المحرر موضوع: مختارات ...  (زيارة 282978 مرات)

0 الأعضاء و 2 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل ماما هادية

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 15899
  • الجنس: أنثى
  • احفظ الله يحفظك
رد: مختارات ...
« رد #60 في: 2018-03-06, 08:09:59 »
نعم
أنا أرى اننا في هذا النقاش، وفي نقاش آخر على مدونتك، وربما في موضوع التربية بالقرآن، وغيرها من مواضع، نتطرق دوما لإشكالية: من أين وكيف نبدأ
أظنها تستحق موضوعا منفصلا، لأنها هي التي تسبب دائما التشعب في المناقشات
والله اعلم
إن وافقتم فيمكن أن نشارك جميعا، بأن يبين كل إنسان تجربته المتواضعة، وما تعلمه منها، وما أثرها على رؤيته الحالية وخطته في العمل
وعلى هذا الاساس نقارب بين رؤانا إن شاء الله.. عسى أن نخرج بفائدة عملية

(لا يكفينا ان نقول: المنهج واضح في السيرة، فقد قرأت واستمعت للكثير في فقه السيرة ، وكل يأخذ منها وفق رؤيته وتجربته... وهذا من غناها ومرونتها)
*رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ*

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: مختارات ...
« رد #61 في: 2018-03-10, 08:33:54 »
للشيخ محمد الغزالي من كتاب : "الطريق من هنا" :


الحكم الإسلامى لا ينطلق من فراغ - بقلم : الشيخ محمد الغزالي

عندما كان موسى عليه السلام يكافح لتحرير قومه من ظلم الفراعنة واجه متاعب جديرة بالتأمل، وجل هذه المتاعب كان من قومه أنفسهم!.

أصدر اليهم الأمر أن يرحلوا من مصر فى ليلة موعودة، وأن يستخفوا تحت جنح الظلام متجهين شطر البحر الأحمر، واستجاب اليهود للأمر الذى أصدره قائدهم، فلننظر: أكانوا متلهفين للخروج من مصر؟ أكانوا متعشقين للحرية التى فقدوها؟ والأمان الذى حرموه؟ أكانوا كارهين لجو تذبح فيه الأبناء وتستحيا النساء ويصب فيه البلاء؟.

إن هذا ما يتبادر للأذهان.

غير أن الواقع غير ذلك، فإن بنى إسرائيل كانوا قد ألفوا الدنية واستكانوا للضيم على نحو ما قال أبو الطيب :

من يهن يسهل الهوان عليه .. ما لجرح بميت إيلام!

وقد نبه القرآن الكريم إلى موقف الشعب من القائد الذى يبغى تحريره قال تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم) إن بعض الشباب الحديث السن السليم الفطرة هو الذى اعتنق رسالة موسى، وقرر أن يقاوم معه الجبروت، ومضى مع أحلام المغامرة ينشد مستقبلا أشرف!.

أما الشيوخ وسواد اليهود فقد قيد مسالكهم الخوف ولم يتحمسوا لدعوة الحرية! وقد انكشفت خباياهم لما قرر فرعون ملاحقة الهاربين من بطشه، وخرج على رأس جيش كبير ليستعيد قوم موسى إلى السجن الذى فروا منه!!.

كانت مطاردة مثيرة، اليهود يشتدون نحو الساحل عابرين الصحراء الشرقية، وفرعون وراءهم يريد أن يدركهم.. ويصف الإصحاح الرابع من سفر الخروج هذا الموقف قائلا: " فلما اقترب فرعون رفع بنو إسرائيل عيونهم، وإذا المصريون راحلون وراءهم، ففزعوا جدا، وصرخ بنو اسرائيل إلى الرب وقالوا لموسى: هل لأنه ليست لنا قبور فى مصر أخذتنا لنموت فى البرية؟ ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر؟ أليس هو الكلام الذى كلمناك به فى مصر قائلين: كف عنا فنخدم المصريين لأنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت فى البرية "؟.

إن هذا الكلام ناضح بالنذالة والجبن واستمراء الدنية، والواقع أن الشعوب التى برحت بها العلل لا يمكن أن تبرأ من سقامها بين عشية وضحاها، إنها تحتاج إلى مراحل متتابعة وسنين متطاولة من العلاج المتأنى الصبور حتى تنقه من بلائها.

من أجل ذلك قرر المصلحون بعد تجارب مريرة أن الزمن جزء من العلاج..

وقد رأيت بعد تدبر عميق أن الشعب الإسرائيلى أول أمره لم يتبع موسى عن عزة نفس أو صلابة يقين، لعله تبعه عن تجاوب عرقى أو تعصب قبلى، ثم استفاد الأخلاق والإيمان فى مراحل متأخرة.

وملاحظة العقل اليهودى، والتاريخ اليهودى تؤكد هذا الاستنتاج!!

ونحتفظ بهذه النتيجة الآن لنعرف نهاية المطاردة بين فرعون وموسى! لقد صورها القرآن الكريم فى هذه الآيات (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين)

إن الله لم يخذل نبيه، بل سانده بقدرته الخارقة، ولم يترك الجبابرة ليستأنفوا فسادهم فى الأرض، بل أخمد أنفسهم بضربة ما توقعوها قط.

ونظر بنو إسرائيل فوجدوا أنفسهم سالمين على الشاطئ الآخر، كما أحسوا أن قتلة الأمس قد طاحوا، فلا عدوان عليهم بعد!!..

فبماذا استقبلوا هذه النعماء الغامرة؟ وماذا فعلوا لمسديها الجليل؟ لقد تيقظت فى أنفسهم الوثنية، وأعجبتهم عبادة الأصنام! فتقدموا إلى نبيهم فى بلادة هائلة ليجعل لهم صنما! قال تعالى (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون * قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين).

وأى فضل أعظم مما تم؟ أن يرثوا الأرض، ويغلبوا العدو، ويُمنحوا فرصة السيادة؟ بيد أن شيئا من ذلك لم يغير خستهم إن أثقالهم النفسية حالت بهم فى مكان سحيق..

وجاء الاختبار التالى، فإن الله لم يكلف اليهود بمحاربة فراعنة مصر - ومحاربة الطغاة مطلوبة حيث كانوا - إلا أن الإسرائيليين كانوا أقل وأذل من ذلك، لقد كلفوا بمحاربة الجبابرة الذين يسكنون فلسطين، ووعدوا بأنهم فى هذه الحرب سوف ينتصرون...

وجزع اليهود لهذا التكليف، ولم يطمئنهم هذا الوعد!! إنهم أحرص الناس على حياة، وهيهات أن يعرضوا أنفسهم لخطر! كيف يطلب منهم قتال؟.

يقول لى الأمير بغير جرم: .. تقدم!. حين تجذبنا المراس!
فمالى إن أطعتك من حياة .. ومالى بعد هذا الرأس!

جاء فى القرآن الكريم على لسان موسى (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين * قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها).

ووصف التوراة حال الشعب اليهودى عندما سمع هذا التكليف فرفعت كل الجماعة صوتها وصرخت! وبكى الشعب تلك الليلة، وتذمر الشعب على موسى وعلى هارون، وقال لهما: ليتنا متنا فى أرض مصر! أو ليتنا متنا فى هذا القفر! لماذا أتى بنا الرب إلى هذه الأرض لنسقط بالسيف؟.

وكان لابد من قرار إلهى قاطع..

إن هذا الشعب محتاج إلى تربية طويلة الآماد، تكبح جماحه وتقتل رذائله، وتفتح بصيرته على لون آخر من الحياة الرفيعة، والإيمان بالله واليوم الآخر..

فلتكن سيناء مصيدة محكمة الجدران يضطرب داخلها، ويعيش وراء حدودها لا يعرف أحدا ولا يعرفه أحد، وليبق على تلك الحال أربعين سنة!.

أربعين سنة يهلك فيها الذين شاخوا فى الفساد، ويتدبر أمره فى سجنها الطويل من عاشوا لا يفكرون إلا فى مآربهم! وستنضج خلالها الذرية التى آمنت بموسى، وتبلغ مرتبة الرجولة التى تتصرف فى نفسها وفيما حولها...

أربعين سنة يخرس فيها من كانوا يهمسون بالحق فتكمم أفواههم!.

إن الأفراد المدمنين للمخدرات يحتاجون إلى مستشفيات تفنى فيها عاداتهم السيئة وتحيا فيها عادات جديدة تصح بها أجسامهم وأعصابهم، فكيف بأمم تواضعت على تقاليد رديئة وأعراف فاسدة؟.

إن هذه الأمم محتاجة إلى جو جديد تتنفس فيه هواء أنقى، وتسمع فيه إلى دعاة الحق وهم يهدونها سواء السبيل..

وقد طالت المدة على بنى إسرائيل فى سيناء! مات فى هذه الفترة موسى وهارون، وتركا وراءهما شعبا يتولى القدر تأديبه، ويتدرج بشتى الوسائل على رفع مستواه.. ولم يكن من هذا بد ، إن الأمم لا تترك السفوح إلى القمم بكلمة عابرة من واعظ مخلص، أو مدرس بصير، الزمن جزء من العلاج.

استوقفتنى فى هذا المعنى فكاهة ذات مغزى : قيل إن ثعلبا جائعا انطلق يبحث عن طعام، فرأى من سرداب طويل إناء مشحونا بما لذ وطاب، فوثب داخل السرداب الضيق وتلطف حتى بلغ الإناء ثم أخذ يكرع منه حتى امتلأ، وحاول العودة من حيث جاء فعجز، لأن بدنه انتفخ فما يستطيع التقهقر! ولقيه فى محبسه هذا ثعلب عجوز عرف القصة من بدايتها، فقال للثعلب الصغير: ابق فى مكانك هذا حتى تجوع وتعطش وتخف وتنحف، وعندئذ تقدر على الخروج! قلت ضاحكا: الزمن جزء من العلاج..

لكن ما تكون عليه حال الدنيا خلال هذا الزمن المفروض؟ إن الجبارين الذين أمر بنو إسرائيل بمقاتلتهم سيبقون مفسدين فى الأرض ينشرون فى أرجائها الكفر والذل، سيبقون كذلك عشرات السنين! فكيف ترضى الأقدار بهذا العوج؟.

وأجيب: لابد من وارث شريف للحضارة المعتلة! وإذا كان حملة الوحى الإلهى ليسوا أهلا لهذه الوراثة فهيهات أن يقودوا.. سواء حملوا التوراة أو الإنجيل أو القرآن..

وقد تنبأت بأن المدنية الحديثة سوف تبقى عصرا آخر لا أدرى مداه، سوف تبقى مع كفرها باليوم الآخر، ونسيانها الوضيع لله، وظلمها للضعاف والملونين، وتهتكها فى طلب الشهوات بكل وسيلة.

لماذا؟ لأن حملة الوحى يفقدون من الناحيتين الفكرية والنفسية مؤهلات القيادة، بل أعرف ـ وأنا عربى أعيش بين العرب ـ أن لدينا رذائل من نوع آخر لا تقل عن رذائل المعطلين والمثلثين، يستحيل معها أن نكون أهلا للصدارة، بل يستحيل معها أن يقع زمام القافلة البشرية فى أيدينا..

إن فساد المبتعدين عن الله، الجاهلين بحقوقه، سوف يعلل بأنهم لا إيمان لهم..

أما فساد المتدينين فإنه يرتد إلى الدين نفسه بالنقض، ويجر عليه تهما هو منها براء، فحكمة الله واضحة فى تأخير المتدينين الجهلة وحرمانهم من السلطة.

والأمة الإسلامية منذ بضعة قرون تتدحرج إلى أدنى، والمصلحون الذين هم شهداء عليها يوم القيامة لا يلقون منها إلا عنتا، وقد فقدت فى أثناء هذا التدحرج أمرين جليلين :

أولهما الشمائل الإسلامية التى اختصت بها الرسالة الخاتمة.

والآخر الملكات الإنسانية التى تتمتع بها الشعوب الراقية، والتى تجعلها سباقة فى ميادين الحياة ـ المادية والأدبية..

أذكر أنه جاءنى يوما أحد الدعاة فى حال من الغضب الشديد يقول لى: أترى إلى حكومتنا وهى تدعو إلى تحديد النسل؟ يجب أن تنضم إلينا فى محاربتها!

قلت له وأنا متثاقل: إن التحديد المقترح لا يحل المشكلة القائمة!ان المشكلة تكمن فى عدم وجود الإنسان السوى، والمجتمع الناشط.

قال لى: ان تعاليم الإسلام هى تكثير النسل.. قلت.. له: نعم وله تعاليم أخرى فى تكبير الشغل! قال: ماذا تعنى؟

قلت: لماذا تريد الزواج والنسل الكثير على أن يقوم غيرك بالإنفاق على زوجك وولدك؟ إنكم لا تعمرون الأرض وتثيرونها كما أثارها غيركم وعمَّروها، إنكم لا تستخرجون خيرات الأرض من خباياها وظواهرها كما استخرجها غيركم من أنحاء البر والبحر!!.

إنكم بدوافع الرغبة الحيوانية تصيحون فى طلب الزواج والأولاد، وتطلبون الكثير الكثير، فعلام يدل هذا؟ على أن العقل الإسلامى يعرف رغبته ويسمع صوتها، ولكنه لا يعرف واجبه ولا يلبى نداءه!.

ثم استتليت : لا الشعب يدرى، ولا السلطة تدرى! ظلمات بعضها فوق بعض!!.

إن المثال السابق سقته إثر واقع عرض لى وأنا أكتب الآن، وهو يخدم الفكرة التى أريد إبرازها، وهى أن علل الأمم لا تداوى بالارتجال السريع، والرغبة النزقة.

والشبان الذين يظنون الإسلام يمكن أن يقوم بعد انقلاب عسكرى أو ثورة عامة لن يقيموا إسلاما إذا نجحوا! فإن الدولة المحترمة وليد طبيعى لمجتمع محترم، والحكومة الصالحة نتيجة طبيعية لأمة صالحة! أما حيث تتكون شعوب، ماجنة وضيعة فسيتولى الأمر فيها حكام من المعدن نفسه (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون).

والاتجاه إلى الجماهير لغرس العقائد وتزكية الأخلاق وإنشاء تقاليد شريفة، وإقامة شواخص ماجدة ترنو إليها البصائر، وإقامة الصلاة جماعة بعد جماعة، أعنى وقتا بعد وقت من الفجر إلى العشاء، وتحصين الرجال والنساء ضد الانحراف والانحلال، والتغلغل فى الأسواق والميادين والمنظمات والنقابات لإحياء كلمات الله وإنفاذ وصاياه.. ذلك كله كان طريق الأنبياء وحوارييهم ومن نهج نهجهم..

ولم تقع معركتا بدر والفتح إلا بقدر أعلى انساق إليه المسلمون دون خطة سابقة أو إعداد مبيت..!!.

أعرف أن عددا من الحكومات مرتد عن الإسلام يقينا، وأنه لن يذخر وسعا فى مقاومة المد الإسلامى وفتنة أهله، وعلاج ذلك يتم بالتزام الخط الذى رسمه الأنبياء، والصبر على لأوائه وضرائه، فهو ـ وان طال المدى ـ أقصر الطرق إلى الوصول، وأولاها برعاية الله، وأبعدها عن الأطماع والشبهات..

ولا تحسبن هذا الخط أبعد عن المخاطر وأقرب إلى السلامة، إنه صعب التكاليف ثقيل الأعباء، وقد رأيت أعداء الإسلام يرقبون هذا الخط بحذر ويرون أصحابه هم الأعداء الحقيقيون لهم.

إن قصة خدمة الإسلام عن طريق الانقلابات والثورات راودت أناسا لهم إخلاص وليست لهم تجربة، ولم تنجح من سنين طويلة هذه المحاولات، ورأيى أنها لو نجحت فإلى حين، ثم يبدأ الجهاد لتنظيف الشعوب من أقذائها، وإحداث تغيير جذرى فى أخلاقها وعاداتها!

أى أننا سنرجع إلى الإصلاح الشعبى عن طريق الشعب نفسه لا عن طريق الأوامر الرسمية.

لست أنكر قيمة السلطة فى اختصار المسافة، وإقرار المعروف ومحو المنكر، وإنى أعلم أن الدولة جزء من الدين، وأن أجهزتها الفعالة جزء من شعب الإيمان السبعين.. وكون الحكم من شعائر الإسلام حقيقة لا يمارى فيها إلا جاهل أو جاحد...!.

وهذا كله لا يلغى ولا يوهن عمل الأمة نفسها فى تثبيت العقائد والأخلاق والعادات الحسنة، وفى إعلاء سلطان الضمير وتتبع مسارب السلوك الخفية والجلية، وفى فرض رقابة دقيقة على أجهزة الحكم، وإبطال شرعيتها إن هى نسيت وظيفتها أو جاوزت حدودها..

إن الدولة فى الإسلام صورة ظاهرة لباطن الأمة، وهى يدها التى تحقق بها ما تبغى، وقدمها التى تسعى بها إلى ما تريد..

بيد أن ضراوة الطباع البشرية السافلة قلبت هذا كله رأسا على عقب، وأمكنت ناسا من عبيد ذواتهم أن يفهموا الحكم على نحو آخر، إنهم لم يفهموه عبادة لله بل سيادة على الآخرين، ولم يفهموه أمانة ثقيلة العبء بل فهموه مغنما لذيذ الطعم، وتطاولت هذه الحال على الأمة المنكوبة فأصابها من الضياع ما أصابها....

كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن وضع قريش بين القبائل العربية يجعل الأمور تتدافع إليها، ويجعلها مرشحة أكثر من غيرها لتولى السلطة، فأحب أن يشعرها بما لها وما عليها لترغب وترهب، روى أحمد فى مسنده عن أبى موسى الأشعرى قال: " قام رسول الله على باب بيت فيه نفر من قريش، وأخذ بعضادتى الباب، فقال: هل فى البيت إلا قرشى؟ فقيل: يا رسول الله غير فلان ابن أختنا، فقال: ابن أخت القوم منهم! ثم قال : إن هذا الأمر فى قريش ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا قسموا - يعنى المال - أقسطوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل " أى لا تنفعه توبة ولا فداء. وقد قامت لقريش دولة بل دول فى المشارق والمغارب، فهل راعت شروط الاستخلاف، أم جرت على الإسلام وأمته المتاعب..؟.

لقد لبث الحكم فى أيدينا أحقابا، فلما لم تحسن الأمة الإفادة منه فى دعم رسالتها ورفع رايتها، انتزعه الآخرون منها، وها هى ذى تلهث لتستعيده.

وهو إن شاء الله عائد إلينا طال الزمان أو قصر، غير أنه لن يعود حتى تختفى من بيننا أوهام كثيرة فى فهم معنى السلطة، وحتى ترقى أمتنا ماديا ومعنويا فتكون الدولة فى يدها لخير الجماهير لا لإرضاء فرد مغرور..

إن فن الحكم فى العالم المعاصر قد ارتقى إلى أوج بعيد، وفى انجلترا مثلا يستطيع عامل فى أحد المناجم أن يجابه الحكومة دون أن تخالجه ذرة من قلق! وقد ينتصر أو ينهزم فلا يزيده نصر ولا تنقصه هزيمة!.

ولو وقع ذلك فى بعض الدول الإسلامية لأمر الحاكم بقطع عنقه، ولمرَّت الدهماء على جسده الملقى يقولون: ما دخلك يا صعلوك فى سياسة الملوك؟.

إن الشعب والحكومة معا دون مستوى الإسلام الذى ينتمون إليه، بل هم والحق يقال عار عليه! لقد اختفت تحت أطباق الثرى تقاليد الخلافة الراشدة، وبقيت فى العقل الباطن للدهماء تقاليد السلاطين الذين هم ظل الله فى الأرض، وفتاوى العلماء الذين تواصوا بقبول الأمر الواقع، أو بالتعبير الفقهى الخضوع لمن نالوا الحكم بالغلبة والقهر..!.

ثم كان من احتاك المسلمين بغيرهم من أهل الأرض، أن ظهرت وطبقت فلسفة الديمقراطية، ورأى من لهم فقه وتقوى أنها قريبة من " الشورى الإسلامية" فكيف انتقلت إلينا " ديمقراطية " الغرب؟..

إن الحكم الفردى صالح بينها وبين رغبته، ويستطيع الحاكم " المهم " فى بلاد الإسلام أن يظل عشرات السنين، يُنتخب هو وحده لا غير، عشر مرات أو أكثر ما دام حيا.. ويقول هذا الحاكم للمتدينين هذه هى الشورى التى تنادون بها، ويقول للناس من وراء الحدود، أنا وليد انتخابات حرة، وإرادة شعبية.

والأرض والسماء يعلمان أن هذا كذب وزور..

والأمر يحتاج إلى تغيير جذرى كما قلنا فى كيان الأمة وعقلها وضميرها حتى لا تمر هذه المهازل أبدا..

ويضحك أولو الألباب ومن حقهم أن يبكوا عندما يسمعون متحدثا باسم الإسلام يصحح هذه الأوضاع!.

هل تحتاج أمتنا إلى أربعين سنة تصح فيها كما احتاج بنو إسرائيل؟ لا أدرى! كل ما أقدر على قوله أن الإسلام لا يقبل حكما عسكريا، ولا يعرف خرافة: " الناس قلوبهم مع الحسين وسيوفهم مع يزيد " وأن على دعاة الإسلام من خلال تعاليمه لا من خلال تقاليد عصور الانحطاط والفوضى فى تاريخه المديد.

عليهم أن يعدُّوا قتيل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر شهيدا أغر الجبين لا صعلوكا يقاوم السلاطين، فإنهم بهذا المنطق الجبان لن يكونوا مسلمين! ولن يصلحوا لقيادة أنفسهم بله أن يقودوا العالمين..!.

وصلة الاقتصاد بالسياسة وثيقة، ومراقبة سير المال بين جماهير الناس لابد منها، وتحديد موقف الحاكم من المال العام شارة كل دولة محترمة.

وقبل أن نشير إلى ما يقع فى بلادنا الإسلامية نريد أن نثبت نموذجا من الخلافة الراشدة يوضح طبيعة الحكومة الإسلامية والسمة البارزة لحياة الحاكم المسلم.

كان عمر بن الخطاب مرموق المكانة فى الجاهلية والإسلام فلما ولى الخلافة، واتسعت رقعة الدولة فى عهده، وورث ملك الأكاسرة والقياصرة، لوحظ عليه أنه حريص على استصغار شأن نفسه سرا وعلنا، وعلى توكيد أنه رجل لولا فضل الله ما كان شيئا يذكر..!!.

كان عمر مع قافلة من الناس يمرون بشعاب " ضجنان " - جبل قريب من مكة - فسمع يقول: " لقد رأيتنى فى هذا المكان، وأنا فى إبل للخطاب وكان فظا غليظا أحتطب عليها مرة، وأختبط عليها أخرى، ثم أصبحت اليوم يضرب الناس بجنباتى ليس فوقى أحد! ثم تمثل بهذا البيت:

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته .. يبقى الإله و يفنى المال و الولد

وخرج عمر يوما حتى أتى المنبر فشوهد عليلا، وكانوا قد وصفوا له عسل النحل، وفى بيت المال عكة - آنية صغيرة - فقال للناس: إن أذنتم لى فيها أخذتها، وإلا فإنها علىَّ حرام، فأذنوا له فيها..!!.

وكان عمر يؤكد أنه ما قبل الخلافة إلا رجاء أن ينهض بما لا يقدر غيره على النهوض به، ولولا ذلك لنأى عنها، وفى ذلك يقول: " ليعلم من ولى هذا الأمر من بعدى أن سيُريده عنه القريب والبعيد، وإنى لأقاتل الناس عن نفسى قتالا! ولو علمت أن أحدا من الناس أقوى على هذا الأمر منى لكنت أن أقدم فيضرب عنقى أحب إلى من أن أتولاه... وقال عمر للناس يوما: " أنا أخبركم بما أستحل من مال المسلمين! يحل لى حلتان، حلة فى الشتاء وحلة فى القيظ، وما أحج عليه وأعتمر من الظهر، وقوتى وقوت أهلى كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم.. ثم أنا بعد رجل من المسلمين يصيبنى ما أصابهم ".

ورووا أن الربيع بن زيادة الحارثى وفد على عمر بن الخطاب فأنس إليه عمر وأعجبته هيئته، فشكا إليه عمر طعاما غليظا أكله فقال الربيع: يا أمير المؤمنين، إن أحق الناس بطعام لين وملبس لين لأنت، فرفع عمر جريدة معه فضرب بها رأسه، وقال أما والله ما أراك أردت الله بمقالتك، ما أردت إلا مقاربتى! ويحك، هل تدرى ما مثلى ومثل هؤلاء ـ جماهير الناس ـ؟.

فقال الربيع: ما مثلك ومثلهم؟ قال عمر: قتل قوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم وقالوا له: أنفق علينا! فهل يحل له أن يستأثر منها بشىء؟ قال: لا يا أمير المؤمنين قال: فكذلك مثلى ومثلهم..

ثم قال عمر: إنى لم أستعمل عليكم عمالى ليضربوا أبشاركم وليشتموا أعراضكم، ويأخذوا أموالكم! ولكنى استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم. فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علىَّ ليرفعها إلى حتى أقصه منه! فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين أرأيت إن أدب أمير رجلا من رعيته أتقصه منه؟ فقال عمر: وما لى لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقص من نفسه؟ وكتب عمر إلى أمراء الأجناد: لا تضربوا المسلمين فتذلوهم! ولا تخرموهم فتكفروهم! ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم!.

تلك علاقة الشعوب بحكامها فى تعاليم الإسلام، وقد نكبت الجماهير فى أقطار عدة برجال مترفين استباحوا الضعفاء، وأذلوا من أعز الله، وأعزوا من أذل الله ، فقامت عليهم ثورات محنقة ركب موجتها شبان مغامرون باسم الاشتراكية التى تنصف الشعوب وتحقق العدالة الاجتماعية، فماذا كان؟.

دخلت الشعوب فى محن متتابعة أفقدتها دينها ودنياها معا، وأنزلت بها هزائم عسكرية وسياسية كست الوجوه بالقار والعار!.

رفع أولئك المغامرون شعار العروبة بعد تجريدها من الإسلام، واتباعها المذاهب المغيرة على بلادنا من الشرق الشيوعى أو الغرب الصليبى، وأكرهت الجماهير إكراها على قبول الشعار الجديد.

وكان بالقادة الجدد جوع شديد إلى الظهور والعظمة، كما كان بهم جوع إلى الرفاهة والبذخ فإذا قصورهم تترع بالملذات وأهلوهم يمرحون فى فنون من الوجاهات والمتع..

ولما كانوا خالين من المواهب الرفيعة والتجارب المفيدة، فقد أساءوا النقل والاقتباس، وزعموا أنهم سوف ينهضون بالبلاد صناعيا، فأضاعوها زراعيا وصناعيا..

وكانت نتائج انقطاعهم عن الله، وجهالتهم بالحياة، أن خذلتهم قوانين الأرض وبركات السماء فإذا العرب والمسلمون يقعون فى ورطات رهيبة وتجتاحهم هزائم مذلة فى كل ساحة.

وما عسى أن يفعل القدر لرجل يخطب فى الحشود المسوقة إليه فيقول وهو يعبث بين أصابعه بقلم: ماذا فعل محمد للناس؟ محمد (!) هكذا يذكر صاحب الرسالة العظمى (!) وتصورت معزة خرجت من مربضها لتقول للشمس : اغربى إنك ما تصنعين للكون شيئا...!!.

وزعيم آخر نسى كل النسيان أنه كان فى طفولته يجرى وراء جحاش القرية ثم صيرته الاشتراكية زعيما فإذا هو لا يمتطى فى تنقلاته إلا الطائرات السمتية كبرا عن أعظم السيارات.

وآخر، وآخر... ما أكثر الأصفار التى ظنت نفسها ألوفا فى أرض الإسلام اليتيم!. والجماهير تنظر فى بلاهة، وقد حبسها فى موقفها السلبى حب الدنيا وكراهية الموت وإرخاص الحق وعشق الشهوات...

إن رسالتنا الكبرى قاعدتها أمة مؤمنة بها حريصة عليها وأداتها الأولى جهاز الحكم فيها وقد تكون الأداة قاصرة، أياما أو شهورا ! أن تكون الأداة مضادة لرسالة الأمة منسلخة عن وحيها، والأمة نفسها لا تعى ولا تتحرك، فالأمر يتصل بالقاعدة نفسها...! والإصلاح الأول لا يتجه إلا إليها...

من أجل ذلك أهيب بالإسلاميين أولى الغيرة على دينهم ألا يضيعوا وقتا فى جدال، وألا ينخدعوا عن فساد الموضوع بفساد الشكل، وأن يتجهوا إلى أمتهم ذاتها يعالجون عشرات العلل الكامنة والوافدة التى تنخر فى كيانها وتباعدها عن كتاب ربها وسنة نبيها.

إن الحالمين بانقلاب عسكرى يجب أن يستيقظوا وإلا كانوا هم أنفسهم قسما من المرضى! لقد تدبرت أحوال دول ما تزال تعبد الأصنام فوجدتها وصلت إلى حد الاكتفاء الزراعى، وقفزت إلى الصناعات الإلكترونية، وفجرت القنبلة الذرية، واستقرت فيها الأنظمة الديمقراطية، ورجعت البصر إلى أمتى فوجدتها دون ذلك كله، فازداد حتى بخطورة ما انتهينا إليه!.

بل لقد تأكد لدى أن الحضارة الغربية ـ بشقيها المتنافرين ـ قد تبقى عصرا آخر لا يعلم إلا الله مداه، ما بقى المسلمون رسميا وشعبيا على هذا المستوى من الإسفاف فى نواحى حياتهم الفردية والاجتماعية..! لأنهم لن يصلحوا بديلا لوراثة الأرض!.

إن الدين كما درسته فى كتاب ربى إيمان وإصلاح لا نفاق وإفساد! ألا تقرأ قوله تعالى (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون).

ما أحلى شعار الحكم بما أنزل الله.. هل تحكم بما أنزل الله فى نفسك؟ وفى بيتك؟، وبين جيرانك وإخوانك؟ وفى عملك..؟.

لقد تقلبت بين طوائف كثيفة، وبلوت الكبار والصغار، فشعرت أن الناس عندما يتخفون عن مشاعر الحب والرحمة، وتستبد بهم نوازع الأثرة والتكاثر، يتحولون إلى وحوش مرهوبة الفتك!. أين كلمة الرسول: " لن تؤمنوا حتى تحابوا "؟ إن فقدانها لا يسد مسده شىء، وشرائع الحدود والقصاص ما منها بد! بيد أنها لا تغنى أبدا عن شرائع الأخلاق وتقاليد الحنان والأدب والرفق..

والحكومات تستبعد من عالم القانون نصوصا دينية لا ريب فيها لأن الصليبية والشيوعية قررتا إماتة هذه النصوص، وسوف تعترضان محاولات بعث الحياة فى هذا التراث..!!.

حسنا، فهل يتحقق الإسلام عندما يطبق المسئولون فى العالم الإسلامى هذه الشرائع؟ إن الذين جاءوا بطريق غير إسلامى لن يحسنوا الحكم بما أنزل الله! والذى سرق منصبه بطريق التزوير أو الاغتصاب لن ينصف الإسلام يوم يقطع يد لص صغير، كل ما حدث أن اللص الكبير قطع يد لص ضعيف..

الإسلام كل لا يغنى بعضه عن بعض، والحكومة فيه إفراز طبيعى لأمة مؤمنة، أمة اختارت الأكفأ والأصلح ، وائتمنته على دينها ودنياها، ووضعته تحت رقابتها، ولها حق مطلق فى تنحيته يوم تشاء..!.

الشعوب الطبيعية عرفت ذلك ونفذته جزءا من منطق الفطرة، أعنى منطق الإسلام، وهل الإسلام إلا الفطرة السليمة؟.

إن غيرنا أقرب إلى تعاليم الإسلام فى مجال الحكم، وإن كان بعيدا عنه فى مجال الاعتقاد!.

يعلم الناس أن مستر " تشرشل " هو بطل انجلترا وكاسب النصر لها فى الحرب العالمية الثانية، وحقه على قومه كبير، لكن قومه رأوا غيره أقدر منه فى أيام السلام وأجدر بالوزارة فأبعدوه دون حرج، وذهب الرجل إلى بيته دون ضجة..

وكذلك جنرال " ديغول " الذى مسح العار عن وطنه فى أيام كالحات، وقاد فى المنفى حرب مقاومة انتهت بالنصر! لقد قال له الفرنسيون يوما: جنرال لم ورقك واترك منصبك فكان الرجل أسرع من البرق فى جمع أوراقه والانطلاق إلى قريته.

ولو فكر أحدهما فى الخروج على مشيئة أمته لما وجد خادما يقدم له الطعام، بل ما وجد من يبيعه الخبز، ذاك لو بقى حيا!.

أما فى البلاد التى يعيش فيها مليار عربى ومسلم فللوثنية السياسية منطق آخر.

يقول القائد اليهودى " مردخاى ": " إن النصر الذى تم لنا فى حرب الأيام الستة فاق أشد الأحلام جنونا " وهذا حق، فقد كسب اليهود أرضا ومالا وجاها تتجاوز الخيال دون خسائر تذكر، لم تكن حربا هذه الرواية التى وقعت! إن القادة العرب قدموا جنودهم لجزار لا تكل يداه من الذبح، وعندما تعب من التنكيل بخصمه ساق البقية أسرى!!.

ثم ماذا؟ رجع القادة المدحورون المعصوبون بالخزى يقولون فى وقاحة لم يعرف التاريخ لها نظير: هذه نكسة! المهم أننا نحن بقينا..!.

ثم ماذا أيضا؟ انتظروا من الجماهير أن تهتف بأسمائهم وأن تقدم لذواتهم المصونة الولاء..!.

وتم لهم ما انتظروه! قادة النصر فى الغرب تستبدل بهم شعوبهم من تراه أفضل لها، وقادة الهزيمة هنا يبقون جاثمين على صدر الأمة حتى يوردوها القبور...

ولا أزال أستغرب الصمت الذى يحف قتل عشرات الألوف من المسلمين فى حماة ثم فى طرابلس - لبنان.

لئن كان القتل جريمة شنعاء إن هذا الصمت الجبان جريمة أشنع لكن هذه نتائج الموت الأدبى.. ومازلت أؤكد أن العمل الصعب هو تغيير الشعوب، أما تغيير الحكومات فإنه يقع تلقائيا عندما تريد الشعوب ذلك..!.

إن علل أمتنا غليظة، وإذا لم ينشغل دعاة الإصلاح بعلاجها فبم يشتغلون؟.

هناك تقاليد انحدرت إلينا من ماض طويل، ما أنزل الله بها من سلطان، ثم جاءنا الاستعمار العسكرى والثقافى بتقاليد أخرى هى من مباذل الغرب وهناته، ربما كان محصنا ضدها أو قليل التشكى منها، لكنها لما جاءتنا كانت بالغة الضرر..

هذه التقاليد وتلك، اعوجت بفكرنا وسلوكنا على سواء، وأكاد أقول: إننا بهذا الاعوجاج نشبه بنى إسرائيل قبل أن يعاقبوا بأيام التيه! أو نشبههم عندما تمردوا على الوحى، ولعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم..

وما خلت الأمة على تطاول القرون من مذكر بالحق وداع إلى الخير!

والذى ألفت النظر إليه أن التغيير الحاسم لا يتم ارتجالا، ولا يتم بين عشية وضحاها، ويجب أن يتجرد له رجال لا يخافون فى الله لومة لائم، ولا تخلع قلوبهم رهبة أو رغبة، يمشون فى الطريق الطويل الذى سار فيه الأنبياء، ولا يفكرون فى انقلابات عسكرية أو ثورات مسلحة، إنما يفكرون فى الإصلاح المتأنى، والتغيير الذى جزم القرآن الكريم بنتائجه قال (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

وهناك من يطلب السلطة لتكون بين يديه أداة التغيير المنشود!. وأكره أن أتهم نية هؤلاء أو نهجهم، فقد عشت معهم ومازلت بينهم، ووجهة هؤلاء الرجال أن الحكم فى أرض الإسلام منحرف من زمان بعيد، وهم يتساءلون: ما الشرعية التى يعتمد عليها هذا الحكم؟ الحكومات المدنية تستند فى مشروعية بقائها على أنها تمثل الشعب، والحكومات الدينية تستند إلى أنها تطبق الدين!.

فإذا لم يكن ثم تمثيل للشعب ولا تحكيم للدين فأين مشروعية البقاء؟ والنزاع الدموى الطويل الذى شجر بين الفريقين يرجع إلى التنافر الحقيقى بين الأمر الواقع وطلاب التغيير!.

وأنا أدعو هنا إلى سياسة جديدة فى خدمة الإسلام، وبناء أمته التى تتواثب حولها شياطين الإنس والجن تكفينها والخلاص منها.

ودعوتى أساسها الاستفادة من التجارب الطويلة، والنظر الدقيق فى الأسلوب الذى سار عليه رسل الله، وخاتمهم العظيم محمد بن عبد الله، الذى دعا إلى الحق، وتنزه عن كل مأرب، وأمن أهل الدنيا على ما بأيديهم (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد).

وقد لاحظت فى أثناء الصراع القاسى بين الإسلاميين وغيرهم من الحكام، أن أغلب الذين يملكون الأمور يمضون مع تيار السلطة وينغمسون فى عبابه انغماس السمك فى الماء.

أى أنهم يحسون أن الخروج منه انتقال إلى الموت، فهم يدفعون عن حياتهم، ويرون من يحاول استلاب السلطة منهم قاتلا، يجب الإجهاز عليه قبل أن يجهز عليهم!.

وشىء ثان أن ظنهم سيئ بالإسلاميين، فهم لا يرونهم أصحاب مبادئ بل أصحاب مطامع، وأن مغانم الحكم هى التى تحركهم، فلماذا تترك لهم؟.

والشىء الثالث الخطير أن بعضهم يجهل الإسلام جهلا بسيطا أو مركبا بل لقد رأيت فى سياحاتى بالعالم الإسلامى من يكره الصلاة والعفاف أكثر من كره الشيوعيين والصليبيين لهما..!!.

ويفرض هذا كله على الدعاة التجرد التام وهم يرفعون راية الإسلام، وأن يعلنوا بقوة عزوفهم عن الحكم ورفضهم لمناصبه، وإيثارهم أن يقوم غيرهم بمهمة التطبيق والتنفيذ وتأييدهم القوى لمن يسارع من الحكام إلى العمل بالإسلام..

وليست مهمة الدعاة تلمس الأخطاء وكشف أصحابها، ولا أن نتحول إلى نقاد سياسيين يشغلنا الهجاء عن البناء.

الذى أراه أن نكدح فى الميادين الداخلية لنعيد بناء أمة توشك أن تتحول إلى أنقاض، وما أكثر هذه الميادين وأفقرها إلى العاملين إننا لو انتصرنا فيها ربحنا تسعة أعشار المعركة.

وكل عمل مقرون بالجهل أو الغلو يصيب الإسلام فى مقاتله، ويجعل صاحبه ـ من حيث لا يدرى ـ عونا لخصوم هذا الدين..

قد تقول : إن السلطات القائمة سوف تمنعنا من هذا العمل! فماذا ترى؟.

وأقول : إن الأنبياء منعوا من قبل عن أداء رسالتهم لكنهم مضوا فى الطريق الطويل يتحملون التكذيب والتعويق (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله) مضوا يبنون ولا يهدمون ويحسنون ولا يسيئون، مضوا فى طريق التوعية والتربية والتبصير بالآخرة والاشراف على الحياة الدنيا من مستواهم العالى، لا يزاحمون عليها، ولا يُظن بهم طمع فيها، حتى تخير الله لهم مكان النصر وزمانه، وكان ما قدر الله!!.

عاش من عاش محققا رسالته، ومات من مات موطدا عند الله مكانته. لقد سمعت شبابا يشكو طول هذا الطريق، ويهز رأسه رافضا، إنه يريد معركة سريعة!.

إن ريبتى شديدة فى قلوب هؤلاء أو فى عقولهم، وأدعو الله أن يقى الإسلام شرهم.

 
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: مختارات ...
« رد #62 في: 2018-03-12, 11:35:15 »
في ذكرى وفاة الغزالي رحمه الله، كتب عند موته الدكتور يوسف القرضاوي ما يلي :

*"*"*"*"*"*"*"*"*"*"*"*'*

 وأخيراً هوى النجم الساطع !

وأخيرا هوى النجم الساطع، واندك الجبل الأشم ،وطوى العلم المنشور، وغابت الشمس المشرقة، وترجل الفارس المعلم.. ومات الشيخ الغزالي .

أخيرا فقدت الأمة الإسلامية علم الأعلام، وشيخ الإسلام، وإمام البيان ورجل القران.

أخيرا اغمد قلم كان سيفا علي أعداء الله ، لم يفل له حد طالما أرعب الملاحدة والمنافقين، وخرس لسان ظل يجلجل ويدوي خلال ستين عاما، بالدعوة إلى الله ،يحشد الناس ألوفا ألوفا في ساحته، ويجمعهم صفوفا صفوفا علي دعوته .

مات الشيخ الغزالي، وهو في قلب المعركة لم يلق السلاح، ولم يطو الشراع ،بل ظل يصارع الأمواج، ويواجه العواصف التي هبت من يمين وشمال علي سفينة الإسلام، تريد أن يبتلعها اليم، وأن تغرقها الرياح الهوج.

فقد نشرت وكالات الأنباء أن الشيخ أصيب بالأزمة القلبية الحادة، وهو يحاضر في ندوة: (الإسلام والغرب ) التي عقدت في الرياض. لقد سقط الفارس والسيف مسلط في يده ! واحسبه من(الشهداء) إن شاء الله، فقد مات وهو يدعو ويدافع عن الإسلام، كما مات غريبا.

كنت أعلم أن الشيخ الغزالي مصاب بجلطة منذ سنوات، وأن أطباءه نصحوه و أكدوا عليه ألا يسافر، لان صحته لا تحتمل متاعب السفر، ولكن الشيخ لم يكن يسعه إذا دعي إلى عمل إسلامي أن يرفض، ويقول: إن الكريم لو دعي إلى طعنة لأجاب!.

ولهذا سافر منذ عدة اشهر إلى أمريكا ممثلا لمجمع البحوث الإسلامية .

وفوجئت حين قرأت في الأسبوع الماضي حضوره مهرجان الجنادرية الثقافي بالرياض، ليشارك في ندوة عن ( الإسلام والغرب ) ، مع أن الشيخ أرسلت إليه دعوات كثيرة من عده أقطار - خصوصا من الخليج - تلح عليه أن يساهم ببعض المحاضرات في ليالي رمضان، ولكنه اعتذر بلطف للجميع.

ويبدو أن الله تعالي قدر له هذا السفر لأمر يعلمه سبحانه،وهو أمر يحبه الشيخ رحمه الله. ذلك أن يكون مثواه الأخير بالقرب من مثوى رسول الله عليه الصلاة والسلام ومسجده الشريف، بمدافن البقيع بالمدينة المنورة، التي ألف فيها كتابه القيم(فقه السيرة) ودمعه يختلط بالمداد تأثرا وحبا للرسول الكريم. وما كان يتاح له هذا إلا بمثل ما حدث .والله غالب علي أمره.

وقد اخبرني صديقه وصديقي أ.د. محمد عمر زبير الذي حضر جنازته ودفنه بالمدينة :أن قبره في موضع متميز ، قريب جدا من قبر الإمام مالك، بينه وبين قبر الإمام نافع أحد القراء السبعة، رضي الله عنهم جميعا .

لقد عرفت الشيخ الإمام منذ نحو نصف قرن فعرفت فيه العقل الذكي، والقلب النقي، والخلق الرضي، والعزم الأبي، والأنف الحمي، عرفت الغزالي فما عرفت فيه إلا الصدق في الإيمان، والسداد في القول، والإخلاص في العمل ،والرشد في الفكر، والطهارة في الخلق، والشجاعة في الحق، والمعاداة للباطل، والثبات في الدعوة، والمحبة للخير، والغيرة علي الدين، والحرص علي العدل ،والبغض للظلم، والوقوف مع المستضعفين ،والمنازلة للجبابرة والمستكبرين، مهما أوتوا من قوة .

عرفت الشيخ الغزالي فعرفت رجلا يعيش للإسلام، وللإسلام وحده، لا يشرك به شيئا، ولا يشرك به أحدا، الإسلام لحمته وسداه، ومصبحه وممساه، ومبدؤه منتهاه. عاش له جنديا ، وحارسا يقظا، شاهر السلاح، فأيما عدو اقترب من قلعة الإسلام يريد اختراقها، صرخ بأعلى صوته، يوقظ النائمين، وينبه الغافلين، أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكيه علي الله .

قد تختلف مع الشيخ الغزالي في قضية أو أكثر، وقد تنقده في بعض ما ذهب إليه من آراء، ولكنك لا تستطيع أن تشك في صدقه وإخلاصه وغيرته. وهو على كل حال مجتهد في فهم دينه وفي خدمته بالطريقة التي يراها اصلح وأصوب، فان أصاب فله أجران، وان أخطأ فله أجر واحد .

لقد ترك الشيخ الغزالي بصمات واضحة علي العقل الإسلامي، لا يمحوها اختلاف الليل والنهار: بما ألف من عشرات الكتب، وما أنشأ من مئات المقالات ،وما أقام من آلاف الدروس والخطب والمحاضرات، وما أذيع له من أحاديث لا تحصر في الإذاعات والتلفازات .

كما كان للشيخ تلاميذ وطلاب تلقوا عنه العلم في الجامعات التي عمل فيها :في الأزهر في مصر، وفي أم القرى في مكة، وفي كليه الشريعة في قطر، حيث سعدنا به فيها لمده ثلاث سنوات ،وفي جامعه الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية في الجزائر، الذي بقي فيها خمس سنوات متصلة .

لقد لقن الشيخ طلابه الموازنة بين العقل والنقل، وبين الأصول والفروع، وبين الدين والدنيا، ولم ينسق وراء الذين يريدون أن يبطلوا النصوص باسم المصالح، ولا الذين يريدون أن يرفضوا المنقول باسم المعقول، ولا الذين يريدون أن يقيموا حربا بين الإسلام والعصر، أو بين الإسلام والتطور، انه يقول للذين يطالبون الإسلام أن يتطور: لماذا لا تطالبون التطور أن يسلم؟!.

قد يأخذ الناس علي الشيخ الغزالي بعض آرائه وفتاويه، لأنها ليست علي مشربهم ،ولكن الذي أعلمه أن الشيخ الغزالي لم يخرج في فتوى أو رأي علي إجماع الأمة المستيقن. وقد بينت ذلك في كتابي عنه. وقد أتهم شيخ الإسلام ابن تيمية قديما بأنه خرق الإجماع في قضايا الطلاق وما يتعلق به. وهي التي قال فيها تلميذه الحافظ الذهبي: وله فتاوى نيل من عرضه بسببها ،وهي مغمورة في بحر علمه .

وأنا أقول: إن هذه الفتاوى التي أوذي من أجلها ابن تيمية وادخل فيها السجن ومات فيه، هي المعتمدة الآن لدى كثير من أهل الفتوى، وهي التي أنقذت الأسرة المسلمة من الانهيار .

لقد صدع الشيخ الغزالي بما يرى انه الحق، ولا يسع عالما يخشى الله ألا يفعل ذلك، مادام من ( الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله ) .

ربما كان في عباراته-في أحيان قليلة- بعض الحدة،وما ذلك إلا اثر من آثار الحرارة التي تتوقد في صدره،فهو لا يطيق العوج، لا من المسلمين ولا من غيرهم، فإذا رأى عوجا تأجج قلبه نارا، تظهر علي ثمرات قلمه ولسانه.

قد عاش الشيخ الإمام رحمه الله عمره كله محاربا للقوى المعادية للإسلام في الداخل والخارج، والتصدي لتياراتها، والعمل علي هدم أوكارها ،وهتك أستاها، وكشف عملائها. وهو هنا مقاتل عنيد، لا يستسلم ولا يطأطئ، ولا يلين يوما.

وقف في وجه الاستعمار، وكشف عن حقيقته ودوافعه، وأنها (أحقاد وأطماع).

وفي وجه الصهيونية، التي اغتصبت الأرض المقدسة وشردت الأهل، وخططت لهدم المسجد الأقصى وإقامة هيكل سليمان علي أنقاضه .

وفي وجه التنصير، الذي يريد أن يسلخ المسلمين من عقيدتهم، ليصبح المسلمون عبيدا للصليبية الغربية .

وفي وجه الشيوعية التي سماها (الزحف الأحمر ) ونبه علي خطرها من قديم، واكتساحها للجمهوريات الإسلامية في آسيا .

وفي وجه الحضارة المادية وأباحتها الجنسية، وعصبيتها العنصرية، ومحاولتها للسيطرة الإمبريالية، وان لم ينكر ما فيها من عناصر إيجابية يمكن الاستفادة منها .

وفي وجه العلمانية اللادينية، التي تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، تريد الإسلام عقيدة بلا شريعة، وسلاما بلا جهاد، ودينا بلا دوله، واتباعا أعمى للغرب "شبرا بشبر، وذراعا بذراع".

وقد بدا الشيخ هذه المعركة من قديم، حين رد علي صديقه الشيخ خالد محمد خالد في كتابه(من هنا نعلم) ولكنه لم يقس عليه، وكان يظن به خيرا، و أنكر على الأزهر حين فكر بعضهم أن يجرد الشيخ خالدا من شهادة العالمية، وقد صدقت الأيام ظن الغزالي ،وعاد خالد إلى رحاب الإسلام الذي نشا في ظله، وتربى في أحضانه .

وبقدر لين الشيخ الغزالي مع الأستاذ خالد ،كان نارا تكوي وتحرق ،على العلمانيين المعادين علنا لشريعة الإسلام. وهو يقول لماذا لا نسمي هؤلاء باسمهم الحقيقي ؟

إنهم المرتدون !.

لقد عرفت الشيخ الغزالي عن كثب، عرفته في معتقل الطور، وعرفته بعد المعتقل، وعايشته وصحبته في السفر والحضر .

وقد وجدت الشيخ الذي يشتد ويحتد في نزاله الفكري، فيهدر كالموج، ويقصف كالرعد، ويزأر كالليث،حتى أنك لتحسبه في بعض ما يكتب مقاتلا في معركة، لا مجادلا في قضية، وتحسب القلم الذي في يده، كأنما السيف أو الرمح في يد ابن الوليد: وجدته - عن كثب - إنسانا رقيق القلب ،قريب الدمعة، نقي السريرة، صافي الروح ،حلو المعشر، كريم الخلق،باسم الثغر،موطأ الأكناف، عذب الحديث ،سريع النكتة، بسيطا متواضعا، هينا لينا، بعيدا عن التكلف والتعقيد والتظاهر والادعاء، تسبق العبرة إلى عينيه إذا سمع أو رأى موقفا إنسانيا، ويهتز خشوعا وتأثرا، إذا ذكر الله والدار الآخرة ، ولا يأنف أن يتعلم حتى من تلاميذه، يعترف لكل ذي موهبة بموهبته، لا يحسد ولا يحقد،يكره الظلم والتسلط على عباد الله يقول بصراحة لا أحب أن أتسلط على أحد، ولا أن يتسلط عليّ أحد .

لقد عاش الشيخ الغزالي حياته كلها حر الفكر والضمير، حر القلم واللسان، لم يعبد نفسه لأحد إلا لربه الذي خلقه فسواه، لم يبع ضميره ولا قلمه لمخلوق كان. وكم حاول أصحاب السلطان أن يشتروه، ولكنهم لم يقدروا علي ثمنه. وكيف يمكن أن يشترى من يريد الله والجنة؟! ولقد لوح له بالمناصب التي يسيل لها لعاب الكثيرين من عبيد الدنيا، ولكن الشيخ لم تلن له قناة،ولم يغره وعد، كما لم يثنه وعيد. لقد كان يتمثل بالشافعي رضي الله عنه وهو يقول :

أنا إن عشت لست أعدم قوتا وإذا مت لست أعدم قبرا!

همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرا!

ومما يذكر للشيخ الغزالي هنا : أنه رفض الخضوع لأهواء العوام، كما رفض الخضوع لسلطة الحكام. وكتب مرة مقالة يقول فيها : أهواء العامة لا تهادن. ولم يحاول أن يزايد بإرضاء الجماهير، علي حساب ما يراه حقا في دينه، كما يفعل ذلك بعض ( الأدعياء ) الذين يحسبهم الناس ( دعاة ). وما أعظم الفرق بين الدعاة والأدعياء ! .

لقد مات الشيخ الغزالي، ولكن أفكاره لم تمت ،إن الأفكار لا تموت بموت أصحابها ،إنها لم تزل حيه ناطقة في كتبه الأصيلة المتميزة، التي انتشرت في المشارق والمغارب، وطبعت مرات ومرات، وترجم كثير منها إلى عدد من اللغات، وفي تلاميذه المنتشرين في أنحاء العالم، الذين يحملون دعوته، ويتبنون رسالته .

لقد ألفت كتابا عن شيخنا الغزالي كما عرفته،خلال نصف قرن في 286 صفحه، وقد نشرته صحيفة الشرق القطرية، علي ثلاثين حلقة، خلال شهر رمضان قبل الماضي (1415هـ) ثم نشرته دار الوفاء في مصر. وقد ظهر خلال معرض الكتاب الدولي في القاهرة الذي أقيم في الشهر الفائت. ولا أدري هل قدر للشيخ أن يراه بعد صدوره أو لا ؟ [1]وهو بعض ما للشيخ من حق علي وعلى أمثالي ممن انتفعوا بعلمه، واقتبسوا من ضيائه .

ليس هذا الكتاب تاريخا للغزالي، فلا أزعم أني أملك كل أدوات المؤرخ، ولا أملك المعلومات الكافية لمثل هذا العمل، وأنا أعلم أن الشيخ - رحمه الله - قد كتب قصة حياته، وكنت أدعو الله أن يمد في عمره في عافية وتوفيق وبركة ،حتى يضيف إلى كتابه فصولا وفصولا، ولكن أجل الله إذا جاء لا يؤخر .

كما أرجو أن يوفق الله بعض أبنائنا الدارسين في أقسام الدعوة وغيرها أن يقدموا في أطروحاتهم العلمية دراسات إضافية عن الشيخ رحمه الله وعطاءاته الخصبة والمتنوعة، بما يليق بمكانه الشيخ العلمية والدعوية والإصلاحية .

وقد قلت في مقدمة ذلك الكتاب :

ما أقدمه اليوم إنما هو ذكريات وخواطر وأفكار، تحاول أن تقدم صوره للشيخ الإمام، صادره من معرفتي به، ومعايشتي له، وقراءتي وسماعي له، نحو نصف قرن من الزمان .

أجل لست أؤرخ للغزالي فما أنا بالمؤرخ، ولكني أشير إلى ملامح من حياته وسيرته، عرفتها عن معايشه وقرب، ولا ازعم أنى رسمت له صوره بينة الملامح، فما أنا ممن يحسن الرسم .

وربما قيل: إنك تكتب بقلم المحب لا بقلم الناقد، وأنا أشهد أني أحب الغزالي و أتقرب إلى الله بحبه، ولكني لم أعْد الحق فيما خط قلمي، ولا ينبغي أن يغمط الإنسان من يحب، فرارا أن يتهم بالتحيز، فالعدل يحكم القريب والبعيد، والصديق والعدو ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) .

و إني لأنكر علي الإسلاميين أنهم لا يعطون مفكريهم وعلماءهم وأدباءهم ما يستحقون من تكريم وتقدير، ينزلهم منازلهم ،في حين يصنع العلمانيون والماركسيون هالات مكبرة حول رجالاتهم، حتى يجعلوا من الحبة قبة، ومن القط جملا! وصدق فيهم قول الشاعر :

وبقيت في حلْف يزين بعضهم بعضا ليدفع معور عن معور !

وإذا قيل : انك تنظر إلى الشيخ بعين الرضا، وعين الرضا لا تبصر العيوب، فحسبي أن أقول: أنى لا أزعم أن الغزالي مبرأ من العيوب، فما هو بالملك المطهر، ولا بالنبي المعصوم ،وإنما هو بشر يخطئ كما يخطئ البشر، ويصيب كما يصيب البشر، ولكن أخطاءه وزلاته مغمورة في محيط حسناته وميزاته .

و " إذا بلغ الماء القلتين لم يحمل الخبث "، فكيف إذا كان بحرا لا تكدره الدلاء ؟!.

والحق أن هذا الكتاب أو هذه الدراسة التي قدمتها عن الشيخ الغزالي - رحمه الله - : أثبتت أننا أمام قائد كبير من قادة الفكر والتوجيه، وإمام فذ من أئمة الدعوة والتجديد. بل نحن أمام مدرسة متكاملة متميزة من مدارس الدعوة والفكر والإصلاح، لها طابعها، ولها أسلوبها، ولها مذاقها الخاص. وتحتاج إلى دراسات عده لإبراز خصائصها ومواقفها وآثارها .فليس الغزالي ملك نفسه،ولا ملك جماعة او حركة ولا ملك قطر ولا شعب ،بل هو ملك الأمة الإسلامية جمعاء .

لقد عاش الشيخ- رحمه الله - بشعور يغمره ويملأ فؤاده ووجدانه أبدا : أنه حارس من حراس هذا الدين الأيقاظ، ولا ينبغي أن يؤتي الدين من قبله وتفريطه، بل يجب أن يتنبه دائما لأعدائه في الداخل والخارج ،وأن يقف لهم بالمرصاد مدافعا ذائدا، بل مقاتلا مهاجما، فخير وسيله للدفاع الهجوم، لا يلقي السلاح، ولا ينشد الراحة، ومعركة المصحف في العالم الإسلامي قائمة، والحرب علي الإسلام وأمته دائرة ،لم ينطفئ لها أوار، والدم الإسلامي مستباح، واكثر الموكلين بالحراسة يغطون في نوم عميق، أو مشغولون بالجدل حول فروع المسائل، وصغائر الأمور !.

لقد كتبت الأقدار علي الشيخ أن يحارب في جبهتين واسعتين :

الأولى : جبهة الخصوم الكائدين للإسلام، المتربصين به الشر، الكارهين لانتشار النور وعودته إلى قيد الحياة من جديد.

بعض هؤلاء من خارج الإسلام، وخارج أرضه، من القوى العالمية التي تخافه أو تبغضه : من اليهودية والصليبية والشيوعية والوثنية، الذين اختلفت دياناتهم، واختلفت طرائقهم، ولكن اتحدت أهدافهم علي ضرب الإسلام، ووقف مسيرته، ووضع الأحجار والعثرات في طريقه ،وهم الذين قال الله فيهم: ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ) الأنفال :73 ( وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ) الجاثية : 19 .

وبعض آخر - للأسف الشديد - من داخل أرض الإسلام بل من أبناء المسلمين أنفسهم، وممن يحملون أسماء المسلمين : محمد وأحمد وحسن وحسين وعمر وعلي ... ولكنهم لا يضمرون للإسلام إلا شرا،ولا لدعاته إلا عداوة، ولا لشريعته إلا تنكرا .. وربما عادوه لأنه ضد شهواتهم المحرمة، وضد مظالمهم المفترسة، وضد مصالحهم الآثمة، وضد مطامعهم الفاجرة .

والجبهة الثانية : جبهة (الأصدقاء الجهلة) للإسلام ،الذين يضرون الإسلام أبلغ الضرر من حيث يريدون أن ينفعوه، ويهشمون وجهه من حيث يظنون انهم يدفعون ذبابة عنه ! هؤلاء الذين سماهم الشيخ ( الدعاة الفتانين ) الذين يشغلون الناس بالفروع عن الأصول، وبالجزئيات عن الكليات، وبالمختلف فيه عن المتفق عليه، وبأعمال الجوارح عن أعمال القلوب .

لقد كان يشكو من دعاة أغلبهم نكبة علي الإسلام، وقذى في عينه ! انهم لا يقرأون ولا يعانون، والقليل من الحقائق لديهم لا يضعونه في موضعه الصحيح، وعلل الأمة لا تلقى منهم أساة ولا بكاة، لأنهم مشدودون إلى جدليات الماضي السحيق، ولا يدركون ماجد حولنا، ولا الطفرات الهائلة التي قفزت بها الحياة علي أرضنا .

وإذا كان الجسم المصاب بفقر الدم يسقط في أول مراحل الطريق ،فالعقل المصاب بفقر المعرفة أعجز من أن يلاحق مطالب الجهاد، أو يلبي حاجات الحق .

إن مكمن الخطر علي مستقبل الإسلام ومستقبل أمته وصحوته، تكمن في هؤلاء الذين وجه إليهم الشيخ جل كتبه في المرحلة الأخيرة، عساهم أن يتعلموا من جهل، وينتبهوا من غفلة، وينتهوا من الإعجاب بالرأي والازدراء للغير، وان يتعلموا الذلة علي المؤمنين، والتوقير للكبار، والرحمة للصغار .

يقول الشيخ : ( والخطورة تجئ من أنصاف متعلمين أو أنصاف متدينين، يعلو الان نقيقهم في الليل المخيم علي العالم الإسلامي، ويعتمد أعداء الإسلام- في أوروبا وأمريكا- على ضحالة فكرهم في إخماد صحوة جديده لديننا المكافح المثخن بالجراح).

إن الحضارة التي تحكم العالم مشحونة بالأخطاء والخطايا، بيد أنها ستبقى حاكمة مادام لا يوجد بديل أفضل!.

هل البديل الأفضل جلباب قصير ولحيه كثة ؟ أو عقل أذكى، وقلب أنقى، وخلق أزكى، وفطرة أسلم، وسيرة أحكم ؟.

لقد نجح بعض الفتيان في قلب شجره التعاليم الإسلامية، فجعلوا الفروع الخفيفة جذوعا أو جذورا، وجعلوا الأصول المهمة أوراقا تتساقط مع الرياح.

وشرف الإسلام أنه يبني النفس علي قاعدة: ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) الشمس : 9 , 10 .

وأنه يربط الاستخلاف في الأرض بمبدأ : ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر ) الحج : 41 [2]

وهذا يخيف الشيخ الإمام ويثير فزعه على غد الأمة. يقول رحمه الله : ( لقد خامرني الخوف علي مستقبل امتنا لما رأيت مشتغلين بالحديث-ينقصهم الفقه- يتحولون إلى أصحاب فقه، ثم إلى أصحاب سياسة تبغي تغيير المجتمع والدولة علي نحو ما رووا وما رأوا .. !! .

إن أعجب ما يشين هذا التفكير الديني الهابط هو أنه لا يدري قليلا ولا كثيرا عن دساتير الحكم، وأساليب الشورى، وتداول المال، وتظالم الطبقات، ومشكلات الشباب، ومتاعب الأسرة، وتربية الأخلاق .. ثم هو لا يدري قليلا ولا كثيرا عن تطويع الحياة المدنية، وأطوار العمران لخدمه المثل الرفيعة، والأهداف الكبرى التي جاء بها الإسلام .

إن العقول الكليلة لا تعرف إلا القضايا التافهة، لها تهيج ،وبها تنفعل ،وعليها تصالح وتخاصم! هززت رأسي أسفا وأنا ارمق مسار الدعوة الإسلامية ! .

إن الرسالة التي استقبلها العالم قديما: استقبلها المقرور للدفء، واستقبلها المعلول للشفاء ،هانت على الناس فم يروا ما يستحق التناول، وهانت على أهلها فلم يدروا منها ما يرفع خسيستهم ويحمي محارمهم ) [3].

في مقدمه كتابه : ( الإسلام في وجه الزحف الأحمر ) كتب الشيخ يقول: رأيت أن أكتب هذه الصحائف الحافلة بالحقائق العلمية والتاريخية، و أودعتها صرخات قلب غيور علي دينه، شفيق علي أمته. وأعرف أنني بكتابتها سأتعرض لعداوات مميتة !! ولكن بئست الحياة أن نبقى ويفنى الإسلام !! .

وفي مقدمه كتاب : ( قذائف الحق ) قال الشيخ :

أعداء الإسلام يريدون الانتهاء منه، ويريدون استغلال المصائب التي نزلت بأمته ،كي يبنوا أنفسهم علي أنقاضها .

يريدون بإيجاز القضاء علي أمة ودين .

وقد قررنا نحن أن نبقى ،وان تبقى معنا رسالتنا الخالدة، أو قررنا أن تبقى هذه الرسالة، ولو اقتضى الأمر أن نذهب في سبيلها، لترثها الأجيال اللاحقة ! إلى أن يقول في نهاية المقدمة :

إن الله أخذ علي حملة الوحي أن يعالنوا به، ويكشفوا للناس حقائقه. وأكد عليهم ذلك في قوله تعالى : ( لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) ال عمران : 187 فما بد من البيان وعدم الكتمان .

وأعلم أن ذلك قد يعرض لمتاعب جسام، ولكني أقول ما قال صديقنا عمر بهاء الدين الاميري :

الهول في دربي وفي هدفي و أظل امضي غير مضطرب!

ما كنت من نفسي علي خور أو كنت من ربي علي ِريَب !

ما في المنايا ما احاذره الله ملء القصد والإرب !

( ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في امرنا وثبت أقدامنا وانصرنا علي القوم الكافرين ) آل عمران : 147 .

شيخنا الحبيب :

لقد فقدتك الأمة أحوج ما تكون إليك. فقدتك والمعركة بين -الإسلام وأعدائه- حامية الوطيس، والأعداء جاءوا الأمة من فوقها ومن أسفل منها، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وظن الناس بالله الظنون.( هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ).

كنا في حاجة إلى قلمك السيف، أو سيفك القلم، ليصول ويجول، مدافعا عن الحق في مواجهة الباطل، عن الإيمان في مواجهة الكفر ،عن الإسلام المحاصر من اليهودية العالمية ،والصليبية الغربية، والوثنية الشرقية ،ومن عملائهم في ديار الإسلام ممن ينتسبون إلى الإسلام وهو منهم براء.

فقدناك يا شيخنا، والمؤامرة تبيت، والمؤتمرات تعقد لضرب صحوة الإسلام - بيد أبنائه -تحت أسماء خداعة وعناوين كاذبة تحت (اسم الإرهاب) وهم أكبر الإرهابيين، وتحت عنوان( العنف )وهم أول من استخدمه، وتحت اسم (التطرف) وهم صانعو المتطرفين.

يريدون ألا يبقوا للجهاد جذوة تتقد ،ولا للدعوة شمعة تضيء، ولا للصحوة صوتا يجلجل، ولكنا تعلمنا منك أن كيد الله أقوى من كيدهم، ومكره سبحانه أسرع من مكرهم، ويده أشد من أيديهم .( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ) .

شيخنا الحبيب:

لا نجد كلمات في روعة بيانك نودعك بها. كل ما نقوله لك : إن العين لتدمع، وان القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا،وإنا لله وإنا إليه راجعون .

اللهم اغفر لشيخنا الغزالي وارحمه وأسكنه الفردوس الأعلى، وتقبله في عبادك المخلصين، واجزه خير ما تجزي به الأئمة الصادقين، واحشره مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ،وحسن أولئك رفيقا، وأجرنا في مصيبتنا فيه، واخلفنا فيه خيرا، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده ،واغفر لنا وله . آمين .

كتبه د. يوسف القرضاوي.
« آخر تحرير: 2018-03-12, 11:51:27 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6545
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: مختارات ...
« رد #63 في: 2018-04-24, 08:11:42 »
هذا إعلان  مشروع الجمعية الجديد مع الأطفال  emo (30): :

https://youtu.be/_ChRkebY7D0
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب