد عصيانه أمره له بالسجود لآدم .
فحاشاه سبحانه أن يضلّ إلا بعدل وعلم ... يضلّ من يستحقّ الإضلال، وهذا عصيان إبليس عليه لعائن الله لأمره سبحانه له بالسجود بيّن واضح كل الوضوح...

وكذلك هذا مما نلمحه إذا تأملنا جيدا في سياق الآيات نفسها، في تتمة كلام إبليس عليه لعائن الله وهو يتوعد قائلا :
"قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)"

إنه من الشيطان إقرار أن عباد الله المخلصين لا سلطان له عليهم ... لنتأمل... إن وصفهم أصلا : "المخلصين" ...فقد قدموا الإخلاص حتى استحقوا حفظ الله تعالى لهم من تسلط الشيطان، استحقوا الهدى على الهدى ...

وفي ردّ الله تعالى :"قَالَ هَٰذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ(42)"

وهذا قول الله تعالى : "إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ"  ... أي من الضالين ...
فهم أولاء أصحاب استعداد مسبَق لأن يكون للشيطان عليهم سلطان بخلاف حال المخلصين الذين قدّموا الإخلاص لله تعالى فاستحقوا حفظ الله لهم من تسلط الشيطان...

فحتى تسلط الشيطان على الناس ليس من سلطان له نافذ خارق، بل من استعداد فيهم مسبَق يقبل هذا السلطان عليهم ... وها هو المولى عز وجل يصفهم بــ : "الغاوين" الضالين ... الذين ضلالهم من جنس ضلال الشيطان إذ عصى أمر ربه، فأضله ربه ... كذلك قدموا من أنفسهم الضلال فأضلهم الله ولم يحفظهم من تسلط الشيطان عليهم ...

من هنا يتبين لنا جليا "حرية الاختيار" في الإنسان ...وأن الله لا يظلم مثقال ذرة، فمن قدم من نفسه اختيار الهدى هُدِي، ومن قدم اختيار الضلال والغواية استحق الإضلال ...

نسأل الله السلامة والهدى والثبات ...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #104 في: 2018-04-10, 09:55:10 »
ما يُعرف عن سورة النحل أنها سورة النّعم، ونعم يبدو تعداد أصناف من نعم الله فيها جليا، بل أجلى من ذكرها في غيرها من السور ... ولكن لسورة النحل ميزة أخرى  لم أتكلّف الوصول إليها ... بل جعلت تقابلني في مقامات منها تترا بشكل منفرد فيها مُلفِت دون كل السور الأخرى ...!

لآية لقوم يتفكرون ...
لآيات لقوم يعقلون ...
لآية لقوم يذكّرون ...

حتى الآن تبدو الآيات معروفة، ومنها كثير يُذكر في غيرها من السور ... ولكن يتاعد النسق ... لنجد عن "العلم"...
والتفكر والتعقل والتذكر من خصائص آلة الترجيح التي كرّم الله بها الإنسان (العقل)... وكلها للوصول إلى العلم ...

ورأس العلوم المُبتغى من السورة هو العلم بالله تعالى ... الذي من غيره لا قيمة لعلوم تفنى عند صاحبها بفنائه، وتفنى عند الكل بفناء الدنيا ... العلم بالله تعالى ...

تلك هي الصورة التي ما تفتأ تقفز لي أجزاء منها في كل مرة أتقدم مع تدبر الآيات في هذه السورة الرائعة ...

ما أزال بعد مع ثلاثينيات آياتها (بلغت منها الآية 38)

وسأحاول وضع ما لفت نظري حول هذا المعنى ....

1- ويخلق ما لا تعلمون ------ (آية08)
2- والله يعلم ما تسرّون وما تعلنون (آية19)
3- ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم (آية25)
4- قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين (آية27)
5- إن الله عليم يما كنتم تعملون (آية28)
6- ولكن أكثر الناس لا يعلمون (آية38)

ومن جملة هذه الآيات مع سياقاتها (رجو مطالعة سياقاتها) نرى أن :

1- العلم الشامل والكامل والدقيق والمحيط لله تعالى .
2- يؤتي الله العلم (رأس العلوم، علم الوحي، العلم الحقّ بالله) من يشاء ويصطفي من عباده، وهم الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه.
3- أكثر الناس ليس لهم علم بالله صحيح، إلا من هدى الله وعلّمه، فقبِل هُداه وعلمَه .

وعلى هذا... فإنّ :

الهدى الراسخ يحتاج علما صحيحا بالله... أي وحسب السورة وسياقاتها :

**  بالغاية من إيجاد الإنسان ومن تسخير الكون له(انظر آيات النعم الكونية )
**  بالعلاقة بين الإنسان وبين الكون تعقلا وتفكرا وتعلما لمزيد معرفة بعظمة الله وقدرته ولتحقيق عبادته في الأرض(انظر آيات النعم الكونية المذيّلة بالدعوة إلى التعقل والتفكر)
** بالغاية من بعث الرسل : "يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ(02)"
** بأنه سبحانه يزيد المقبلين على هُداه هدى، ويعطي المعرضين عنه ما استحبوا من "عمى"
** أنه سبحانه أوجد في الإنسان مَلَكة الاختيار، ولم يجبره على طاعة ولا على معصية (انظر الآية 35 ولجاج المشركين الفاسد بأن الله هو الذي شاء لهم الكفر)
** بما ينتظر الإنسان بعد حياته من جزاء أو عقاب بعد انتهاء مرحلة الاختبار.

------------------------

ومازلت مع باقي آيات السورة، ولعلّ في أمر العلم فيها توسعة ...  emo (30):

أما عن الآية 35، وما فيها من قول المشركين أن كفرهم بمشيئة الله، وهو ذلك اللجاج القديم الحديث، الذي يجعل من الاختيار معدوما في الإنسان، ويتحجج به صاحب الهوى والمعصية والكفر على حاله، فقد نظرت فيه بإسهاب... وفي القرآن حوله العلم الصحيح والجواب المفحم ... وإن يسر الله تعالى أنقل هنا ما كتبتُ حول الآية ...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #105 في: 2018-04-12, 11:01:57 »
يالِسورة النحل !! ويالعظمة سورة النحل ! ويالِلْعلم الذي في سورة النحل... !!
يالِبيان دور العلم الصحيح بالله في هذه السورة العظيمة ... ! ويالِبيان خطورة الجهل به سبحانه وبأمره... ! فيها الشبهات، وفيها دفع هذه الشبهات بالحق المبين من رب العالمين ...

الآية 35 منها، والتي فيها تقوّل المشركين على الله تعالى أنه قد رضي لهم الشرك، وأنه قضاؤه فيهم، ولا يد لهم فيه ولا اختيار... ولو شاء ما أشركوا ...

"وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ"

في السورة ذاتها يأتي الردّ من الله تعالى في سياق الآيات المتصلة، هذا زيادة على ما يتضمنه معنى تذييل الآية ذاتها بقوله تعالى : "فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ"  ... أي أنّ دور الرسل لا يتعدى إلى الهداية، إنِ الهداية إلا لله وحده، وهؤلاء بتقوّلهم هذا قد بلغوا مبلغا من فساد الاعتقاد والإصرار على الكفر واللّجاج بما لا يُرجى معه انصلاح، ذلك الانصلاح الذي يتوق إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ويحرص عليه أيما حرص، ويؤكد معنى آخر هذه الآية،  ما يأتي في آية بعدها : "إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَن يُضِلُّ ۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ" -37-

وفي الآيات التالية من السورة بعد مضيّ قطاعات منها ... أقع على ما يكون ردّا على هذه التقولات وهذه الشبهة التي ألقى بها الكفار قديما، ويلقي بها كفار اليوم، ويلقي بها حتى الكثير من عصاة المسلمين بقولهم أن الله قد كتب عليهم المعصية... بمنطق الجبرية ...

يقول سبحانه وتعالى :" وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَٰهَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ"

وهذا هو البلاغ المبين الذي في هذا الكتاب المبين، والذي هو دور الرسول المبين ... أنه سبحانه قد أمر ألا يُتخذ معبودا إلهان اثنان، فكيف بالأكثر ...؟!!  ولمنع الالتباس والتقوّل الذي يتصيّد لأجله المتقوّلون الكلمات ... يأتي بعدها في تفصيل وبيان  القسر عليه وحده سبحانه إله معبودا: "إنما هو إله واحد"، وحتى لا يلبس المُلبسون المعاني، وذلك دَيدنهم وشأنهم ... يأتي التوضيح الأكبر في نهاية الآية أن هذا الإله ليس إلا الله سبحانه بقوله : "فإياي فارهبون" ... فكيف يتسق هذا مع ادعائهم أن الله تعالى يرضى أن يُتخذ له شريك في العبادة ؟!! وأنما قضاؤه هو علمه بما سيكون دون  جبر منه لعباده  لما يكون منهم...هذا الجبر الذي يلغي الاختيار، ويلغي العدل بالثواب على الحسن والعقاب على السيء ... بل يلغي دور الدنيا بأكملها وهي دار اختبار وابتلاء... فيكون فسادا في ميزان قائله ذاته، لا في الوزن بين الأوزان ... ! أي في عقيدته كلها ...


وليس هذا فحسب .... بل إنني وأنا أتقدم بين ربوع السورة العظيمة ... أقع على بيان آخر وردّ آخر من الله تعالى على هذا الاعتقاد الفاسد، الذي فيه ما فيه من الجهل بالله تعالى وبأمره في الغاية من إيجاده لعباده وتزويدهم بملكة الاختيار ... إذ  يخبرنا رب العزة عن أفواههم وما تقول يوم الحاقة، يوم يريهم الله شركاءهم ليقولوا بأفواههم ذاتها التي تقوّلت على الله وافترت أنه لا خيار لهم في أمر اتخاذهم الشركاء :

"وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِن دُونِكَ ۖ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ " -86-

يبعث الله شركاءهم يوم القيامة من أصنام وغيرها من معبودات اتخذوها من دون الله، فيقولون يومها : "ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك"

وأي إقرار هذا ....؟!!! وهذا هو المقام الأحرى بأن يزعموا زعما لعله بما يحسبون سيخلّصهم ...
لماذا لم يقولوا : هؤلاء شركاؤنا الذين كتبت علينا أن نعبدهم من دونك ؟! لماذا لم يقولوا قولهم الذي كانوا يتفوهون به في الدنيا ؟!! أوَقَد علموا أخيرا ؟؟؟!!! ولكن... بَوْن شااااسع بين علم وعلم ...!!

إنه علم بعد فوات الأوان .... إنه علم النادم الذي لا مناص من مصيره الذي صار إليه ... إنه العلم الذي لا ينفع صاحبه ...  نعم هو العلم الذي يصفه سبحانه في هذه السورة ذاتها، هذه السورة التي تعلمنا أيّ علم نافع هو الذي يجب علينا أن نستبق لنحصّله، في هذه الدنيا، قبل فنائها، قبل فنائنا، قبل فوات الأوان ... يصفه الله تعالى بقوله : "الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ"

ويأتي ردّ شركائهم عليهم إذ أنطقهم الله به ليكون لهم فضحا وخزيا :  "إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ" .
إنكم لكاذبون .... سبحان الله ! أليس حقا وصدقا هذا الذي قالوه ؟؟ أنهم الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله ؟!!   ........ بلى ... ولكنّ الشركاء قد أنطقهم الله بالحق، إذ هم ليسوا بشركاء أصلا، ولا يصحّ هذا الوصف فيهم أصلا.... وكيف يكونون كذلك ولا شريك لله ؟!! فهم قد نفوا أن يكونوا شركاء أصلا ... وهذا النفي منهم أدعى لأن ينفي كل ادعاء كان من المشركين في الدنيا حتى وهم يقولون بحقيقة اتخاذهم شركاء .... فهم بهذا يتبرؤون منهم كل التبرؤ .... تماما كما يتبرؤ الشيطان يوم القيامة ممن اتبعه ....

وتكتمل الصورة ماثلة لنا في هذا الموقف المصوّر في القرآن الكريم كعادته في التصوير بكلماته العظيمة : "وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ۖ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ" -87-

ألقوا السلم .... استسلموا، ولم يجدوا بعد هذا ما يقولون، ولا ما يفعلون ... إلا أن يستسلموا لله تعالى ... ولكن بعد ماذا ؟؟؟!! بعد فوات كل أوان ..... !! وضل عنهم ما كانوا يفترون، من أن أولئك الذين اتخذوهم من دون الله شفعاؤهم عند الله، أو من أنّ إشراكهم هو قضاء الله فيهم، وليس لهم يد فيه ولا في اختيار غيره ... ضلت عنهم افتراءاتهم كلها ...... 

فأي علم .... أي علم ... أي علم هو في هذه السورة ؟؟!! أي دحض للشبهات بالحق المبين ؟ يزهق الباطل، فإذا هو زهوق .... أي علم صحيح بالله يُراد للإنسان لينجو قبل فوات الأوان ...

علمنا الله تعالى ما ينفعنا ...
« آخر تحرير: 2018-04-12, 12:44:25 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #106 في: 2018-04-22, 08:45:22 »
أحتاج إلى مراجعة ما أكتب من تدبرات، فكلما عدتُ بدتْ لي جديدة، وهذا ملخص تدبرات كانت لي عن سورة التوبة :




ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #107 في: 2019-02-26, 09:12:11 »
عن سيدنا يعقوب عليه السلام وعدم يأسه من انصلاح حال أبنائه :

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #108 في: 2019-06-23, 17:34:50 »
( وأنتَ حلٌّ بِهَذا البلد) ...أنت يا محمد الرحمة للعالمين.

كيف لا تكون مرحمة وتراحم في بلد فيه محمد ؟!

وكيف لا يكون كل هذا في كل بلد في كل زمان أهله أتباع لمحمد ؟!

تأملوا سورة البلد  وما فيها من ذمّ للمستكبر ب"إهلاكه"مالا لبدا ... "أهلكت" التي تشي بذهاب المال فيما لا يُثمر ولا ينفع، في شهواته ونزواته ... في أنانية مُغرِقة، فلا يرى غير نفسه أهلا لماله ...

 وجاءت الدعوة لاقتحام العقبة ... وما العقبة إلا إنفاق للمال في سبل التحرير: ( فك رقبة) ...ومحرّر الرقاب بماله هو ذاتُه محرّر نفسه من ربقة المال، من عبادته للمال...
أو إطعام في يوم مجاعة يشحّ فيه العطاء بالطعام ...

سورة البلد ... "ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة"...

محمد الرحمة للعالمين ... لا يكون في بلد حيث اجتماع الناس، ولا تكون الرحمة ... ولا تكون المرحمة ...

البلد ... نعم هذا هو البلد الذي يحبه الله ... هذا هو المجتمع الذي يريده الله... المجتمع المتراحم ... وحيثما حلّ محمد صلى الله عليه وسلم بجسده حيا أو بالقرآن الذي بلغه وبسنته ميتا كان " هذا البلد "...

ثم يا سبحان الله !! يحضرني يوم فتح مكة... يوم فتح ذلك البلد ... وقد قال له مَن قال من أصحابه رضي الله عنهم: اليوم يوم الملحمة ... فيرد الرحيم صلى الله عليه وسلم بقوله : بل اليوم يوم المرحمة.

هذا هو البلد .... !! بلد الرحمة والتراحم والمرحمة ... ! في كل زمان فيه محمد بالقرآن الذي بلّغه وبسنته ...
« آخر تحرير: 2019-06-23, 18:15:21 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #109 في: 2019-07-09, 10:56:46 »
الجزء الأخير من القرآن الكريم، جزء النبأ ... كله عن يوم القيامة، عن مآل الإنسان، ومآل هذا الكون وهذه الحياة الدنيا ...
كله عن الوعد الحق ... عن النبأ العظيم، عن الحاقة، عن القارعة، عن زلزلة ذلك اليوم، كله عن الوعد والوعيد ...
عن تحقق أمر الله تعالى بانتهاء الحياة الدنيا، الحياة الأولى، وتحقق الحياة الآخرة، وعن أفضليتها وخيريتها لمن آمن وعمل صالحا ...

سورة العاديات واحدة من هذه السور التي على قصرها إلا أنها ذات معانٍ جليلة ومدلولات عميقة وعظيمة ... على قصرها هي حمّالة لموعود النبأ الحق، النبأ العظيم ...

سورة العاديات ... وقد درجْنا ونحن نتعلم أكثر ما نتعلم عنها، وعن معناها أن القسم فيها بالعاديات، أي بالخيل الغازية، المغيرة في سبيل الله ... فنفهم معاني بعض المستكشل من ألفاظها ولا نبحث كثيرا في الرابط والعلاقة بين مطلعها وصدرها وعجُزها، فيكون أكبر همّنا في القسم بالعاديات، ثم نقرأ ما يلي القسم دون بحث في الاتساق والارتباط ...

لقد أقسم سبحانه بالعاديات وهي تضبح أي وهي يُسمع لها صوت من سرعة عدوها، فنلمح القوة والسرعة والرقيّ في هذا الحيوان الذي هو خلق من خلق الله تعالى عظيم، وهو سبحانه ما يُقسم إلا بعظيم ... وسمات القرآن الكريم وهو يصوّر لنا المشاهد فتتراءى للمتامل المتدبّر المتروّي على صفحاته صورا تتحرك ...

فلنتأمل ... لا بدّ أن بين المقسَم به والمقسَم عليه من رابط ....

إنها تلك الخيل التي حباها الله تعالى بجمال في الهيأة، وبرِفعة ورقيّ يرتسمان في هيكلها يَنُمّان عن سرّ فيها عظيم، حباها بالقوة وبالسرعة إذا ما عَدتْ ... هي ذي تصوّرها الآيات تعدو وهي من سرعة عَدْوِها تُحدث ذلك الصوت الذي يتردد بجوفها، وكأنه صوت أعضائها الباطنة (والعاديات ضبحا) ...

وإنها هي هي تلك التي من سرعة عَدْوِها تقدح نارا من قوة ضرب حوافرها للحجر، وهي بتلك القوة المصوّرة إنما هي المغيرة على العدوّ صباحا في قوة وإقدام ...
وإننا لنتمثّل عددها الكبير وهي بتلك القوة تحمل جُند الله المُقدمين غير هيّابين في سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمة الله ... فتثير النقع، تثير الأرض من تحتها فإذا الحرب وأُوارُها، إذا الحرب وهَوْلُها وشدّتها واستعارُها، وكل عناصر الطبيعة المحيطة بخائضيها تلتحم وتتحد لتعطيك صورة للحرب وحدها لا لغيرها ... !

وها نحن نشهد ذروة مراحل الإقدام والشجاعة والقوة ... وخيل الله تتوسط جموع العدوّ ... تتوسّطها من قوة فيها تُرهب عدوّ الله ... وتقتحم عليه عُقر داره ... "فوسَطْنَ بِهِ جَمْعا"

ومن هذا المشهد لحالة الحرب التي تمثّلت لنا شديدة مهيبة من خيل الله وبعضٍ من صفاتها وأحوالها وهي مقبِلة غير مدبرة، تنطلق قوية تهزّ ما حولها عادية ضابحة وكأنما تقدّم بضبحها لما سيكون منها من إصرار وإقدام لا رجعة لها عنه ولا نكوص حتى تبلغ هدفها ...

من هذا المشهد ينتقل بنا السياق إلى الإنسان ... ! نجدُنا قُبالة الإنسان ... معه ومع صفة محددة من صفاته وحقيقة من حقائقه : "إنَّ الإنْسَان لربّهِ لَكَنُود"
وقد عرفنا أن الكُنود منه هو الجحود، جحوده بربه وبآلاء ربه عليه...

فأي علاقة هي بين هذه الصفة فيه وبين ما سبق من القسم بالعاديات وأحوالها وهي تغير على العدوّ حتى إذا هي متوسطة جمعه ؟

لنتأمل ...

أليست تلك خاصية حبى الله بها الخيل، أن جعلها ذات قوة وسرعة، حتى يجعلها الإنسان عُدّته لأشد مواجهاته في الحياة صعوبة، للحروب ؟
بلى.... وإن الخيل مقابل ذلك تَصْرِف هذه النعمة التي خصّها بها خالقها في وجهها، وتبذل كل جهدها، ولا تبخس فارسها وسائسها حقّه، وهو الذي درّبها وعلّمها لتكون مِطواعة بين يديه، تنقاد بقِياده ...تعطيه مما لأجله رعاها وساسها ودرّبها ...

بينما الإنسان وقد كرّمه الله بالعقل، وفضله على كل من خلق تفضيلا، وأنشأ في كينونته الفطرة السليمة التي يعرف بها ربّه، وبعث له الرسل الهُداة، وأنزل له الكتب الهادية، ولم يتركه لأمواج الضلال تتلاطم عليه فتغمره، ولا لريح التّيه تطوّح به ذات اليمين وذات الشمال، وأنعم عليه من بادئ أمره إلى منتهاه، فجعله ذلك المخلوق المكرّم ولم يكن شيئا مذكورا، وعلمه ما لم يكن يعلم، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة ...

وهو مع هذا كلّه يجحد بنعم ربه، وأكبر جحوده نُكرانه لربه، وإعراضه عن الانصياع لأمره، ومن ثمّ غرقُه في النعمة ونسيانه المنعم ... وهو مع هذا الجحود والنكران شديد الحبّ للخير من مال وعيال وترف وشهوات ذوات ألوان وألوان .... وكلها نِعَم المنعم الذي له قد جحد ...!

أين هو وهو المكرّم كل ذلك التكريم، المهديّ، المُعرّف بربه ... يعرفه في نفسه وفي كل ما حوله ... أين هو من ذلك الحيوان الذي صرف قوته في ما يُرضي صاحبه، فإذا هو الذي يصفه الله تعالى بـ : "المغيرات" وصف العاقل، وكأن الخيل هي التي تحمل عِبْء الجهاد في سبيل الله، حتى إنك لتغفل عن الفارس الذي يركبها وأنت تقرأ أن الوصف لها وكأنها العاقلة ... وتبصر شجاعتها وإقدامها، وقوتها، وإصرارها على بلوغ الهدف ...!

أين هو ذلك الإنسان الكنود من هذا الحيوان الذي يؤدّي ما عليه على أكمل صورة وأتمّها ...فإذا هو فاعل وصاحب دور كبير في أكبر وأهم فريضة، فريضة الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى ...

وإننا ... ونحن نمضي مع تلك السياقات من أحوال الخيل، ونقابلها بأحوال الإنسان في هذه الدنيا ... نجدها تلخّص حركة الإنسان وصولته وجولته التي من أجلها خُلق...

ألم يجعل الله تعالى هذه الدنيا بزينتها ليبلو الإنسان، ولتكون له دار امتحان ؟ ألم يخلقه ليبتليه ؟ "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا..." -هود: من الآية7- "إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" -الكهف:7-

ألم يعرّفه بأنه خالقه، وأنّ الشيطان له عدوّ، وأنّ عليه أن يتخده عدوّا ؟ "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا..." -فاطر: من الآية6-

فما حركته في هذه الحياة الدنيا التي خلقه الله لأجلها، وليبتليه أيقوم بها أم يقعد عنها، ما حركته إن لم تكن جهاده للشيطان ولنفسه المتكالِبَيْن عليه إن هو لم يفطن لدوره في تأدية ما عليه، وللحركة المناسبة اللازمة ...
إنه جهاد الشيطان الذي يأمر بالسوء والفحشاء، والذي لا يحب للإنسان إلا أن يتردّى من الشواهق الروحانية الإيمانية التي يُريد الله أن يبلغه إياها إلى دركات الهوى والمعصية والبعد عن مراده سبحانه ورضاه ...

هنا .... هنا تتمثل حركة "العاديات" مقابلة للحركة اللازمة من "الإنسان" الذي ما خلقه الله إلا ليعبده، إلا ليطيعه، إلا ليعرف عدوّه الذي عرّفه ربّه، فيترصّد له ويعدّ له عدّته .... فإن لم يفعل كان ذلك "الكنود" الذي تُغرِقُه النعمة وهو الذي يحبّها حبا جما، فينسى في لُجّها خالقه الذي أحاطه بكل نعمة، وينسى ما لأجله قد خُلِق ... عندما لا يكون زادُه معرفته بربه، ستصبح لازمته كنودَه لربه ...!

أجل... إن العاديات وهي في تلك الصورة القائمة بين أيدينا من حالة القوة والإقدام والإصرار، والإقبال على العدوّ حتى تبلغ عقر داره وتقتحم عليه جموعه ... إنما هي الصورة التي حقيقٌ بالإنسان أن يتمثلها في الدنيا، وعدوّه من الشياطين ومن نفسه له بالمرصاد ...
"والعَادِيَاتِ ضَبْحا"...عَدْوٌ يمثل المسارعة التي أمِر الإنسان بها وهو في الدنيا مؤقت الوجود، محدود الوجود بزمن لا يعرف له طولا من قصر، لا يعرف له مدّة، فهو المأمور بأن يسارع حتى لا تأخذه الموت بغتة وهو الغافل المتكاسل القاعد ... "سَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" -آل عرمان:133-

"ضبحا"...ضبح هو دخيلته... هو خامّة الإصرار فيه على مجاهدة العدوّ والتصدي له بكل قوة ...

وقوة عزمه وإصراره على تفويت الفرصة على الشيطان وعلى النفس من جنس فعل حوافر الخيل إذ تصطكّ بالحجر فتوري نارا ...
وهكذا هو في تقدّم وإقدام، لا يَني ولا يتراجع، ولا ينكص على عقبيه... مقبل غير مدبر ... حتى يحوز صفة "المُغير" المغير على العدوّ ... يريد بحصونه دكّا، مستعينا بربه الذي يعرفه ويقرّ بعبوديته له، سائلا له سبحانه ألا يكله لنفسه طرفة عين، فهو منها في تحفّز وتأهّب ... مغيرٌ عليها أبدا، لا يأمن جانبَها، ولا يركن إليها ...

فأي قوة ستبقى للشيطان مع هذا الإنسان العارف بربه، الذي أوّلُ سلاحه إيمانه، والذي عرف فيما عرف أن كيده كان ضعيفا ما بقي هو ذاك المتحفّز العادي نحو رضى ربّه المغير على عدوّه...

وهكذا ... نبلغ من السورة عجُزَها : "أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ(9)وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ(10)إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ(11)"

نبلغ هذا المقطع منها... لنبلغ فيه مقابلة لما عرفنا عن العاديات ... "فأَثَرْنَ بِهِ نَقْعا(4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعَا(5)"

فهذه القبور وهي تُبعثر بعد نهاية رحلة الإنسان في هذه الحياة الدنيا، بعد نهاية جهاده، بعد انتهائه من أداء دوره ... بعد انتهاء فترة الامتحان والابتلاء ... وبداية فترة الحياة الأخرى ... هي ذي تلك البعثرة تقابل ذلك النقع المُثار من حوافر العاديات، في مقابلة الصورة للصورة ... وإذا تحصيل ما في الصدور يقابل توسّطها جمع العدو ... انتهى ما عليه، وقد كان إما مغيرا على عدوّه في الدنيا أو مُغارا عليه، إما مغيرا أو كنودا، وحُصّل ما كان خبيئ صدره، فإما هو ضبح على العدوّ جعله وقود حربه عليه، وإما هو كنود وجحود اتخذ به العدوّ وليا، والوليّ عدوا .... يومها يحقّ قوله سبحانه : "إنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ" ... فإما فوز بالجنان والرضوان، وإما بَوْء بالسخط والخسران ...

وتلكم هي سورة العاديات .... تلكم هي العلاقة التي أراها بين القسم بها، وبأحوالها ... وبين الإنسان الكنود .... تلكم هي رحلة الحياة، فإما إقرار بالعبودية وإيمان، وإما كنود ونُكران .... ! إما جزاء بإحسان على الإحسان، وإما مجازاة بالعذاب على الجحود والنكران ... رحلة هي الحياة، وأي رحلة ...! سريعة سريعة كما صورتها الآيات في سرعة العاديات التي لم تكن لتبلغ الهدف لو لم تكن على تلك السرعة والقوة والإقدام ... كريمة وكريم صاحبها ما كانت بصورة فعل العاديات وفعل راكبها .... لئيمة ولئيم صاحبها ما كانت بغير فعلها ويغير استعدادها، ما كانت لجَحود كَنود ...!!

ولا يفوتني أن أستحضر قيمة الفارس الممتطي صهوات العاديات والذي لولاه ما كان لها من دور ولا قياد ... وإن الإشادة بها لهي الانعكاس للإشادة بصاحبها المؤمن الذي سِمتُه الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله ... وأنه هو المثال لذلك الإنسان المُراد على الأرض، سِمتُه الجهاد في كل حال، فإن لم يكن في ساح الوغى ومقابلة الرجال للرجال، ففي ساح النفس لا تنقطع الحرب ولا تهدأ... والذي يقابله ويعاكسه ذلك الإنسان الكنود الجحود الذي تُركِنه النعمة للنعمة ... !
« آخر تحرير: 2019-07-11, 10:34:18 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #110 في: 2019-08-22, 03:49:07 »
في مطلع سورة التكوير اثنتا عشرة جملة شرطية كلها عن أهوال يوم القيامة ... جاء بعدها جواب الشرط بتحقق   علم كل نفس بما أحضرت  :" عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ" .

أما في سورة الانفطار فقد عقب أربع جمل شرطية جواب شرط فيه تحقُّقُ علم كل نفس بما قدمت وأخرت :" عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وأَخَّرَتْ" .

تُرى ما يميز الأولى عن الثانية ؟ وما يفرّق بينهما وكلتاهما عن أهوال ذلك اليوم التي يتحقق بحدوثها علم النفس بأعمالها ... ؟

تأملتُ أولا قوله تعالى :"عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وأَخَّرَتْ"
فوجدت فيها أقوالا للمفسرين لا قولا واحدا، منها أنها ما قدم الإنسان من عمل خير في الدنيا وما ترك، و منها أنها عما عمل في الدنيا وكان له عنه ثوابه، وما بقي مُجرِيا لثوابه وأجره حتى بعد مماته ...

فرأيت أن الأَوْلى بتأويلها النظر في مقام من القرآن حيث ورد جزء منها، فيكون نظرا في معاني القرآن بالقرآن ..
وذلك في قوله تعالى يصف الإنسان الآسِفَ على ما فاته من عمل في الدنيا  : "يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي "-الفجر -

فهو يومها يعلم علم اليقين أنها تلك هي الحياة، تلك هي الباقية التي تستحق أن يُقدّم لها في الفانية ...
إنها المقدمة منه في الدنيا بأعمال الخير المُنجِية له في الآخرة ...

وعلى هذا يكون معنى " عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وأَخَّرَتْ"   ما قدّمت من عمل خير، وما أخّرت من عمل خير، أي ما تركت منه. ولو أنها كانت عملتْه ... !

وعلى هذا فإن الفرق بين ما تعلمه النفس في سورة التكوير وما تعلمه في سورة الانفطار، أنها أولا تعلم ما أحضرت، كعلم المسافر بأنّ تلك الحقيبة بعينها هي حقيبته وليست غيرها ...

ثم يفتح الحقيبة ليعلم على وجه التفصيل ما أحضر، فإذا هذا الذي سينفعه فيها، وإذا ذاك الذي كان سينفعه ليس فيها، ولو أنه كان فيها لكان له خيرا على خير ... !

ويْكأنّها بمثل حال الإنسان، ولَهْثُه في الدنيا خلف المزيد من مظاهر الدنيا وملذّات الدنيا هي حالُه يوم القيامة... !

يوم البعث حين ينقلب ذلك اللّهث منه على المال ومظاهر الدنيا إلى لهث على أعمال الخير، وَدَّ لو أنها كانت في صحيفته أكثر وأكثر ... ولو أنه ما فوّت، ولا سوّف، ولا أخّر حتى عطّل، ولا استكثر ... !

ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لَوْ أنَّ لِابْنِ آدَمَ وادِيًا مِن ذَهَبٍ أحَبَّ أنْ يَكونَ له وادِيانِ"

فبقَدر حبّه للمال في الدنيا ولمظاهر الترف والعيش الرغيد، هو حبّه يومها للأعمال وقد "عَلِمَ"  يقينا أنها الباقيات الصالحات، أنها المُنجيات، أنها ما يستحقّ أن يسابق الإنسان لتصبح حظّه من صحيفته ... ! صحيفته حسابُه البنكيّ الأخرويّ ... !!

إنها الحلبة التي فيها مَن عمل خيرا أكثر، لا مَن حاز مالا أكثر... إنها يومها العُملة النافذة والسلعة الرائجة، يوم لن يبقى ضحِك حاذق لبيب يرى أنّ المعنى مالٌ ومظاهرُ رفاه مِن ساذج يرى أن العمل الصالح خيرٌ وأبقى ... !

وشتان بين ميزان الدنيا وميزان الآخرة ... ! وشتان بين وازن في الدنيا قدّم لميزان آخرته من سلعة الآخرة  وبين وازن فيها جزم أنّ الميزان فيها دنيويّ محض، ولا مجال فيها لموازين تهيّئ للغيب ... ! لليوم الفصل ... ! شتان شتان... !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #111 في: 2019-09-02, 14:30:01 »
في كتاب "مشكلة الشر ووجود الله" أشار الكاتب سامي العامري إلى تصوّر الملاحدة للخلق، والقائم على أن الله يخلق فقط لأنه يجب أن يخلق... يجب أن يخلق عالما كاملا بلا نقص، ولا ألم ولا شرّ حتى يحقق للإنسان أقصى مستويات السعادة.

وأنا أرى أن سرّ هذا التصوّر عندهم إنما مردّه الرئيس عدم إيمانهم بالآخرة. والقرآن الكريم هو الذي نبّأنا من أخبارهم، فبيّن سرّ عدم اهتداء من لم يهتدِ بالقرآن الكريم رغم أنه الموصوف من ربّ العزة بقوله : "إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ..." –الإسراء: من الآية9-

ذلك أنهم افتقدوا أساسا للحسّ الإيمانيّ باليوم الآخر، فيقول سبحانه في السورة ذاتها : "وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا"-الإسراء: 45- ويقول سبحانه أيضا : "انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا(48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا(49) -الإسراء-
ويقول أيضا جلّ وعلا : "وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ۚ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ"-الأنعام :92-

فهذا التصوّر للخلق عندهم نابع من أنه لا مكان للآخرة، ولساعة البعث بعد الموت فيما يعتقدون من عبثيّة الخلق، وعشوائيته والصدفة التي أوجدته، وأنّ الإنسان كما جاء صدفة وبلا تقدير، فهو ذاهب من الدنيا، وما هي إلا الحياة الدنيا، وما يهلكهم إلا الدهر...

وعلى هذا فلا تصوّر عندهم لعالم فيه تمام السعادة، والحياة التي لا ألم فيها ولا شرّ ولا عناء ولا مكابدة، بل حتى التكليف بالعبادة فيها يسقط عن المؤمنين ... حياة هي النعيم المقيم الخالد الباقي الذي لا يفنى، بينما الدنيا بآلامها وعذاباتها وتقلّباتها، وبما يكابده الإنسان فيها هي المعنى الحقيقي لوجودها ولوجود الإنسان فيها، وهي الدليل على أنّه سبحانه إنما خلقها ليبتلي الإنسان فيها، ولتكون دار الامتحان التي تنقل إلى مرحلة، هي المرحلة الحاسمة التي يكون فيها الجزاء ...

إلى دار فيها لأصحاب الهدى والتقى والإيمان به سبحانه في الدنيا السعادة التامة والهناءة المُتمّة التي لا كَدر معها ولا نقص ...

سبحان الله ! سقوط الإيمان بالآخرة حتى عند أهل الإيمان بالله يأخذ صاحبَه إلى تصوّر أهل الإلحاد ... ولهذا غالبا ما يُقرن في القرآن بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر: "الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر"
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #112 في: 2019-09-25, 09:15:24 »
سورة "المطففين" ...

جاءت بعد "النبأ" و"النازعات" و"عبس" و"التكوير" و"الانفطار"...

وإننا إذا تأملنا تسلسل هذه السور في هذا الجزء الأخير لوجدنا الواحدة منها تسوق للأخرى الهُوَيْنى ... أيام الدنيا إزاء ذلك اليوم العظيم ...

**فجاءت "النبأ" لتنبئ أن يوم الفصل كان ميقاتا ... وأنه اليوم الحقّ ... كما كان خلقه في سمائه وأرضه حقا مُشاهدا يُعرَف بنواميسه وقوانينه في يوم الدنيا ...

**ثم تُردَف ب"النازعات" لتفصّل شيئا ما عن ذلك اليوم، فتخبرنا عن هَوْله، وأنما هي زجرة واحدة فإذا الناس قيام ليأخذ كل ذي حق حقه وافيا كما وعده ربه ..
وفيها ذكر من استعلى وتجبّر وطغى في أيام الدنيا وحسب أن أمره وقد طمّ وعمّ لن يأتي عليه ما يدانيه...حتى إذا جاءت "الطامة الكبرى" طمّت على طمّه وعمّت، وتذكّر الإنسان سعيه، فإذا هو سائقه إمّا إلى جنة أو إلى جحيم... فكان البيان لعِظم ذلك اليوم الذي لا يبقى فيه لطاغيةٍ متكبرٍ من دبيب ... !

**ثم تأتي "عبس" لتصوّر في يوم من أيام الدنيا ذلك الأعمى الذي جاء وحده يسعى وهو يخشى قُبالة من استغنى عن ربه بجاهه وسلطانه وناديه، فإذا هو ميزان وإذا هما كفّتان...!

كفّة الواحد الفرد الصادق وهي ترجح على كفّة حملت ناديا من الكبراء أعيان الملأ المستغنين المستكبرين...
فجاء وصف اليوم ب"الصاخة" التي يعلو صوتها على كل الأصوات المتعالية بالقبليّة، المستعلية بناديها ...

يومها يفرّ كل قريب من قريبه وكل حبيب من حبيبه، فإما وجْهٌ مسفر ضاحك مستبشر صاحب قلب أبصر في أيام الدنيا وإن عمي بصره ... وإما وجه مغبرّ مقتر، صاحب قلب عمي في الدنيا قلبُه وإن أبصرت عينُه ... !

فصوّرت عبس حال الإنسان يومها بتفصيل أكبر ...

**ثم جاءت "التكوير" ... تهزّ النفوس وهي تشقّ عصا طاعتها لما ألفت في أيام الدنيا من اطّراد الناموس ... فإذا السماء غير السماء وإذا الأرض غير الأرض ... وإذا الإنسان يومها عالِمٌ بما أحضر ...

جاءت التكوير بالقسم على نصاعة المنهج وربانيّة مصدره، المنهج المنزّل عبر الرسول الطاهر الكريم من ملائكة رب العزة على الرسول الطاهر الكريم المصطفى من عباده سبحانه ... وأنه الحق والبيان والطُّهر الذي جاء ليغسل الإنسان من أدرانه حتى يُحضِر بين يدي ربّه ما يرقّيه للفوز بجِنانه ... جاءت التكوير لتؤكّد أنه الوحي من رب السماء هو وحده المُنجي يوم تُكشَط السماء عن عالم الحياة الآخرة ...

**ثمّ تأتي "الانفطار" لتزيد في تفصيل ما يُحضر الإنسان في ذلك اليوم العظيم، فإذا عِلمُه بما أحضر هو علمُه بما قدّم من خير مُنْجٍ وما أخّر من خير هو البضاعة الرائجة التي فاز أكثر من حاز منه أكثر ...
وأنّ من نسي في أيام الدنيا فضلَ ربّه عليه خلقا من بعد خلق، فسدر في غيّ وضلال إنما مردّ غروره وغفلته تكذيبه بيوم يلقى فيه أعماله من دأب حافظين كرام كاتبين وكّلهم الله بعبده برهانا على خلقه لجزاء من ربه يعقب عملا منه، لخلقه لهدف لا لعبث... فإذا نِتاج الكاتبين الحافظين قسمان ... أبرار في نعيم وفجّار في جحيم...

**وها هي "المطففين" بين أيدينا ... بعد سور زاوجت كلها بين أحوال لأيام الدنيا مقابل أحوال لليوم الآخر ... أحوال تطال الكون المسخَّر، والإنسان المسخَّر له ...

جاءت لتأخذ هي الأخرى نصيبا من تسلسل في المعاني وتصاعد في التفصيل والبيان...
وإننا نجد الانفطار وقد حدّثت عن الحافظين الكاتبين، وأنهم ليسوا إلا الملائكة الموكّلين من رب العالمين بالحفظ والكتابة، والذين اختصّهم سبحانه بعلم ما يفعل الإنسان: "يَعْلَمُونَ مَا يَفْعَلُونَ" ...

نجد المطففين بالمقابل تزيد في تفصيل الأمر وهي تحدّث عن المكتوب لهم ...
تفصّل في شأن الأبرار والفجّار المُشار إليهم بالاسم وبالمآل في الانفطار : "إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ** وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ" ...

جاءت تفصّل في شأن كتب كلّ من الفئتَيْن بعدما أشارت الانفطار إلى كتبة هذه الكُتب ...

فتقشعرّ أبداننا وترتعد فرائصُنا من خَبث وقذارة وانحطاط كتاب الفجّار المرقوم فسادا وشرا وسوءا وسَوْءة، ومن سجّين هو الضيق والسّفل والويل والثبور...!

وتستبشر قلوبنا بنورانية كتاب الأبرار المرقوم خيرا وبِشرا ...

في المطففين جاء ذكر "حافظين" ولكن في مقام النفي على خلاف مجيئه في الانفطار في مقام التأكيد ....
جاءت "المطففين" تنفي أن يكون المجرمون الضاحكون من المؤمنين أيامَ الدنيا حافظين عليهم وهم يصفونهم بقولهم الدنيويّ المستعلي :"إِنَّهُمْ لَضَالُّون"...

لقد بينت لنا التكوير مع رديفتها الانفطار أنّ الله تعالى وكّل بأمر وَحْيِه الرسول الكريم من ملائكته، كما وكّل بأمر الرسالة وأدائها والدعوة والقيام بها الرسول الكريم من عباده ... كما وكّل بأمر حفظ أعمال عباده الكِرام الكاتبين من ملائكته .... فما من حفظ بعدها لأحد على أحد ...

هذا من وجه ارتباط المطففين بما قبلها، وتحقيقها للتسلسل والتفصيل المتصاعد ...

أما من وَجْه موضوعها الذي افتُتحت به وعالجتْه، فقد جاءت عن سلوك وخُلُق اجتماعيّ، عن حركة في الأرض وتعامل، على غير عادة القرآن المكّي الذي جاء للعقيدة ولترسيخها ولتفصيل مقتضياتها ... بينما عُني المدنيّ بالتنظيم الاجتماعي والسلوك والتشريع ...

جاءت "المطففين" النازلة بمكة على غير عادة ما نزل بها وسط قوم كان أول وأساس ما دُعُوا إليه توحيد الله ونبذ الإشراك به، كان التمكين للعقيدة الصافية السليمة في قلوبهم، ولكنها نزلت بمكة، على القوم المشكرين، والدولة الإسلامية لم تقم بعدُ، وأرض مكة مصرّة على نبذ الدعوة والداعي ...

وعلى غير نبض سُوَر هذا الجزء الأخير التي حدّثت عن اليوم الآخر من ناحية العقيدة وثمرتها إجمالا، جاءت تحذّر من سلوك اجتماعيّ ذميم ...
عن التطفيف ... عن إخسار الموازين ...
فهل انفصلت بذلك حلَقَتها عن أخيّاتها فانفرط التسلسل، أم أنّها زادت قوّة في الاتصال وأحكمت بتواجدها تماسك باقي الحلقات ؟!

لقد جاءت حلقة واصلة من وجه التفصيل في موضوع اليوم الآخر، ومن وجه بيان حقيقة المنهج الذي جاء في التكوير ربانيّة مصدره ونصاعته...
جاءت "المطففين" تبيّن أنه الواقع والحركة في الحياة، وأنه لتحقيق العدل ولحفظ حقوق الناس، ولإذهاب الأنانية والشراهة في الإنسان، فيُنكَر عليه حبّه الاستيفاء لنفسه فيما يُبخِس غيرَه حقه، ويُنقصه ...!

جاءت لتؤكّد أن هذا المنهج الربانيّ الناصع لم ينزل ليكون عقيدة مجرّدة عن الحياة وحركتها، بل جاء ليُذهب الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين، وليحقق العدل وليكرّس لإسداء الحقوق لأهلها... جاء ليصنّف البَرّ بَرّا والفاجر فاجرا لا من مجرّد الاعتقاد أو عدم الاعتقاد بل من العمل بذلك الاعتقاد وتحقيقه على الأرض سلوكا قويما وعدلا مقيما ...

جاءت "المطففين" لتبيّن أنّ الطُّفافة الضئيلة الحقيرة التي هي أقلّ القليل إذا كانت للغير فهي من حقّه، وأخذُها اعتداءٌ وإثم مبين... يستحقّ أن يُتوعَّد آخذها بالويل، وأن يُخوَّفَ من مغبّتها بذكر الفجّار وما ينتظهرهم، أولئك الذين فجروا إذ أنكروا البعث وكذّبوا بيوم الدين، فلا يدفع عن المسلم أن يكون مسلما وهو يطفّف، بل إنه وهو يفعل ويغترّ بالكثير الذي يُجمع له من الطُّفافة المغتصَبة على الطُّفافة، والرّان على قلبه في كل مرة تتسع رقعتُه حتى يعمّ القلب ويطمّ على منافذ الهدى فيه لمعدودٌ حاله كحال المكذب بيوم الدين ... !

لقد جاءت "المطففين" تومئ إلى أن هذا المنهج القويم الذي يشدّد على أن القليل المغتصَب جريمة، الكثير منه والكبير مشمول بها معنيّ بها وقد شملتْه وعنتْه...

إنها الحلقة الرابطة الأقوى في سلسلة العقيدة والاعتقاد وهي تؤكّد أن الاعتقاد لا يتجرد عن العمل والسلوك... بل إنه الذي يحققه ويوجد حياته ... !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #113 في: 2019-09-25, 09:16:54 »
سورة الانشقاق ...
عرفنا مع السور التي سبقتها أحاديث عن الانقلابات التي تلحق بالكون يوم القيامة ...حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في التكوير : "من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كوّرت"...

عرفنا في مجموع سور هذا الجزء الأخير حال الإنسان يومها...
فإذا هو متذكّر لما سعى، وإذا هو فارّ من أخيه وأمه وأبيه، وإذا هو عالم بما أحضر، وعالم بما قدّم وأخّر، وإذا هو قائم لرب العالمين في يوم عظيم ...

وعرفنا أنّ الناس فئتان، طاغون تترصد لهم جهنّم، ومتّقون فائزون بالنِّعم...مؤثرون للحياة الدنيا، وخائفون مقامَ ربهم فناهون النفس عن الهوى...
أصحاب وجوه مسفرة، وأصحاب وجوه مغبرّة ...
أبرار في نعيم وفجار في جحيم ...

ثم عرفنا في سورة "المطففين" أكثر ما عرفنا عن كتاب كل فئة، فكتاب في سجين، وكتاب في عليين ...
لتأتي "الانشقاق" ... وهي تحمل في مطلعها كسابقاتها عن تلك الانقلابات الحاصلة في الكون ... مع ما يميّزها عن سابقاتها، كحال كل سورة من سور القرآن وهي تَشي بسَمْتِها الخاص، وتلقي بظلّها الخاص ...

تأتي الانشقاق وهي تحدّث عن بعض تلك الأهوال التي تغشى السماء والأرض، ولكن بخصوصية... خصوصية الانقياد التام والطاعة الكليّة لأمر الله تعالى من مخلوقات له غير عاقلة، فعن السماء: " وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ "، وعن الأرض سواء بسواء : "وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ"
إنهما تسمعان وتطيعان، وحقيقٌ بالإنسان ذي العقل والبيان، وأولى أن يسمع هو ويطيع أمر مَن خلقه فسوّاه فعدّله ...

ونَمضي مع سَمْتها بإقرار طاعة المخلوقات لخالقها وانقيادها لأمره ... لنلامس ميزة لها أخرى هي فارق آخر بينها وبين غيرها من سُوَر هذا الجزء الأخير ...
إنها تحدّث عن إيتاء الكتاب...
وقد حدّثت "الانفطار" من قبل عن أبرار وفجار، وأسهبت بعدها "المطفّفين" عن كتاب الفجّار وكتاب الأبرار، ليأتي هنا دور الحديث عن حال الإنسان وهو يُؤتى كتابَه ... !

إنها نهاية المطاف، وثمرة اللقاء المحتوم :"يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ "
إنه الحال عند معرفة المآل ... فمُؤتًى كتابه بيمينه، محاسباً حساباً يسيراً، منقلبا إلى أهله مسرورا ... ومُؤتًى كتابَهُ وراء ظهره، داعيا ثبورا، مصلًّى سعيرا ... ذاك الذي كان قريبا في أهله مسرورا ...

وأيّ بَون شاسع هو بين مَن سُرّ في الدنيا وهو لاهٍ عن ربه، مكذّب ببعثه بين يديه، وبين ذاكر ربّه، موقن برجعه، فسُرّ يوم يدوم السرور ولا ينقطع ...وَيْكَأنّ السرور الحقّ هو سرور الفوز عند اللقاء الحقّ...

ثم نمضي مع آياتها ليقابلنا القَسَم، القسم بأحوالٍ في السماء كانت في الدنيا، من بعد ما عرفنا أحوالها في مستهلّ السورة بعد انتهاء الدنيا...
الشّفق، واللّيل وما وسق، والقمر المتّسق ... وهكذا دأب القرآن ...
نجدنا في قلب يوم القيامة وأهواله، وأحواله، ثم نعود إلى الدنيا على مسافة آيات ... ولَكَأنّنا نستشعر قُرْب يوم الدنيا من يوم انتهائها، نستشعر قِصرها ونحن ننتقل بين اليومين انتقالا يُشعرنا أننا نراه بعيدا، وهو عند الله قريب قريب ...... قريب متحقق ...
وأنّه مهما بدا مُكُوثُنا في الدنيا لأعْيُننا طويلا فإننا مُلاقوه : " يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ "...

مهما بدا لنا طويلا فإننا منقلبون من حال إلى حال، من صغر إلى شباب، من شباب إلى كهولة، من كهولة إلى شيخوخة، من يسر إلى عسر، من عسر إلى يسر، من نجاح إلى فشل، ومن فشل إلى نجاح ... وكلها لا تُنال إلا بالجدّ والتعب، والانقلاب بين أطوار وأحوال .لا يركن غنيّ لراحة وهو يلهث خلف ثروة يجمعها إلى ثروة... وهو يخشى القهقرى، كما لا يركن فقير إلى راحة وهو يسعى سعيَه ليسدّ حاجة له ... كما لا يرتاح ناجح، ولا يرتاح فاشل ... !
وكلها الكدح ... الكدح والتقلّب بين الأحوال طبقا عن طبق ...

إننا لَنَلمح العَوْد على البدء، وهو سبحانه يُقسم بأحوال السماء في الدنيا أن الإنسان لا محالة متقلب بين الأحوال والأطوار ... من بعد ما عرفنا ذلك في بدايات السورة وهو سبحانه يُتبع انقلاب أحوال السماء والأرض بالتأكيد على أن الإنسان كادح كل كدحه في الدنيا وهو لا مناص ملاقٍ ربه في مطافه الأخير : " يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ "
إذن... فإنّ من أهمّ سمات السورة بيانها أنّ الإنسان بكلّ حال هو عليه، ومع كل طور هو فيه، ومع أي اعتقاد هو متبنّيه، وبكل عمل هو عامله، إنما هو كادح وكادح فمُلاقٍ ربه لا ريب ... سواء في ذلك من آمن وأطاع وعمل صالحا، أو من كفر وعصى وعمل سيئا ...
شاء أو أبى، رضي أو سخط، آمن أو كفر ... هو ملاقٍ ربّه ملاقيه ...
فما أشدّ غباءه وما أشدّ إهلاكه نفسه وهو لا يؤمن، ويختار أن يكفر ويسدر في غيّه الذي لن يغنيه من لقاء ربّه شيئا ...

فيا أيها الكادح كدحَك... يا أيها الراكب طبقا عن طبقا ... إنك ملاقٍ ربك ملاقيه ...!

ويحضرني الملاحدة المتكؤون على الأرائك، المتنادون بألّا إله ... وبأنّ الإيمان غباء وجهالة وسفاهة ... وبحثّهم الخُطى من خلفها الخطى لنشر الإلحاد وإبعاد الناس عن الإيمان بربهم ... إنه كدحكم ... وإنكم تالله ملاقوهُ ملاقوه ... : " فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ(21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ(23) فبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) "
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #114 في: 2019-09-25, 09:18:56 »
سورة الطارق ... قليل في حقّها كلّ مدح ... مقصّر بحقّ جمالها وجلالها وعظمتها كلّ وصف ....
انسجام غريب عجيب بين ألفاظها على اختلاف السياق المنتَقَل إليه من السّياق، وانسجام غريب بين إيحاءاتها من بدايتها إلى نهايتها ...

إنها لتُحقّق بجدارة معنى جوامع الكلم، كما تجسّد تكامل أطراف الصورة، حتى لكأنها القطعة تركّب إلى القطعة لترسم المنظر الكليّ المتناسق كل التناسق، المتّسق كل الاتساق...

فلنتأمل ...

يُقسم سبحانه بالسماء العظيمة الرّحيبة ...مقرونة بـ : "الطارق"، ويعقب القسمَ سؤالُ إكبار وإعظام لهذا المسمّى بـ: "الطارق": " وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ" . ليأتي الجواب كعادة هذا السؤال في مواقع من القرآن، يتلوه التعريف بما أُكبِر مَقامُه، وأُعلِي شأنُه حتى كان مُقسَما به : " النَّجْمُ الثَّاقِبُ"

إنه النجم الذي يخترق بضوئه ظلمة الليل، ويطرق هَدْأته، فُيبرز في غمرة العتمة والسواد الغاشي... حتى كان وصفه بالثاقب...
فكأنما قد ثقب بالضوء السوادَ، كشأن الشيء المخترِق صلابة أو سماكة، لتستشعر فيه القوة، والقدرة على النفاذ...
أقسَمَ سبحانه بالطارق الثاقب أنّ كل نفس مخلوقة عليها حافظ يحفظ أعمالها ...

وهنا يجدر بنا التأمل ...
فأما المُقسَم به فهو الطارق الثاقب ظلمة الليل بضوئه، وأما المقسَم عليه فالحافظ لعمل كل نفس ... وما يحفظ وما يعدّد وما يسجّل إلا وقد خصّه الله تعالى بالعلم... العلم بكل ما يعمل الإنسان، بما يُسرّ، وبما يُعلن، بما يُكنّ وبما يُظهِر ...

أليست هي عتمة النفس، وأغوارها السميكة، ودخائلها البهيمة، ونواياها... وحقائقها...وما يخفى منها، ولا يعلمه غير الله الذي وكل بها حَفَظَة يعدّدون عليها عملها ...؟!

أليس هو ذلك الاختراق، والنفاذ إلى الأعماق العصيّة على البشر... ؟!

أليس هو الحافظ الذي يُخالط الأنفاس، والفِكرة والخَطْرة، والحركة والسكنة والنّأمة، فيخترق الطبقة من النّفس من ورائها الطّبَقة ... وهو ينفذ وينفذ، فيبلغ الأعماق السحيقة، وهو يكتب ويسجّل ويحفظ ...

سبحان الله ... !

إنّ المُقسَم به والمُقسَم عليه لا تبعد صفة الواحد منهما عن صفة الآخر، وإن كان الأول زائر السماء العليّة، والثاني مُخالط أغوار النفس البشريّة، الموغِل بعلمه في أعماقها، كما أوغل النجم بضوئه في عتمة السماء...! فطارق في السماء ثاقب، وطارق في ظلمات النفس ثاقب، يخترق خفيّها المعتم بضوء من علم خصّه الله به، ومن عمل أوكَلَهُ له...
بل إنّ عقلي ليلمح الثَّقب، ولَيسمع الطرق في هذه السورة لا على مستوى معانيها وسياقها وحسب، بل على مستوى اللفظ وموحياته ...

تأمل ... تأمل قوله سبحانه :"والسماء والطارق" ...

وصفحة السماء يتداول عليها الضوء والظلام ... يتعاقبان، فساعات هي الصفحة المضيئة إيذانا بالنهار، وساعات هي الصفحة المعتمة إيذانا بالليل ..
فما أروع قرن السماء باسم "الطارق" ...

هذا اللفظ الذي يفعل هو ذاتُه -كلفظ بين الألفاظ- فِعْل الطارق الثاقب ... وهو يطرق مجال التصور العقلي لينفذ إلى العقل فيضيئ أنه أوان الليل لا من لفظ "الليل" بل من لفظ السماء المقرون بالطارق... ! عندها يستقرّ فهمنا على الليل دونما شكّ أو ريب.

وتالله مازالت سياحتي في عالم سورة الطارق مستمرة...!
في جمالاتها ...في رونق إيحاءاتها، وتناسب وتناسق سياقاتها المتلاحمة باللفظ كما بالمعنى ...

لأرقب السماء البعيدة عن ملمسي والنفس التي هي بين جنبيّ ...
أرقب فعل الطارق في البعيدة وفعل الحافظ في القريبة ...
وأتأمل غياب لفظ "الليل" عن سياقٍ حاملٍ لمعنى الليل وما يدور فيه ... لأكتشف بعد نظر أن مجيئ "السماء" أشمل وأعمّ وأليق بكثير بما يُراد من معنى ..

وأنت إذا قابلتَ النفس التي يعمل معها الحافظ عمله، وجدتَها كالسماء... منها الظاهر المضيئ المؤذن بنهارها، وهو ما بدا للناس منها فعلموه، ومنها المُعتِم الذي خفي منها عنهم فجهلوه ... فكان للحافظ عمله بحفظ الأعمال ما بدا منها وما خفي، كما يليق بلفظ "السماء" وهي توحي بالحالين الضوء والعتمة... النهار والليل ...

وَيْكأنّ نفسي المنطوية على سرّها ليلٌ خِلْتُه البهيم حتى طرق الطارق سكونه، وثقب عتمتَه...!

وَيْكأنّني وأنا أرقب السماء أرقب صفحة نفسي، وكأنني وأنا أرقب نفسي أرقب صفحة السماء...!!

ويُشدَهُ عقلي حيال هذا الحُسن وهذا البهاء..! حيال هذه الروعة في تركيب اللفظ للفظ، ومقابلة اللفظ للفظ في تقلب بين معنى ومعنى، ومُراد ومُراد غيره... ولكنّ الاتساق والتناسق لا ينفكان قائميْن ...

ولكأنّ كل خيط فيها يُشدّ إلى الخيط، لا تتقطّع بالخيط منها سبيل ... بل كلّ فيها ميسّر لما جُعِل ...منظم مرتّب... مهتد غير ضال ولا مُضلّ... !!!

ونمضي ... فإذا قوله تعالى : " فلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ"...
ويسبقني النظر في موقع هذا الأمر بالنظر..

يسبق نظري في نفسي مِمَّ خُلِقَتْ نظري في موقع الآية من السورة، موقعها من حديث الحافظ وما يحفظ من عمل ... ما العلاقة ؟؟ ما وجه الارتباط ؟ لمَ الأمر بالنظر والتوجيه إلى النظر تِلْوَ حديث الحافظ ؟
لأجد عقلي يستدلّ ليجيب ... ويالروعة هذا الحثّ والدفع لآلة العقل أن تعمل ... ! وهذا دَيْدنٌ في القرآن لا يُستهجَن فيه ولا يُستغرَب ...

أوَليس الحافظ هو الذي يسجّل على النفس أعمالها كلها ؟
وَلِمَ هذا التسجيل ؟ أليس ليكون مادة العرض يوم العرض بين يدي ربّ العالمين ؟ أليس هو مادة الكتاب الذي ستقرأه كلّ نفس، لتعلم ما أحضرت، لتعلم ما قدّمت وأخّرت ؟! أليس هو محور الحساب يوم البعث ؟
بلى ... بلى ... وما حِفْظُ الحافظ لعمل النفس إلا لهذا ...

وهكذا يستدلّ العقل باللفظ الواحد: "حافظ" على يوم البعث ...

أليس هذا ثقبا جديدا في عالم العقل واستدلالاته وتصوّراته، وما يُراد له أن يبلغه من معنى ؟ أليس اللفظ البعيد المغاير قد طرق وثقب طبقات العقل، وغُرَفَ الذّهن ليَعِي المطروقُ عقلُه أنّ "الحافظ" نجمٌ طارق في عتمة العقل يضيء بمعنى البعث ؟
ولا تنفكّ سورة الطارق طارقة ثاقبة...! في صفحة الكون تارة، وفي صفحة النفوس تارة أخرى، في أُولانا تارة، وفي أُخْرانا تارة أخرى ...

ولأنه الإيحاء بالبعث، ولأن المكذّبين بالبعث في كل زمان... فهذا توجيه الله الإنسان لينظر... لينظر ممَّ خُلِق... وأنّ الذي خلقه على ذلك النحو، وبتلك العظمة والقدرة والتقدير أقدر على بعثه : "خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ(6)يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ(7)"

وإنني أسترسل مع السورة لا كشأن الذي يسترسل مع الآيات مفسّرا، بل لأنّ الطارق بشكل خاص تنبض بنبض واحد، وتتوحد أطرافها تحت سَمْتٍ واحد، وتتشارك أجزاؤها الصورة الواحدة... الصورة الواحدة التي تتقلب بين المعاني المختلفة لتبقى بميزتها ذاتها ..."الطارق" "الثاقب"

خَلْقُ الإنسان من أخلاط ماء الرجل والمرأة(الأمشاج)، ذلك الماء الذي صِفَتُه الدّفق، وفي الدفق قوة، وفي الدفق قدرة على النفاذ، وعلى الاختراق، ويزيد تأكيد هذا قوله سبحانه : " يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ "...

و"الصُّلْب" وحدها تشي بالصلابة والقوة، وهو في الإنسان ذلك العمود الذي تتوضع عليه الفقرات الواحدة فوق الأخرى، و"الترائب" هي مجموع عظام الصدر التي تلتقي لتشكل القفص عظمةً بمقابل عظمة، تُماثِل الواحدة منها نظيرتها كل المماثلة، حتى سميت ترائب، جمع "تريبة"...

وإني لست ممن يتكلفون الإعجاز العلمي في القرآن حتى يبدو إسقاط نصّه على الحقيقة العلمية افتعالا، ولكن بالمقابل لا ننكر ما كان من الحقائق العلمية صادعا بمعنى النص القرآني .... إذ إنّ الدعوة للفصل الكليّ لنصوص من القرآن تحدّث عن الكون أو عن الإنسان وخلقه عمّا يقرره العلم دعوة مُجحفة تقارب القول بأن القرآن لا شأن له بوصف المخلوقات سواء منها الكون أو الإنسان.

إن علم الأجنة Embryology الذي هو علم دراسة تنامي الجنين، وآليات تشكّل أعضائه وتطوّرها من طور له إلى طور، يؤكّد أن الجهاز التناسلي عند الجنين لا يأخذ مكانه المعروف إلا بعد أشهر من الحمل تقارب الأربعة أشهر، إذ إنّ لهذا الجهاز على وجه الخصوص منشأ، موقعه بين العمود الفقري والترائب الأخيرة من القفص الصدري، يكون فيه الجهاز في طوره الأول، ثم ينحدر وينزل منه إلى مستقرّه الأخير، ففي الذَّكَر كيس الصّفن حيث تتموضع الخصيتان، وفي الأنثى المِبْيضان...

وعلى هذا فإنّ أول منشأ الجهاز التناسلي هو هذا الموقع الذي هو بين الصلب والترائب ... فكان الوصف القرآني بأن الماء يخرج "من بين" وليس "من" ...
ذلك هو المنشأ الذي يخرج منه الجهاز، ليُزوَّدَ في آخر مرحلة من تموقعه النهائي في مكانه المعهود المناسب بشريان مغذٍّ يغذي الخصية وهي مصنع الماء في الرجل، ويغذّي المبيض سواء بسواء ...

فكان الوصف بـ: "يخرج" وصفا للخروج الأول، أي وصفا لمنشأ الجهاز ومصدر غذاء الماء المكوَّن فيه...
وهذه لمحةٌ علمية لم أجد بُدّا من ذكرها، حتى لا يبقى العقل متعلقا بتلك الالتباسات والأقاويل التي تجعل من هذه الآية دليلا عند المتقوّلين على مخالفة القرآن لصريح العلم ...
ثم أمضي من بعدها ... لأرى أنّ الطرق والثقب ممتثل من جديد، كما عرفناه في المعاني السابقة، مرة في صفحة السماء المعتمة، ومرة في صفحة النفس المعتمة ...

إنه ماء دافق ... يخترق الحُجُب ... يخترق الصلب، والصعب، من بين العظام القاسية الصلبة يسافر لينفجر ماء .... ولكأني به الماء المنفجر من الحجارة الصلبة الصلدة : " وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ "

إنها الحياة تتفجر من الصلابة ... الماء ... الحياة ..

الضوء يطرق ويبرز ويلمع في عتمة الليل، والحافظ يعلم في عتمة السرّ والطيّ والكتمان ... والماء يتدفق من بين الصلب والصلد وتنبثق الحياة من ظلمة الرَّحِم ...
سبحانه الذي قدّر أن تخرج الحياة من هذا العالم المظلم ... وهو سبحانه الذي وصفه بالظلمات في قوله :"... يخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ..." –الزمر:من الآية06-
سبحانه الذي هذا تقديره لخلقه الإنسان هو على رجعه أقدر : " إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ(9) فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ "

ونمضي قُدُما مع هذه السورة العظيمة ... ومرة أخرى لست أسترسل لأعيد فيها ما قال به المفسرون ... بل إنني لأجدُني معها من كمال إلى كمال ... من معنى إلى معنى آخر ولكن تحت لواء واحد ... أسمع النبض ذاتَه، أتبيّن الأوصاف ذاتها ...
فلنتأمّل مجدّدا : "وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ(11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ(12)"

وآية قبلها جاء فيها : " إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ " ...
فانظر .... انظر إلى الاتساق، والموافقة، والمناسبة ... انظر إلى اللفظ وهو يعقبه ما هو من جنسه : "رجعِهِ" و "الرّجع"...
السماء ذات الرجع .... والرجع عند العرب "المطر" ...

وهذا قَسَمٌ ثانٍ في السورة بالسماء أيضا، ولكن هذه المرة برجعِها ... وقد جاء المطر هنا بهذا الاسم تحديدا، مناسبة لما قبله من حديث عن الرجع والبعث وقدرة الله عليه من بعد ما بيّن كمال قدرته في خلقه الأول...

وما المطر في أصله ؟ أليس ماء الأرض المتبخّر الصاعد إلى السماء، المتكثف ليعود فيتشكل مرة أخرى ماء ينزل من السماء ؟
أليس رجعا ؟؟ أليس بعثا جديدا لذلك الماء المتبخر من الأرض،ليعود للأرض ... ؟!
أليس هو البعث في صورة حسية ؟!

ثم الأرض ... وصفتها "الصدع"
والصدع هو الشقّ ، وهو مصدر بمعنى المفعول ، أي المصدوع عنه ، وهو النبات الذي يخرج من شقوق الأرض ...
ولنتأمل هذه الصورة مع الصورة السابقة، مع الماء الدافق، والحياة المنبثقة من بين الصلب، وفي عتمة الظُّلَم ...

الإنسان وهو يخرج للدنيا، وأصله ماء، ماء أنتج نبتة حية، ماء سقى أرضا، وما تلك الأرض إلا المرأة الحامل ...

أوَلَمْ يصف الله سبحانه الزوجة بالحرث حين قال: " نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ..." –البقرة: من الآية223-
فهي الحرث، وماء الرجل السُّقيَا، ذلك الماء الدافق...والمولود هو ذاك النبات المصدوعة عنه تلك الأرض المحروثة ... !

بل وأكثر .... بل وآكَد، بل وأعظم دلالة وأسطع بيانا وهو سبحانه القائل : " وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا " –نوح:17-
نعم يا رب... من الأرض... !
فأُمُّه التي تحمله بين أحشائها وضلوعها، ليس أصلها إلا ترابا، وأبوه الذي سقى الزرع بمائه، ليس إلا ترابا ... يُحرث الحرث، ويُسقى التّراب ليُنبت ... !!

هذا القسم العظيم على : " إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ " ... القول في البعث، في الرجع، كرجع السماء للماء ... بعث الماء المتبخّر من الأرض ماء يرجع إليها من جديد حياة جديدة ...
كخروج تلك الحياة من تلك الظلمات بتدفق الماء من بين صلب أجزائها...

كاختراق الحافظ لحُجُب النفس وهو يسجّل أعمالها لتُعرض من جديد في يوم فيه الحياة منبعثة بعد الموت ...
كاختراق ذلك الطارق لأستار الليل البهيم بنور لا يلبث إلا يسيرا لينبعث ضوء النهار من جديد ... حياة وحركة من بعد سكون وهمود....

يا ما أروع الطارق الثاقب في قلب الظلمات ليؤذن ويُعدّ لانبعاث الحياة من جديد ... في السماء، وفي النفوس، وفي ظلمات الرَّحِم...

ويا ما أروع البعث والرجع بين يدي ربّ العالمين، والحياةُ بأطرافها وحركتها تحاكيه في كل حين ... من بعد مرحلة الإيذان بالطارق ...

ولادة جديدة في كل لحظة، من قلب الظلمات ... نهار منبعث منفلق من قلب الظلام وأوج اسوداده... ماء منبعث من السماء من بعد ذهابه من الأرض ...
إنها سورة "الطارق".....
تلك التي لا يسع المؤمنَ بعد تأمّل آياتها، وسياقاتها، واتساقاتها، إلا أن يوقن بأنّ كيد كل كائد لهذا الدين، إنما هو الهَمَل والهباء، والجُفاء والغُثاء... !!
كيف لا ؟... والقادر سبحانه، والباعث سبحانه يُمهله ويمهِّلُه ... وليس بمُهمِله وهو يحصي عليه كيده حبة بحبة وقطرة بقطرة ... ليلقاه يوم البعث، يوم يُرجع إلى ربه ... يوم يرى البعث الذي كذّب به بأمّ عينه ...!! " فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا " ...
« آخر تحرير: 2019-09-25, 09:23:01 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #115 في: 2019-09-30, 09:18:57 »
سورة الملك ...

تُفتتح هذه السورة العظيمة بقوله سبحانه يصف ذاته العليّة : "تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ "
لا تشبيه ولا تمثيل، سبحانه، المُلك كله قبضة يده... كناية عن القدرة الكاملة، والعظمة المتناهية. حتى أن الكون بما فيه عنده قبضة: "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ" –الزمر:67-

... فنقرأ أول ما نقرأ بعدها ما يزيد في بيان طلاقة هذه القدرة :" وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " .
قدرته التي نمّت عنها تلك القبضة الإلهية العظيمة، ليست قدرة محدودة، بل هي قدرة طليقة لا تحدّها حدود، وليس شيء من الأشياء بمعجِزه سبحانه ...

إنه الملك سبحانه، والملوك مِلْء الأرض زمانا ومكانا، ولا يُعرف عن أحدهم أنه الذي قدر على كل شيء ... بل إن ملكه مهما بلغ لن يتعدى حدود مكان هو حاكمه، بل إنّ ما هو تحت حكمه وأمره، لا ينفي أن يكون فيه لرعيّته ما يملكون وليس له أن يملكه ...
سبحانه الملِك القدير ... الذي لا تحدّ قدرتَه حدودٌ ...

وإنّ أبرز وأهمّ ما يختصّ به المَلِكُ سبحانه ...الخَلْق...

وليس يخلق غيرُه ...وإنّ أول ما يتبادر إلى الذهن مع قضية الخلق، خلق الإنسان، وخلق الكون بما فيه بسماواته وأرضه، وأفلاكه، وكواكبه ومجرّاته، وبجباله وبحاره، وبكل ما فيه ... ولكن لن يتبادر إلى الذهن ما ذكره الله سبحانه في هذه السورة من خلقه... بل إنه الجمع الوحيد في القرآن كلّه بين هذين المخلوقين اللذَين لا يخطران على بال الإنسان أول ذكره لقضية الخلق ...

"الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ"
لم يأتِ هنا ذكرخلقه للإنسان ولا للكون، بل جاء خلقُه لعوارض تعرض لمخلوقاته...الموت والحياة ...

فلنتأمل ...
إننا عندما نتحدث عن قضية الخلق، لا نفكر معها إلا بما يوجده الله سبحانه لأحد أمرَيْن، إما لتُبثّ فيه الحياة فيحيا، أو ليكون سُخرةً للحيّ والحياة ... خَلْقُهُ الإنسانَ والنباتَ والحيوانَ، مخلوقات تُبث فيها الحياة لتحيا.

أو خلقه للجبال والبحار والشمس والقمر والنجوم وغيرها من كلّ مسخّر لحياة الإنسان ...
ولكن في هذه السورة تحديدا وحصرا يذكر الله تعالى خلقه للموت والحياة، وخلقه للموت بوجه خاص هو الذي يلقي على النفس ظلالا من الرهبة والهيبة، والإكبار لهذا المعنى العظيم، ظلالا من التساؤل عن خلق الموت... وأيّ سِمة في الموت تجعلها تدخل تحت أحد الأمرَيْن السابقَيْن ؟!
أهي المخلوق الذي ستبثّ فيه الحياة ليحيا، أم أنّه الذي سيسخّر للحياة ؟!
كلاهما لا تدخل الموت في دائرته ... إنها الموت ! خلق الموت ...بل وإن ذكر خلقها لسابق حتى لذكر خلق الحياة ... !

تأمل معي ... أليس سبحانه قد خلق الموت هي الأخرى للحياة، وقد خلق الحياة للموت ...؟!

بلى... بلى... قد خلق الموت لتكون نهاية الحياة...
لم يخلق الحياة وحدها، بل خلقها وخلق معها الموت، لتكون الحال الذي يعرض للحياة فيُعدِمها، كما خلق الحياة أيضا للموت، لتؤول أخيرا إلى الموت ...

ولولا الموت، لما تحقّق للدنيا أن تكون دار ابتلاء : " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا " .
إنه ذلك الفاصل بين الدارَيْن، دار العمل، ودار الجزاء ... دار عمل لم تكن ولم يُخلق فيها الإنسان إلا ليُبتلى، ودار جزاء على ما كان من ابتلاء، فكان الموت بمثابة القطار الذي ينقل من دار إلى دار ...!

ومَن ذا يقدر على الإحياء والإماتة غير الله...الملك سبحانه .... ؟!

فذاك النمرود حينما تبجّح وتشدّق ردّا على إبراهيم عليه السلام : " إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ "... لم يسعه وإبراهيم عليه السلام يسأله أن يأتي بالشمس من المغرب إلا أن يُبهَت ...!

فإن الملك بين الملوك وإن كان أقدرَهُم وأوسعهم ملكا، وأبسطهم علما وجسما، لن يقدر على إحياء أو إماتة ...
وحده سبحانه الملك الذي هو على كل شيء قدير، ومَن ذا سِواه يقدر على الإحياء والإماتة ... ؟!

وكأنما سبحانه قد قرن الخلق بهذين العارِضَيْن المخلوقَين لتستبين طلاقةُ قدرته على كل شيء بهذا الذي لا يُعجِزُه، بينما يُعجِز أقدر الملوك وأوسعهم ملكا وسلطانا في كل زمان وفي كل مكان ...

بل إنهما وهما مقترنتان، مع بيان الغاية من خلقِهما والغاية من خلق الإنسان: " لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا " قد جمعتا في سِعة تعبير عجيبة فريدة بأقل الألفاظ إيجادَه سبحانه للدنيا بالإحياء (الحياة)، وإعدامه لها بالموت، وإيجاده للآخرة بعد الموت... إنه بيان أنه ملك الدارَيْن سبحانه...

وسيأتي في لاحق من الآيات تفصيل من سورة الملك ذاتها لمعنى: "أحسن عملا" ...

والجَمالات والكَمالات ودقة استخدام اللفظ... تترا كلها في هذه السورة التي تستوقفني في محطات منها كثيرة ...

فأجدني أتساءل، ما سرّ الإتيان بـ: "الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" تحديدا دون غيرها من أسماء الله سبحانه ؟ لا بدّ أنّ لموقعهما مجتمِعَين مناسبة ...

أما "الْعَزِيزُ" فهو الذي لا يُغلَب ولا يُقهَر سبحانه، ولا يكون إلا أمره ...وهذا مناسب أيّما مناسبة للملك ...
إنه تأكيد على أنه الملك الذي لا يُقهَر، الملك الذي لا يُغلب وكل الملوك تُقهر وتُغلَب إن لم يكن بهزيمة حرب، فبالموت الذي يتساوى فيه ملك ومملوك .
كما أنه الذي لا يَغلِبُ أمرَه وإرادتَه شيءٌ من فعل عباده في الأرض...

فمهما بلغ ظلم ظالم منهم وتسلط متسلط و تجبّر متجبّر، فإنّ ذلك كلّه لن يغلبَ أمره وفعله وإرادته، وإن بدا أنّ الإنسان عائث في الأرض فسادا وإفسادا، وإن تنادى أهل الإلحاد والكفر بوجود إله بأنّ الشرّ الذي في الأرض لا يناسب وجود إله عليم رحيم ...

إنه سبحانه الذي جعل الدنيا، وخلق الإنسان فيها ليُبتَلى ...ولا يكون الابتلاء إلا بأن يتحرك الإنسان وِفق ما يختار من طاعة أو عصيان، لا يكون الابتلاء إلا والإنسان يعرِض للشرّ كما يعرِض للخير...
وأما "الغَفُور" فهي التي تناسب كل المناسبة :" أحسن عملا"...
لأنه ما من إنسان وإن بلغ من الطاعة والإذعان والإيمان ما بلغ، إلا وله أخطاء وذنوب لا يغفرها له إلا الغفور الرحيم سبحانه ... كما أن المسيئ التائب أيضا معنيّ بهذه المغفرة، بل وداخل في دائرة "أحسنُ عملا" ... أليس هو القائل سبحانه : "وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" –آل عمران:133-

ثم نمضي مع "الملك" ... فإذا وصف جديد من الله لذاته العليّة، وما نزال في دائرة الخلق : "الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ(3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ(4)"

خالق السماوات السبع طباقا، مماثِلةً الواحدة منها للأخرى، منطبقة عليها وصفا وخلقا، وكائنة بعضها فوق بعض طبقة فوق طبقة ...لا يلحظ الرائي وهو يصعّد النظر فيها ما يشي بتفاوت في الطبقات، أو شقّ فيها يشي بنقص في تركيبها، أو بنائها طبقة فوق طبقة ...
لم تُثقل السماوات الستّ على سمائنا الدنيا حتى نرى فيها شقا يؤذن باحتمال تساقطها من ثقل ما تحمل ...
وإنه يحضرني ما قال المشركون بلسان التحدّي لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا " ...
ولكأنّي بهم والأعين منهم ترى السماء المتماسكة، التي لا يعرفون فيها شقا ولا فطورا، مِن يقينهم بتماسكها وقوتها، ليس في علمهم بحالها ما يدعوهم لاحتمال سقوطها كسفا وهي المتماسكة المتلاحمة ... !
لكأنّي بهم وهم يعلنون اللجاج والعناد والتكذيب والتحدّي لا ينتبهون ليقين عندهم بقوة هذا المخلوق، الدال على عظمة الخالق ... !!

" ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ"
يالهذا الوصف، وهذا التعبير، وهذا التصوير البديع الدقيق... ! يالِوقوفي مشدوهة، منبهرة، مأخوذة بسحر هذا الوصف، ودقّة هذا التصوير، وأنا أراني وبصري شيئَيْن لا شيئا واحدا ...! ذاتَيْن لا ذاتا واحدة !
إنه البصر منّي ... ولكأنّه ذاك المنفصل عنّي ...

لكأنّي به ذاك الرّسول، وأنا المُرسِل ... لكأنه الكائن المتحرّك المنفصل عن ذاتي ... أُرسِلُه لينظر ... ثم من جديد لينظر.. ومن جديد ... ومن جديد ... عساه يأتيني بنبأ يقين عن فُطور من هنا، أو فطور من هناك ...
ولكنه يعود ... وليت شعري كيف يعود ... !

يعود خاسئا، خائبا، تعِبا كليلا من فرط ما أرسلته ... لكأنّي به يعود خاشعا ذليلا ... لا يملك بما أودِع فيه أن يعود بخبر عن خلل في السماء ...
إنه رسولي إليها ... وهو الجزء منّي، كأنه المنفصل عنّي ... هكذا يوحي وصفُه، وهكذا هي حقيقته ...

إنه المخلوق في الإنسان، كأنّه يذكّر الإنسان ، ويعود له حاملا فطرة فُطر عليها، حاملا إقرارا بإتقان الصانع، إقرارا بعظمة الخالق الذي خلقه ...لكأنه الجزء منه المقرّ بخالقه وإن جحد الإنسان وأنكر، وإن كذّب وكفر...

سبحان الله ... وكأنّه شكل من أشكال تبرئ جوارح الإنسان من الإنسان في الدنيا ... وهي التي تتبرأ منه يوم القيامة إن باء بالخسار والبوار -عياذا بالله- . أليس سبحانه القائل : " حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " –فصلت:20-

يتبع مع تأملات لي في سورة الملك بإذن الله ...
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #116 في: 2019-10-01, 07:59:27 »
ومع سورة الملك... نمضي الهُوَينى ..
إنه المَلِكُ سبحانه، الذي هو على كل شيء قدير، الذي خلق الإنسان وجعل له الحياة للابتلاء، وجعل له الموت لينقله إلى الحياة الأخرى حيث يُجازى على ما كان من ابتلاء... وقد فاز من أحسن عملا ، والملك سبحانه العزيز الذي لا يُغلَب، الغفور لعباده على ما فوّتوا وما قصّروا ...

إنّ رحمة الملك العظيم سبحانه لتُلوِّح، وإنّ فجرَها النديّ ليَلُوحُ على صفحة القلب ونحن في حضرة المُلك والقدرة ...
رحمته في إنعامه بالخَلْق المُتقَن البديع : "الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ "... وفي مغفرته لعباده ...

وسنبصر هذه السورة، وسنُرجع البصر فيها، فإن الرحمة لا تغادرها ...
ومازال حديث المَلِك سبحانه عن السماء، وهذه المرة يخصّص عن السماء الدنيا، لتستبين من بين السّبع الطِّباق : "وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ"

ويستوقفني ما في هذه الآية من زينة...!

إنّ الزينة التي توشّح السماء جمالا ونورا يخترق العتمة وكأنها حبات لؤلؤ قد برزت من صدفاتها ...تلك الزينة التي تأخذ الألباب هي ذاتها السلاح المُشهَر في وجه الشياطين المترصّدة لأخبار السماء.. وسبحانه القائل في ذلك: " وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ(16) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ(17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ(18)" -الحِجر-

إنها الزينة، وإنها هي هي السلاح ... !

تلك النجوم الحسناء البهية، شأنها كشأن القمر...
قد عرف الإنسان على مدى الأعصار أنّها آيات من آيات الجمال، حتى إذا وَصَف جمال أحدهم قال عنه : كأنه القمر ليلة اكتماله، أو قال عن المرأة المضيئة: كأنها النجمة ...
وليس بعيدا عن العقل الذي يقيس ويشبّه أنّ المشبَّه به أعلى قيمة من المشبَّه ... فالقمر والنجوم مضرب المثل في الحسن والجمال ...

وإنها المرأة الحسناء، وإنها النجمة الحسناء، بل الأكثر حُسنا ...
ولكنّ الأولى تُغَرّ بلا ثناء بَلَه إذا أثنِي عليها ! بينما الثانية على حسنها مسبّحة مع كل ما يسبّح بحمده سبحانه، وذلك أكبر شُغلها، أن تؤدّي ما لأجله خُلِقت، وأن تسبّح بحمد ربها. فهي الزينة، وهي الهادية لمن استهدى في طريق، وهي السلاح المُشهَر في وجه الشياطين حفظا للسماء ...

لنتأمل ...
أليست تلك نهاية الشياطين إذا ترصدت لخبر السماء ؟! أليس قد حال هذا الرجم بالنجمات المزيّنات دون استراقهم لخبر الملأ الأعلى ؟

إنه بهذا يحقّ لنا أن نفهم على وجه الجزم واليقين كيف أنّ الأمر في السماء محسوم لا ريب ولا مِراء، لا مكان للشياطين فيها ... مذ أخرِج الشيطان من الجنّة، مذ أهبِط الأرض مع المُهبَطَيْن آدم وحواء، والأرض مستقرّ الابتلاء ، ولا يُحسم الأمر فيها إلا بعد زوال الدنيا ... أليس سبحانه القائل : "قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ(36)قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ(37)"-الحجر-...

بل إنّ مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان موعد الإبعاد الكليّ للشياطين من ذلك الفضاء، فلم يعد لهم من مكان حتى لاستراق السمع ، وقد نقل لنا الملك سبحانه ما قالته ألسنة النفر الذين آمنوا من الجنّ : "وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا(8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا(9)" -الجِن-

لكأنّ البَدْءَ بذكر حال السماء مع الشياطين في هذه السورة الجليلة بعد بيان أن الغاية من خلق الإنسان إنما هي الابتلاء، قد جاء ليبيّن بترتيب واتّساق وتنظيم أنّ الابتلاء مضماره أهل الأرض لا أهل السماء...

ولنتأمل ... فإذا الآية الموالية تؤكّد ما كان، وهذا التمييز بين المُبتَلين من خلق الله (البشر)، وبين المسيَّرين من خلقه (الملائكة) ...

وإنّ كون الإنسان مخيّرا لا مُسيّرا لَمِن تكريم الله له... إذ لا يُخيّر ولا يكلّف إلا من عُرف أنه أهل للاختيار ولأداء الأمانة.
فلقد تبيّن لنا من رجم النجوم للشياطين أنّ الأمر في السماء محسوم، وقد طُرِدوا منها، وأُبعِدوا عنها في الدنيا، مع ما ينتظرهم من عذاب في الآخرة : "وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ" ...

أما أهل الأرض، أتباع الشياطين منهم وأولياؤهم، فإن أمرهم في الدنيا ليس بالمحسوم، لأن الأرض هي مضمار عمل الشيطان من جهة، ولأنّه الطرف الأبرز في معادلة الابتلاء من جهة أخرى... في معادلة امتحان الإنسان أيعصي ربّه سبحانه ويتّبع الشيطان وغوايته، أم يطيع ربّه ويرجم الشيطان وقد برزت في نفسه لآلئ النجوم الهادية المخترقة لعتمات الأرض تعمّ وتطمّ كلّما أوغل الناس في اتباع الشيطان، الرُسُل والأنبياء الهُداة ...

لنُرجع البصر في سورتنا العظيمة، في آياتها المتتابعات المتسلسلات، التي تفصّل التالياتُ منها السابقات ... هل نرى من فطور ؟!

إن العقل ليوقن في كل مرة، آية بعد آية أنه كلام الملك العظيم ... ولا يكون كلام كهذا إلا من ربّ السماوات والأرض، ربّ الجمال والبيان...
"وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"
ها نحن مع هذه الآية ننزل إلى الأرض ... ننزل إلى حيث الابتلاء ... وإلى حيث الموت والحياة، لا الحياة وحدها كحال أهل السماء ...
إلى دار الابتلاء ... إلى حيث لم يُحسَم الأمر... وكيف يُحسَم وقد تقرر أنها للابتلاء والامتحان ... ؟! كيف يُحسم وقد تقرر أنّ الشيطان مُنظَرٌ إلى يوم يبعثون ؟!
إلى أتباع الشياطين وأوليائهم ... إلى من كفر بربّه ...

إنه عذاب جهنّم، عذاب الدار الآخرة، وأما عذاب الدنيا للكفرة فليس بكائن، والأمر في الأرض يُحسَم يوم الحسم العظيم، يوم يُبعثون ..

ثم يأتي تفصيل في شأن جهنّم وحال أهلها فيها بتصوير ليست دقّته إلا للقرآن العظيم وحده : "إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) "

ومرّة أخرى، يضفي سبحانه على ما لا يعقل صورة الذي يعقل، فإذا جهنّم –أجارنا الله منها – نعرف فيها صفات الغاضب الذي يكاد يُفتّته الغضب...
"إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ..."

يتبع مع تأملات لي في سورة الملك بإذن الله.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #117 في: 2020-11-14, 10:17:09 »
تأمّلوا أمنيات سيدنا إبراهيم عليه السلام ... تأمّلوا شغله الشاغل، الذي ملأ عليه عقله وقلبه ما حيِي ... فلازمَه التفكير فيما يكون بعد ذهابه ... !
تأملوا "التفكير الإبراهيميّ البعديّ" الفريد ...!

لقد تمنّى الإمامة في ذريّته، كما جُعل هو للناس إماما ... لتستمرّ الإمامة للخير من بعده، وليطمئنّ على دوام التوحيد والدعوة إلى الله :
"وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ ..."
ولكنّه سبحانه بيّن له أنّه ليس شرطا أن تكون الإمامة في كل ذريّته، بل إنّ منهم ظالمين ليسوا لها أهلا :
"قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ"

وما يزال الخليل يلحّ على ربّه، وما تزال أمنيّته، وما يزال عليها مقيما، بل إنها لأوسَع وأشمَل... :
"رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ..."

يا ربّ... أمّة كاملة مسلمة لك ... !
هكذا فلتكن الأمنيات، هكذا فليتطلع المؤمن إلى عطاءات ربّه العظيم الواسع الكريم الذي لا ينقص من ملكه مقدار ذرّة وهو يعطي كل مَن سأل ...  هكذا فلتكن غاية أمانينا أن يدوم التوحيد في الأرض، وألا تنْبَتَّ صلة العبد بربّه الواحد الأحد.... هكذا فلنُجمِل في الطّلب.. ولتكن أمنياتنا للأمّة ... وللأرض قاطبة بالأمة المسلمة...
لقد دعا بالأمّة المسلمة ....  ولقد استجيب دعاؤه... ولقد كانت !!

ثم قال بعدها :
"رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "

ابعث يا ربّ من أهل هذه الأرض -حيث نرفع قواعد بيتك- رسولا ... ابعثه فيهم... ! لم يقل من ذريّتي، فلقد فقِه عن ربّه أنّ من ذريّته ظالمين، وأنّ عهد الله لا ينال الظالمين ... فدعا على الإطلاق والتعميم، لا على التخصيص،  برسول يُبعَث فيهم... فإن ما يهمّه وما يتمنّاه أن يُبعث رسول بالتوحيد والهُدى، لا أن يُختَصّ بذلك ذريّتُه دون غيرِهم...
فاستجيب دعاء الخليل وتحقّقت أمنيته العُظمى....

حقّق الله دعاءه بالأمّة، بل وجعل الرسول من ذريّته ... جعله إماما من ذريّته، وجعل الأمّة من ذريّته ...
فتأمّلوا صدق الداعي، وتأمّلوا كيف صدقه ربُّه لما صدق ... !
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: في ظلال القرآن :: 2016 ::
« رد #118 في: 2020-11-19, 10:12:24 »
"إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ۖ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ  حليم"  _آل عمران:155_

هذه الآية قوية...  وتضرب في أعماق النفس...  كل نفس!

ما الذي جعلهم يتولون؟! 
إنها ذنوبهم...!  إن الشيطان قد وجد إليهم سبيلا سهلا ببعض ما كسبوا،  ببعض ذنوب كانت منهم...  !
يجد منفذا سهلا فيمن كانت له ذنوب لم يتبرأ منها،  لم يتب منها... 

تخلص من ذنبك،  أقلع عنه...  تب توبة نصوحا...  فكلما تبت كلما صعب عليه الوصول إليك...!
لذلك كان الله توابا...  كثير التوبة على عباده...  ولذلك يوصى بكثرة التوبة،  وبسؤال التوبة من الله مرارا ومرارا  وبالاستغفار...!

حتى تُغلق دونه المنافذ،  وهو لا ينفك محاولا النفاذ إليك...  !

فلنتب ثم لنتب ثم لنتب...!
لذلك كان صلى الله عليه وسلم يستغفر الله في المجلس الواحد ويتوب إليه سبعين مرة...!
إنها تمحو..  !  إنها تسدّ المنافذ...! 

إنها تصعّب عليه الوصول...! 

ولذلك تلقى آدم من ربه كلمات...  فقالهنّ،  فتاب عليه...! تاب عليه قبل أن يُهبَط...!

ليُعلَّمَ أن التوبة سلاحه الماضي ضد عدوه الذي أهبط معه إلى الأرض...  ساحة الوغى...  ساحة حرب آدم لعدوّه...!
فلنعتدّ بالسلاح... فإنه لن يجد منفذا...!!
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب