الساحة الثقافية > :: مما قرأت ::

عن الكون والإنسان والحياة...

(1/4) > >>

حازرلي أسماء:
بسم الله الرحمن الرحيم

منذ بداية هذا الكون، ومنذ بداية هذه الحياة، والإنسان يتساءل عن أسرار الكون، وعن أسرار وجوده هو ذاته، وعن سرّ الحياة...

ولو أنّ الله تعالى قد وفّر على الإنسان جهدا عظيما لمّا عرفه بالغاية من وجوده، وبالمنهج الذي عليه سلوكه، إلا أن الإنسان الظلوم الجهول، الجحود يأبى إلا أن يقفز على الحقيقة إلى الأخيِلة والأوهام والخرافة، ينسج من خياله، ومن فكره الذي أهم ميزاته النقص والهوى ما يريد أن ينسج عن معنى الحياة والكون، وعن غاية وجوده، فظهرت الفلسفة، وظهر المتفلسفون، وجعلوا يضعون للناس مناهج للحياة، كما برزت الخرافة نسيجا مُهلهلا تشبّث به الإنسان وصيّره العبادة والمعبود، وما يزال الإنسان إلى يومنا هذا يجادل في شأن الكون، وشأن غاية وجوده، ويقرّر عابثا لاهيا مصيّرا عقله إلها حاكما أنّ هذا الكون من صنع الصدفة، وأنّه لا إله والحياة مادة، وهرطقات وخلط وخبط العقل السليم منه براء، والفطرة السليمة منه براء...

إنسان عصر المادة، والعلم، والتكنولوجيا، يتبجّح ويقول الهراء وهو عالم، ويعتقد الباطل وهو عارف، وماذا عرف من أنكر الله، وماذا علم من جهل بالله ؟!

وعلى هذا فإنّ علينا أن نعرف خصائص التصور الذي بين أيدينا هبة من لدن رب العالمين، خصاص التصوّر الإسلامي، وسأحاول أن أجمع في هذا الموضوع مقتطفات من كتب تُعنى بهذا الأمر الجوهريّ... وستكون البداية مع كتاب قيّم عميق لصاحبه الشهيد سيد قطب تغمده الله بواسع رحمته
"خصائص التصور الإسلامي ومقوّماته " . وإن يسّر الله أعقبناه بغيره من الكتب التي تُعنى بتصحيح النظرة لهذا الكون، وللإنسان، وللحياة، والعلاقة التي تربط بعضها ببعض ...


حازرلي أسماء:
خصائص التصور الإسلامي ومقوماته -سيد قطب-

يبدأ رحمه الله كتابه بـ:كلمة في المنهج
وفيها يعرض للداعي من معرفة خصائص التصور الإسلامي، ذلك :

*لأنه لا بد للمسلم من تفسير شامل للوجود، ومن تفسير للحقائق الكبرى التي يتعامل معها، وطبيعة الارتباطات بين هذه الحقائق، حقيقة الكون، وحقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان . وحقيقة ارتباط كل هذا بخالق الكون سبحانه.
*ولا بد للمسلم  من معرفة حقيقة مركزه، وغاية وجوده، ودوره، وحدود علاقته بخالق هذا الكون، ولأنه بناء على هذه المعارف يتحدد منهج حياته، وطبيعة نظامه
*ومعرفة هذه الخصاص ضرورية من ناحية أن هذا الدين جاء لينشئ أمة سيدة، تقود البشرية لبرّ أمانها، بتحقيق منهج الله في الأرض، ولتنقذ البشرية من التصورات الضالة، ولقد تحققت القيادة البشرية على أيدي المسلمين الأوائل، بشكل  لم تعرف له البشرية نظيرا، أولئك كان مرجعهم القرآن، فكانت نت ظاهرة انبثاق أمة عظيمة من نصوص كتاب...!

وللكاتب في دور القرآن كلام عميق، من الأحسن نقله حرفيا:
"إن المسألة -في إدراك مدلولات هذا القرآن و إيحاءاته- ليست هي فهم ألفاظه و عباراته, ليست هي -تفسير القرآن- كما اعتدنا أن نقول!!  المسألة ليست هذه, إنما استعداد النفس برصيد من المشاعر و المدركات و التجارب التي صاحبت نزوله, و صحبت حياة الجماعة المسلمة و هي تتلقاه في خضم المعترك.. معترك الجهاد.. جهاد النفس و جهاد الناس, جهاد الشهوات و جهاد الأعداء. والبذل والتضحية والخوف والرجاء، والضعف والقوة، والعثرة والنهوض .. جو مكة، والدعوة الناشئة، والقلة والضعف، والغربة بين الناس .. جو الشعب والحصار، والجوع والخوف، والاضطهاد والمطاردة، والانقطاع إلا عن الله .. ثم جو المدينة : جو النشأة الأولى للمجتمع المسلم بين الكيد والنفاق والتنظيم والكفاح .. جو بدر وأحد والخندق والحديبية وجو الفتح وحنين وتبوك وجو نشأة الأمة المسلمة نشأة نظامها الاجتماعي، والاحتكاك الحي بين المشاعر والمصالح والمبادئ في ثنايا النشأة ومن خلال التنظيم . في هذا الجو الذي تنزلت آيات القرآن حية نابضة واقعية .. كان للكلمات وللعبارات دلالاتها وإيحاءاتها .. وفي مثل هذا الجو الذي يصاحب محاولة استئناف الحياة الإسلامية من جديد، يفتح القرآن كنوزه للقلوب، ويمنح أسراره ويشيع عطره، ويكون فيه هدى ونور.."

فيرى الكاتب أنه ببُعد الناس عن الحياة الواقعية بأجواء القرآن كما أسلف، لم يكن بدّ من تقديم حقائق التصور الإسلامي عن الله والكون والحياة والإنسان. وذلك من خلال النص القرآني .
ويشير إلى نقطة جوهرية، أنه لا يبغي بهذا معرفة باردة بل يبغي حركة في عالم الواقع، -وكما يقول- يبغي أن ترجع البشرية إلى ربها وإلى منهجه الذي أراده لها ...

نشأة الفلسفة الإسلامية
يعرّج إلى فترة من فترات الحضارة الإسلامية التي وقع فيها الاحتكاك بين المسلمين والبلاد المفتوحة للإسلام، وبعض ما جرّه هذا الاحتكاك من تأثر بدراسات غربية لاهوتية أدخلت على المسيحية، أدى إلى بروز انحرافات واتجاهات غريبة عن التصور الإسلامي، تصدّى لها مجموعة من علماء المسلمين، بردود وتوضيحات حول ذات الله وصفاته، وحول القضاء والقدر، وتواجدت الفرق المختلفة، من مرجئة ومعتزلة، وشيعة وغيرهم، كما أن منهم من فُتِن بالفلسفة فظنوا أن الفكر الإسلامي لا يكتمل إلا إذا ارتدى ثياب الفلسفة، فكانت محاولة إنشاء الفلسفة الإسلامية، فصبوا التصور الإسلامي في قالب فلسفي...
يشير الكاتب إلى نقطة جوهرية، وهي غربة الفلسفة الإسلامية ومباحث علم الكلام عن الإسلام وطبيعته وحقيقته، لما هو كائن من جفوة عظيمة بين منهج الفلسفة ومنهج العقيدة...

ضرورة صياغة التصور الإسلامي من القرآن لا من غيره :

وبهذا يرى سيد قطب رحمه الله، أنّ الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، والنزاعات التي نشبت بين مختلف الفرق التي ظهرت، لم تحقق إلا خبطا وخلطا،  إذ قد وقع تعسّف من بعض  علماء المسلمين في التوفيق بين كلام الحكماء والعقيدة الإسلامية، ولا يستقيم التوفيق بين ما مصدره التوحيد، وما مصدره الوثنية.وهو ما سمي "الفلسفة الإسلامية". ولا يُتخلَّص من هذا الخلط  إلا بصياغة التصور الإسلامي من القرآن الكريم، الذي منه تستمدّ مقوماته، والذي له خصائصه التي تميّزه عن باقي التصورات ...

والفكر الغربي أيضا لا تُستعار قوالبه للفكر الإسلامي:


لأن الفكر الغربي مصدره ذلك العداء الظاهر مع الكنيسة، ومع الفكر الديني عموما، لما مارسته الكنيسة من اضطهاد لكل فكر علمي، مستمدة سلطانها من الوثنيات البعيدة كل البعد عن الدين النصراني السماوي .

إذن فإنه القرآن وحده  مصدر هذا التصور لا غيره :


وحده القرآن هو المصدر الذي يجب الاحتكام إلى نصوصه لصياغة التصور الإسلامي، دون مقررات مسبقة من أي مصدر آخر، إذ أن الله تعالى في القرآن قد وضع للإنسان منهج حركته في هذه الحياة منّة منه وفضلا حتى لا يبقى الإنسان في التَّيه والضلال ...

وقد أعجبني تنويه الكاتب إلى أنه في مبحثه عن خصائص التصور الإسلامي مستمدّها من القرآن لن يركز على انحراف فكري سادَ، ليدفعه بالتصور الإسلامي الذي يصوغه، إذ أن ذلك مدعاة لنشأة انحراف جديد، ومن  شاكلة هذا الانحراف ما يفعل المدافعون عن الإسلام في وجه المهاجمين له من المستشرقين والملحدين، فيضرب لذلك مثالا:
يتعمد بعض الصليبيين والصهيونيين مثلاً أن يتهم الإسلام بأنه دين السيف، وأنه انتشر بحد السيف... فيقوم منا مدافعون عن الإسلام يدفعون عنه هذا "الاتهام"! وبينما هم مشتطون في حماسة "الدفاع" يسقطون قيمة "الجهاد" في الإسلام، ويضيقون نطاقه ويعتذرون عن كل حركة من حركاته، بأنها كانت لمجرد "الدفاع"! - بمعناه الاصطلاحي الحاضر الضيق! - وينسون أن للإسلام - بوصفه المنهج الإلهي الأخير للبشرية - حقه الأصيل في أن يقيم "نظامه" الخاص في الأرض، لتستمع البشرية كلها بخيرات هذا "النظام"... ويستمتع كل فرد - في داخل هذا النظام - بحرية العقيدة التي يختارها، حيث "لا إكراه في الدين" من ناحية العقيدة... أما إقامة "النظام الإسلامي" ليظلل البشرية كلها ممن يعتنقون عقيدة الإسلام وممن لا يعتنقونها، فتقتضي الجهاد لإنشاء هذا النظام وصيانته، وترك الناس أحراراً في عقائدهم الخاصة في نطاقه، ولا يتم ذلك إلا بإقامة سلطان خير وقانون خير ونظام خير يحسب حسابه كل من يفكر في الاعتداء على حرية الدعوة وحرية الاعتقاد في الأرض!


حازرلي أسماء:
ودائما مع كلمته التي خصصها عن المنهج :

الخطر في علاج انحراف بانحراف آخر :

يضرب مثالا بالبحوث التي ألفت للرد على الانحرافات، الشيخ محمد عبده الذي كان بين مطرقة بيئة فكرية جامدة تنكر على العقل التدخل في فهم الشريعة واستنباط الأحكام، وسندان تأليه أوروبا للعقل مع سيادة الفلسفة العقلية فيها، فراح يثبت أن للعقل دروه في الاجتهاد والعمل والحياة، وأن الإسلام لم يقضِ على دور العقل -كما ادعى الإفرنج- بالجبر وإبعاد الاختيار، فوقع في الغلوّ فساوى بين العقل والوحي، بينما لا تكافؤ بين الاثنين، إذ أن الوحي يعرض أحيانا لما فوق الإدراك العقلي البشري المحدود بالزمان والمكان والحدوث، يعرض للكليات والحقائق المطلقة مثل الألوهية، والتي على العقل التسليم بها، لأنها تقع خارج حدوده، يقول :
فإطلاق كلمة "العقل" يرد الأمر إلى شيء غير واقعي! –كما قلنا- فهناك عقلي وعقلك وعقل فلان وعقل علان .. وليس هنالك عقل مطلق لا يتناوبه النقص والهوى والشهوة والجهل يحاكم النص القرآني إلى "مقرراته". وإذا أوجبنا التأويل ليوافق النص هذه العقول الكثيرة، فإننا ننتهي إلى فوضى! وقد نشأ هذا كله من الاستغراق في مواجهة انحراف معين.. ولو أخذ الأمر – في ذاته- لعرف للعقل مكانه ومجال عمله بدون غلو ولا إفراط، وبدون تقصير ولا تفريط كذلك. وعرف للوحي مجاله. وحفظت النسبة بينهما في مكانها الصحيح..
إن "العقل" ليس منفياً ولا مطروداً ولا مهملاً في مجال التلقي عن الوحي، وفهم ما يتلقى وإدراك ما من شأنه أن يدركه، مع التسليم بما هو خارج عن مجاله. ولكنه كذلك ليس هو "الحكم" الأخير. وما دام النص مُحكماً، فالمدلول الصريح للنص من غير تأويل هو الحكم. وعلى العقل أن يتلقى مقرراته هو من مدلول هذا النص الصريح. ويقيم منهجه على أساسه

وتحت عنوان جديد :

تيه وركــــــــــــام


بيّن الكات أن الإسلام قد جاء والعالم يخبط في ركام من التيه والضلال الكريه، الذي حرّف فيه التصور السليم الذي جاء به الأنبياء عن الوجود، ومركز الإنسان فيه، وعن الكون والحياة، جاء الإسلام في ظل سوداوية لم تكن لتنقشع إلا برسالة سماوية شاملة كاملة تبدّد الظلام، وتنير التّيه، وقد خبط الناس وخلطوا ليس لأن التفكيرالديني كان هو الطابع، كما يقو لمفكرو الغرب، بل للأن :
* في الإنسان حاجة فطرية لمعرفة علاقته بالكون، وبخالقه ، ومركزه في الوجود ودوره فيه.وذلك بعقيدة تفسر له ما حوله.
*للترابط والتلازم بين التصور الاعتقادي والنظام الاجتماعي، وكل نظام اجتماعي لا يقوم على أساس التفسير الشامل للوجود، ولمركز الإنسان فيه نظام باهتٌ ضار لا يدوم.

ثم يسرد الكاتب نماذج من الركام الذي جثم عى صدر البشرية، بذكره ما أحدثه اليهود من تحريفات في كتبهم، أدت إلى طغيان الوثنية والخرافة عليها، وورود التصورات العجيبة الغريبة عن الله فيها، بتجرؤاتهم على ذاته سبحانه، ليس بعيدا عن الوثنية العمياء، وكذا النصارى الذين مرت بهم الجولة الرومانية فأشبعت كتابهم السماوي بروحها الوثنية، واختلطت تعاليم النصرانية بالوثنية في عهدها أشد اختلاط، خاصة في عهد قسطنطين، فحرفوا وبدلوا، وصاغوا لله تصورات مقززة، ورد الكثير منها في القرآن الكريم، من مثل ادعئهم الولد له تعالى سبحانه عن ذلك، أو أنه ثالث ثلاثة..
ثم سذكر حال الجزيرة العربية التي نقلت من النصرانية واليهودية المحرَّفَتَين إضافة إلى تخرصاتها في تحريف الحنيفية الإبراهيمية، فجعلت الملاكة بنات الله، وجعلت بين الله والجن نسبا، وكانوا يؤمنون بأنه الخالق والمصور، ولكنهم لم يكونوا يرتضون بتحكيم أمره في حياتهم... حتى جاء الإسلام مصححا، وفي ذلك قول جميل للكاتب :

 ولقد جاء الإسلام –وهذا ما يستحق الانتباه والتأمل- بما يعد تصحيحاً لجميع أنواع البلبلة، التي وقعت فيها الديانات المحرفة، والفلسفات الخابطة في الظلام. وما يعد رداً على جميع الانحرافات والأخطاء التي وقعت فيها تلك الديانات والفلسفات .. سواء ما كان منها قبل الإسلام وما جدّ بعده كذلك .. فكانت هذه الظاهرة العجيبة إحدى الدلائل على مصدر هذا الدين .. المصدر الذي يحيط بكل ما هجس في خاطر البشرية وكل ما يهجس، ثم يتناوله بالتصحيح والتنقيح!

ويقول في آخر هذا العنوان :
إن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها، وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها .. إن هذا كله لا يتجلى للقلب والعقل، كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية –السابقة للإسلام واللاحقة- عندئذ تبدو هذه العقيدة رحمة .. رحمة حقيقية .. رحمة للقلب والعقل. ورحمة بالحياة والأحياء. رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق، وقرب وأنس، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق..
وصدق الله العظيم:"أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى؟ أم من يمشي سوياً على صراط مستقيم؟".
 

حازرلي أسماء:
خصائص التصور الإسلامي

يبيّن الكاتب رحمه الله، أنّ للتصور الإسلامي خصائصه الت تميّزه عن كل تصور غيره، ورأس هذه الخصائص، والتي تنبثق منها كل الخصائص الأخرى،" الربانية"، وللفائدة أحب أن أضع هذا الكلام الثمين والعميق له عن التصور الإسلامي وربانيّته :

إنه تصور رباني. جاء من عند الله بكل خصائصه، وبكل مقوماته، وتلقّاه "الإنسان" كاملاً بخصائصه هذه ومقوماته، لا ليزيد عليه من عنده شيئاً، ولا لينقص كذلك منه شيئاً. ولكن ليتكيف هو به وليطبق مقتضياته في حياته..
وهو –من ثم- تصور غير متطور في ذاته، إنما تتطور البشرية في إطاره، وترتقي في إدراكه وفي الاستجابة له. وتظل تتطور وتترقى، وتنمو وتتقدم، وهذا الإطار يسعها دائماً، وهذا التصور يقودها دائماً. لأن المصدر الذي أنشأ هذا التصور، هو نفسه المصدر الذي خلق الإنسان. هو الخالق المدبر، الذي يعلم طبيعة هذا الإنسان، وحاجات حياته المتطورة على مدى الزمان. وهو الذي جعل في هذا التصور من الخصائص ما يلبي هذه الحاجات المتطورة في داخل هذا الإطار.
وإذا كانت التصورات والمذاهب والأنظمة التي يضعها البشر لأنفسهم – في معزل عن هدي الله –تحتاج دائماً إلى التطور في أصولها، والتحور في قواعدها، والانقلاب أحياناً عليها كلها حين تضيق عن البشرية في حجمها المتطور! وفي حاجاتها المتطورة.. إذا كانت تلك التصورات والمذاهب والأنظمة التي هي من صنع البشر، تتعرض لهذا وتحتاج إليه، فذلك لأنها من صنع البشر! الشر القصار النظر! الذين لا يرون إلا ما هو مكشوف لهم من الأحوال والأوضاع والحاجات في فترة محدودة من الزمان، وفي قطاع خاص من الأرض.. رؤية فيها –مع هذا- قصور الإنسان وجهل الإنسان، وشهوات الإنسان، وتأثرات الإنسان. فأما التصور الإسلامي –بربانيته- فهو يخالف في أصل تكوينه وفي خصائصه، تلك التصورات البشرية، ومن ثم لا يحتاج – في ذاته- إلى التطور والتغير .. فالذي وضعه يرى بلا حدود من الزمان والمكان. ويعلم بلا عوائق من الجهل والقصور. ويختار بلا تأثر من الشهوات والانفعالات. ومن ثم يضع للكينونة البشرية كلها، في جميع أزمانها وأطوارها .. أصلاً ثابتاً، لتدور الحياة البشرية حوله، وتتحرك في إطاره. وهو مصنوع بحيث يسعها دائماً ويشدها دائماً. وهي تنمو وترتقي. وهي تتطور وتتحرك إلى الأمام.
وهو –من ثم- كامل متكامل. لا يقبل تنمية ولا تكميلا، كما لا يقبل "قطع غيار" من خارجه. فهو من صنعة الله، فلا يتناسق معه ما هو من صنعة غيره. والإنسان لا يملك أن يضيف إليه شيئاً، ولا يملك أن يعدل به دائماً إلى الأمام .. جاء ليضيف إلى قلبه وعقله، وإلى حياته وواقعه. جاء ليوقظ كل طاقات الإنسان واستعداداته، ويطلقها تعمل في إيجابية كاملة، وفي ضبط كذلك وهداية، وتؤتى أقصى ثمراتها الطيبة، مصونة من التبدد في غير ميدانها، ومن التعطل عن إبراز مكنونها، ومن الانحراف عن طبيعتها ووجهتها، ومن الفساد بأي من عوامل الفساد.. وهو لا يحتاج –في هذا كله- إلى استعارة من خارجه، ولا إلى دم غير دمه! ولا إلى منهج غير منهجه. بل إنه ليحتم أن يتفرد هو في حياة البشر، بمفهوماته وإيحاءاته ومنهجه ووسائله وأدواته. كي تتناسق حياة البشر مع حياة الكون- الذي تعيش في إطاره – ولا تصطدم حركته بحركة الكون فيصيبها العطب والدمار!.
   وهو –من ثم- شامل متوازن منظور فيه إلى كل جوانب الكينونة البشرية أولاً. ومنظور فيه إلى توازن هذه الجوانب وتناسقها أخيراً. ومنظور فيه كذلك إلى جميع أطوار الجنس البشري، وإلى توازن هذه الأطوار جميعاً. بما أن صانعه هو صانع هذا الإنسان .. الذي خلق، والذي يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير. فليس أمامه –سبحانه- مجهول بعيد عن آفاق النظر من حياة هذا الجنس، ومن كل الملابسات التي تحيط بهذه الحياة .. ومن ثم فقد وضع له التصور الصحيح. الشامل لكل جوانب كينونته، ولكل أطوار حياته.. المتوازن مع كل جوانب كينونته ومع كل أطوار حياته. الواقعي المتناسق مع كينونته ومع كل ظروف حياته.
وهو – من ثم- الميزان الوحيد الذي يرجع إليه الإنسان في كل مكان وفي كل زمان، بتصوراته وقيمه، ومناهجه ونظمهن وأوضاعه وأحواله، وأخلاقه وأعماله.. ليعلم أين هو من الحق. وأين هو من الله. وليس هنالك ميزان آخر يرجع إليه، وليس هنالك مقررات سابقة ولا مقررات لاحقة يرجع إليها في هذا الشأن .. إنما هو يتلقى قيمه وموازينه من هذا التصور، ويكيّف بها عقله وقلبه، ويطبع بها شعوره وسلوكه، ويرجع في كل أمر يعرض له إلى ذلك الميزان: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. ذلك خير وأحسن تأويلاً".(النساء: 59)


إذن فهو :
* تصور لا يتطور، بل هو محور ثابت يدور الإنسان حوله في كل زمان وفي كل مكان، هو الذي يرقّي الإنسان ويطوّره
*لا يحتاج لأن يُزاد عليه، فهو كامل من ذاته وفي ذاته.
*شامل كامل، يمسّ كل جوانب حياة الإنسان .
*من الخطأ استعارة أي منهج، وأي فكر بشري للتعامل مع هذا التصور .
* هو الميزان المرجع في كل زمان وفي كل مكان.

أولى الخصائص وأهمها : الربانيّة

أولى وأهم خصائص هذا التصور، أنه تصور اعتقادي موحى به من الله، محصور في هذا المصدر لا يُستمدّ من غيره، وهو ما يميّزه عن التصورات الفلسفية التي تنشأ في الفكر، فتبقى في حدود المعرفة الفكرية، بينما التصور الاعتقادي يتلبّس بكل جوانب الحياة ، ويميّزه أيضا من المعتقدات الوثنيّة التي تنشأ من أخيلة البشر وأوهامهم .وكما يقول: فهو وشيجة حيّة بين الإنسان والوجود، أو بين الإنسان وخالق الوجود.

تتلقاه الكينونة البشرية من بارئها، وعمل الإنسان فيه هو التلقي والإدراك والتكيّف به، وتطبيق مقتضياته في الحياة البشرية.

* هو من عند الله  هبة ربانية .
* لا دخل للفكر البشري فيه، ولا حتى فكر الرسول الذي هو مبلغ أمين، مهتد به، وهاد به.
* هداية القلوب به، وشرح الصدور له أمر خارج عن نطاق الرسول، وهو بيد الله وحده .



حازرلي أسماء:
وفي مدار تبيين حدود العقل البشري، والفكر البشري، والكينونة البشرية ككل :

عرفنا أنّ أولى خصائص التصور الإسلامي الربانية، تلك التي ينصّ عليها القرآن في مواضع كثيرة، من مثل قوله تعالى :
"وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى(1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى(2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)" -النجم-
" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ... " -المائدة 67-

وهذا التنصيص على وحدة المصدر وتفرّدها، يؤكد على :
* أنه مبرأ من النقص والهوى والجهل، والتي لا يسلم منها عمل بشري .
* أنه التصور الموافق للفطرة البشرية.
* يقوم عليه أقوم  وأشمل منهج للحياة.

جميل جدا، ذلك التوازن الذي يراعيه الكاتب رحمه الله فيما يعرض، فهو إذ يبيّن شمولية وكمال التصور الإسلامي لربانية مصدره الكلي الكامل، المطلق، الذي لا يحدّه زمان ولا مكان، وأنه المنهج الذي على الإنسان التكيف وفق مقتضياته، والعيش بإملاءاته، يعود ويوضّح أنه لا يعني بذلك إعدام دور دور العقل، والفكر البشري، فيقول :

ولكن إذا كان الفكر البشري لم ينشئ هذا التصور، فإنه ليس منفياً من مجاله، ولا محظوراً عليه العمل فيه. بيد أن عمله هو التلقي والإدراك والتكيف والتطبيق في واقع الحياة .. غير أن القاعدة المنهجية الصحيحة للتلقي – كما أشرنا في "كلمة عن المنهج" – هي هذه .. إنه ليس للفكر البشري أن يتلقى هذا التصور بمقررات سابقة، يستمدها من أي مصدر آخر، أو يستمدها من مقولاته هو نفسه، ثم يحاكم إليها هذا التصور، ويزنه بموازينها.. إنما هو يتلقى موازينه ومقرراته من هذا التصور ذاته، ويتكيف به، ويستقيم على منهجه. كما يتلقى الحقائق الموضوعية في هذا التصور من المصدر الإلهي الذي جاء بها، لا من أي مصدر آخر خارجه. ثم هو الميزان الذي يرجع بكافة ما يعين له، من مشاعر وأفكار، وقيم وتصورات، في مجرى حياته الواقعية كذلك. ليزنها عنده، ويعرف حقها من باطلها، وصحيحها من زائفها: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"…(النساء: 59)

ويقول أيضا:

وفي الوقت ذاته يعتبر الفكر البشري – في ميزان هذا التصور- أداة قيمة وعظيمة، يوكل إليها إدراك خصائص هذا التصور ومقوّماته – مستقاة من مصدرها الإلهي- وتحكيمها في كل ما حوله من القيم والأوضاع. دون زيادة عليها من خارجها، ودون نقص كذلك منها .. ويبذل منهج التربية الإسلامي لهذه الأداة العظيمة من الرعاية والعناية، لتقويمها وتسديدها وابتعاثها للعمل، في كل ميدان هي مهيأة له .. الشيء الكثير.

وأمام هذا يبيّن أسباب كون دور الفكر البشري إزاء التصور الإسلامي هو التلقي والتكيّف، ويحدّدها في سببين هما:

1-طبيعة الإنسان : وهو الحادث، الذي لا هو أزلي، ولا هو أبدي، المحدود بالزمان والمكان، فما لا تدركه الكينونة البشرية من إدراك ماهية وكيفية، لا يصعب عليها بمنطقها الذي يسلّم بالحقيقة البسيطة التسليم به في طمأنينة، من مثل حقيقة الله وصفاتها، إذ هو مجال السرمدية والأزلية الأبدية الكلية المطلقة الذي لا تملك الكينونة البشرية محدودة الطبيعة الإحاطة به .

2- وظيفة الإنسان : وهي الخلافة في الأرض، والتي لأجلها جعل الله للفكر البشري ما يستطيع ري إدراكه ليسخّره في وظيفته، كما جعل ما لا يستطيع  إدراكه لعدم حاجته له في وظيفته .

والإنسان لا يستطيع مثلا أن يدرك كنه الذات الإلهية، لعدم وجود ما يماثلها، وهو ما يبينه القرآن في غير ما موضع، ولا يستطيع أن يدرك مسألة المشيئة الإلهية وتعلقها بالخلق، كخلق آدم من تراب، وكخلقه عيسى عليه السلام من غير أب، ولا يستطيع إدراك كنه الروح، ولا الغيب.

وما عدا مثل هذه الأمور، فالفكر البشري مدعو للنظر، وللعمل، فيقول:
وما من دين احتفل بالإدراك البشري، وإيقاظه، وتقويم منهجه في النظر، واستجاشته للعمل، وإطلاقه من قيود الوهم والخرافة، وتحريره من قيود الكهانة والأسرار المحظورة.! وصيانته في الوقت ذاته من التبديد في غير مجاله، ومن الخبط في التيه بلا دليل .. ما من دين فعل ذلك كما فعله الإسلام..
ومن من دين وجه النظر إلى سنن الله في الأنفس والآفاق، وإلى طبيعة هذا الكون وطبيعة هذا الإنسان، وإلى طاقاته المذخورة وخصائصه الإيجابية، وإلى سنن الله في الحياة البشرية معروضة في سجل التاريخ .. ما من دين وسّع على الإدراك في هذا كله ما وسّع الإسلام.

تصفح

[0] فهرس الرسائل

[#] الصفحة التالية

الذهاب الى النسخة الكاملة