الساحة العامة > :: بيت العيلة ::

في ظلال القرآن :: 2016 ::

<< < (24/24)

حازرلي أسماء:
سورة الملك ...

تُفتتح هذه السورة العظيمة بقوله سبحانه يصف ذاته العليّة : "تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ "
لا تشبيه ولا تمثيل، سبحانه، المُلك كله قبضة يده... كناية عن القدرة الكاملة، والعظمة المتناهية. حتى أن الكون بما فيه عنده قبضة: "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ" –الزمر:67-

... فنقرأ أول ما نقرأ بعدها ما يزيد في بيان طلاقة هذه القدرة :" وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " .
قدرته التي نمّت عنها تلك القبضة الإلهية العظيمة، ليست قدرة محدودة، بل هي قدرة طليقة لا تحدّها حدود، وليس شيء من الأشياء بمعجِزه سبحانه ...

إنه الملك سبحانه، والملوك مِلْء الأرض زمانا ومكانا، ولا يُعرف عن أحدهم أنه الذي قدر على كل شيء ... بل إن ملكه مهما بلغ لن يتعدى حدود مكان هو حاكمه، بل إنّ ما هو تحت حكمه وأمره، لا ينفي أن يكون فيه لرعيّته ما يملكون وليس له أن يملكه ...
سبحانه الملِك القدير ... الذي لا تحدّ قدرتَه حدودٌ ...

وإنّ أبرز وأهمّ ما يختصّ به المَلِكُ سبحانه ...الخَلْق...

وليس يخلق غيرُه ...وإنّ أول ما يتبادر إلى الذهن مع قضية الخلق، خلق الإنسان، وخلق الكون بما فيه بسماواته وأرضه، وأفلاكه، وكواكبه ومجرّاته، وبجباله وبحاره، وبكل ما فيه ... ولكن لن يتبادر إلى الذهن ما ذكره الله سبحانه في هذه السورة من خلقه... بل إنه الجمع الوحيد في القرآن كلّه بين هذين المخلوقين اللذَين لا يخطران على بال الإنسان أول ذكره لقضية الخلق ...

"الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ"
لم يأتِ هنا ذكرخلقه للإنسان ولا للكون، بل جاء خلقُه لعوارض تعرض لمخلوقاته...الموت والحياة ...

فلنتأمل ...
إننا عندما نتحدث عن قضية الخلق، لا نفكر معها إلا بما يوجده الله سبحانه لأحد أمرَيْن، إما لتُبثّ فيه الحياة فيحيا، أو ليكون سُخرةً للحيّ والحياة ... خَلْقُهُ الإنسانَ والنباتَ والحيوانَ، مخلوقات تُبث فيها الحياة لتحيا.

أو خلقه للجبال والبحار والشمس والقمر والنجوم وغيرها من كلّ مسخّر لحياة الإنسان ...
ولكن في هذه السورة تحديدا وحصرا يذكر الله تعالى خلقه للموت والحياة، وخلقه للموت بوجه خاص هو الذي يلقي على النفس ظلالا من الرهبة والهيبة، والإكبار لهذا المعنى العظيم، ظلالا من التساؤل عن خلق الموت... وأيّ سِمة في الموت تجعلها تدخل تحت أحد الأمرَيْن السابقَيْن ؟!
أهي المخلوق الذي ستبثّ فيه الحياة ليحيا، أم أنّه الذي سيسخّر للحياة ؟!
كلاهما لا تدخل الموت في دائرته ... إنها الموت ! خلق الموت ...بل وإن ذكر خلقها لسابق حتى لذكر خلق الحياة ... !

تأمل معي ... أليس سبحانه قد خلق الموت هي الأخرى للحياة، وقد خلق الحياة للموت ...؟!

بلى... بلى... قد خلق الموت لتكون نهاية الحياة...
لم يخلق الحياة وحدها، بل خلقها وخلق معها الموت، لتكون الحال الذي يعرض للحياة فيُعدِمها، كما خلق الحياة أيضا للموت، لتؤول أخيرا إلى الموت ...

ولولا الموت، لما تحقّق للدنيا أن تكون دار ابتلاء : " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا " .
إنه ذلك الفاصل بين الدارَيْن، دار العمل، ودار الجزاء ... دار عمل لم تكن ولم يُخلق فيها الإنسان إلا ليُبتلى، ودار جزاء على ما كان من ابتلاء، فكان الموت بمثابة القطار الذي ينقل من دار إلى دار ...!

ومَن ذا يقدر على الإحياء والإماتة غير الله...الملك سبحانه .... ؟!

فذاك النمرود حينما تبجّح وتشدّق ردّا على إبراهيم عليه السلام : " إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ "... لم يسعه وإبراهيم عليه السلام يسأله أن يأتي بالشمس من المغرب إلا أن يُبهَت ...!

فإن الملك بين الملوك وإن كان أقدرَهُم وأوسعهم ملكا، وأبسطهم علما وجسما، لن يقدر على إحياء أو إماتة ...
وحده سبحانه الملك الذي هو على كل شيء قدير، ومَن ذا سِواه يقدر على الإحياء والإماتة ... ؟!

وكأنما سبحانه قد قرن الخلق بهذين العارِضَيْن المخلوقَين لتستبين طلاقةُ قدرته على كل شيء بهذا الذي لا يُعجِزُه، بينما يُعجِز أقدر الملوك وأوسعهم ملكا وسلطانا في كل زمان وفي كل مكان ...

بل إنهما وهما مقترنتان، مع بيان الغاية من خلقِهما والغاية من خلق الإنسان: " لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا " قد جمعتا في سِعة تعبير عجيبة فريدة بأقل الألفاظ إيجادَه سبحانه للدنيا بالإحياء (الحياة)، وإعدامه لها بالموت، وإيجاده للآخرة بعد الموت... إنه بيان أنه ملك الدارَيْن سبحانه...

وسيأتي في لاحق من الآيات تفصيل من سورة الملك ذاتها لمعنى: "أحسن عملا" ...

والجَمالات والكَمالات ودقة استخدام اللفظ... تترا كلها في هذه السورة التي تستوقفني في محطات منها كثيرة ...

فأجدني أتساءل، ما سرّ الإتيان بـ: "الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" تحديدا دون غيرها من أسماء الله سبحانه ؟ لا بدّ أنّ لموقعهما مجتمِعَين مناسبة ...

أما "الْعَزِيزُ" فهو الذي لا يُغلَب ولا يُقهَر سبحانه، ولا يكون إلا أمره ...وهذا مناسب أيّما مناسبة للملك ...
إنه تأكيد على أنه الملك الذي لا يُقهَر، الملك الذي لا يُغلب وكل الملوك تُقهر وتُغلَب إن لم يكن بهزيمة حرب، فبالموت الذي يتساوى فيه ملك ومملوك .
كما أنه الذي لا يَغلِبُ أمرَه وإرادتَه شيءٌ من فعل عباده في الأرض...

فمهما بلغ ظلم ظالم منهم وتسلط متسلط و تجبّر متجبّر، فإنّ ذلك كلّه لن يغلبَ أمره وفعله وإرادته، وإن بدا أنّ الإنسان عائث في الأرض فسادا وإفسادا، وإن تنادى أهل الإلحاد والكفر بوجود إله بأنّ الشرّ الذي في الأرض لا يناسب وجود إله عليم رحيم ...

إنه سبحانه الذي جعل الدنيا، وخلق الإنسان فيها ليُبتَلى ...ولا يكون الابتلاء إلا بأن يتحرك الإنسان وِفق ما يختار من طاعة أو عصيان، لا يكون الابتلاء إلا والإنسان يعرِض للشرّ كما يعرِض للخير...
وأما "الغَفُور" فهي التي تناسب كل المناسبة :" أحسن عملا"...
لأنه ما من إنسان وإن بلغ من الطاعة والإذعان والإيمان ما بلغ، إلا وله أخطاء وذنوب لا يغفرها له إلا الغفور الرحيم سبحانه ... كما أن المسيئ التائب أيضا معنيّ بهذه المغفرة، بل وداخل في دائرة "أحسنُ عملا" ... أليس هو القائل سبحانه : "وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" –آل عمران:133-

ثم نمضي مع "الملك" ... فإذا وصف جديد من الله لذاته العليّة، وما نزال في دائرة الخلق : "الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ(3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ(4)"

خالق السماوات السبع طباقا، مماثِلةً الواحدة منها للأخرى، منطبقة عليها وصفا وخلقا، وكائنة بعضها فوق بعض طبقة فوق طبقة ...لا يلحظ الرائي وهو يصعّد النظر فيها ما يشي بتفاوت في الطبقات، أو شقّ فيها يشي بنقص في تركيبها، أو بنائها طبقة فوق طبقة ...
لم تُثقل السماوات الستّ على سمائنا الدنيا حتى نرى فيها شقا يؤذن باحتمال تساقطها من ثقل ما تحمل ...
وإنه يحضرني ما قال المشركون بلسان التحدّي لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا " ...
ولكأنّي بهم والأعين منهم ترى السماء المتماسكة، التي لا يعرفون فيها شقا ولا فطورا، مِن يقينهم بتماسكها وقوتها، ليس في علمهم بحالها ما يدعوهم لاحتمال سقوطها كسفا وهي المتماسكة المتلاحمة ... !
لكأنّي بهم وهم يعلنون اللجاج والعناد والتكذيب والتحدّي لا ينتبهون ليقين عندهم بقوة هذا المخلوق، الدال على عظمة الخالق ... !!

" ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ"
يالهذا الوصف، وهذا التعبير، وهذا التصوير البديع الدقيق... ! يالِوقوفي مشدوهة، منبهرة، مأخوذة بسحر هذا الوصف، ودقّة هذا التصوير، وأنا أراني وبصري شيئَيْن لا شيئا واحدا ...! ذاتَيْن لا ذاتا واحدة !
إنه البصر منّي ... ولكأنّه ذاك المنفصل عنّي ...

لكأنّي به ذاك الرّسول، وأنا المُرسِل ... لكأنه الكائن المتحرّك المنفصل عن ذاتي ... أُرسِلُه لينظر ... ثم من جديد لينظر.. ومن جديد ... ومن جديد ... عساه يأتيني بنبأ يقين عن فُطور من هنا، أو فطور من هناك ...
ولكنه يعود ... وليت شعري كيف يعود ... !

يعود خاسئا، خائبا، تعِبا كليلا من فرط ما أرسلته ... لكأنّي به يعود خاشعا ذليلا ... لا يملك بما أودِع فيه أن يعود بخبر عن خلل في السماء ...
إنه رسولي إليها ... وهو الجزء منّي، كأنه المنفصل عنّي ... هكذا يوحي وصفُه، وهكذا هي حقيقته ...

إنه المخلوق في الإنسان، كأنّه يذكّر الإنسان ، ويعود له حاملا فطرة فُطر عليها، حاملا إقرارا بإتقان الصانع، إقرارا بعظمة الخالق الذي خلقه ...لكأنه الجزء منه المقرّ بخالقه وإن جحد الإنسان وأنكر، وإن كذّب وكفر...

سبحان الله ... وكأنّه شكل من أشكال تبرئ جوارح الإنسان من الإنسان في الدنيا ... وهي التي تتبرأ منه يوم القيامة إن باء بالخسار والبوار -عياذا بالله- . أليس سبحانه القائل : " حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " –فصلت:20-

يتبع مع تأملات لي في سورة الملك بإذن الله ...

حازرلي أسماء:
ومع سورة الملك... نمضي الهُوَينى ..
إنه المَلِكُ سبحانه، الذي هو على كل شيء قدير، الذي خلق الإنسان وجعل له الحياة للابتلاء، وجعل له الموت لينقله إلى الحياة الأخرى حيث يُجازى على ما كان من ابتلاء... وقد فاز من أحسن عملا ، والملك سبحانه العزيز الذي لا يُغلَب، الغفور لعباده على ما فوّتوا وما قصّروا ...

إنّ رحمة الملك العظيم سبحانه لتُلوِّح، وإنّ فجرَها النديّ ليَلُوحُ على صفحة القلب ونحن في حضرة المُلك والقدرة ...
رحمته في إنعامه بالخَلْق المُتقَن البديع : "الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ "... وفي مغفرته لعباده ...

وسنبصر هذه السورة، وسنُرجع البصر فيها، فإن الرحمة لا تغادرها ...
ومازال حديث المَلِك سبحانه عن السماء، وهذه المرة يخصّص عن السماء الدنيا، لتستبين من بين السّبع الطِّباق : "وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ"

ويستوقفني ما في هذه الآية من زينة...!

إنّ الزينة التي توشّح السماء جمالا ونورا يخترق العتمة وكأنها حبات لؤلؤ قد برزت من صدفاتها ...تلك الزينة التي تأخذ الألباب هي ذاتها السلاح المُشهَر في وجه الشياطين المترصّدة لأخبار السماء.. وسبحانه القائل في ذلك: " وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ(16) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ(17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ(18)" -الحِجر-

إنها الزينة، وإنها هي هي السلاح ... !

تلك النجوم الحسناء البهية، شأنها كشأن القمر...
قد عرف الإنسان على مدى الأعصار أنّها آيات من آيات الجمال، حتى إذا وَصَف جمال أحدهم قال عنه : كأنه القمر ليلة اكتماله، أو قال عن المرأة المضيئة: كأنها النجمة ...
وليس بعيدا عن العقل الذي يقيس ويشبّه أنّ المشبَّه به أعلى قيمة من المشبَّه ... فالقمر والنجوم مضرب المثل في الحسن والجمال ...

وإنها المرأة الحسناء، وإنها النجمة الحسناء، بل الأكثر حُسنا ...
ولكنّ الأولى تُغَرّ بلا ثناء بَلَه إذا أثنِي عليها ! بينما الثانية على حسنها مسبّحة مع كل ما يسبّح بحمده سبحانه، وذلك أكبر شُغلها، أن تؤدّي ما لأجله خُلِقت، وأن تسبّح بحمد ربها. فهي الزينة، وهي الهادية لمن استهدى في طريق، وهي السلاح المُشهَر في وجه الشياطين حفظا للسماء ...

لنتأمل ...
أليست تلك نهاية الشياطين إذا ترصدت لخبر السماء ؟! أليس قد حال هذا الرجم بالنجمات المزيّنات دون استراقهم لخبر الملأ الأعلى ؟

إنه بهذا يحقّ لنا أن نفهم على وجه الجزم واليقين كيف أنّ الأمر في السماء محسوم لا ريب ولا مِراء، لا مكان للشياطين فيها ... مذ أخرِج الشيطان من الجنّة، مذ أهبِط الأرض مع المُهبَطَيْن آدم وحواء، والأرض مستقرّ الابتلاء ، ولا يُحسم الأمر فيها إلا بعد زوال الدنيا ... أليس سبحانه القائل : "قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ(36)قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ(37)"-الحجر-...

بل إنّ مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان موعد الإبعاد الكليّ للشياطين من ذلك الفضاء، فلم يعد لهم من مكان حتى لاستراق السمع ، وقد نقل لنا الملك سبحانه ما قالته ألسنة النفر الذين آمنوا من الجنّ : "وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا(8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا(9)" -الجِن-

لكأنّ البَدْءَ بذكر حال السماء مع الشياطين في هذه السورة الجليلة بعد بيان أن الغاية من خلق الإنسان إنما هي الابتلاء، قد جاء ليبيّن بترتيب واتّساق وتنظيم أنّ الابتلاء مضماره أهل الأرض لا أهل السماء...

ولنتأمل ... فإذا الآية الموالية تؤكّد ما كان، وهذا التمييز بين المُبتَلين من خلق الله (البشر)، وبين المسيَّرين من خلقه (الملائكة) ...

وإنّ كون الإنسان مخيّرا لا مُسيّرا لَمِن تكريم الله له... إذ لا يُخيّر ولا يكلّف إلا من عُرف أنه أهل للاختيار ولأداء الأمانة.
فلقد تبيّن لنا من رجم النجوم للشياطين أنّ الأمر في السماء محسوم، وقد طُرِدوا منها، وأُبعِدوا عنها في الدنيا، مع ما ينتظرهم من عذاب في الآخرة : "وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ" ...

أما أهل الأرض، أتباع الشياطين منهم وأولياؤهم، فإن أمرهم في الدنيا ليس بالمحسوم، لأن الأرض هي مضمار عمل الشيطان من جهة، ولأنّه الطرف الأبرز في معادلة الابتلاء من جهة أخرى... في معادلة امتحان الإنسان أيعصي ربّه سبحانه ويتّبع الشيطان وغوايته، أم يطيع ربّه ويرجم الشيطان وقد برزت في نفسه لآلئ النجوم الهادية المخترقة لعتمات الأرض تعمّ وتطمّ كلّما أوغل الناس في اتباع الشيطان، الرُسُل والأنبياء الهُداة ...

لنُرجع البصر في سورتنا العظيمة، في آياتها المتتابعات المتسلسلات، التي تفصّل التالياتُ منها السابقات ... هل نرى من فطور ؟!

إن العقل ليوقن في كل مرة، آية بعد آية أنه كلام الملك العظيم ... ولا يكون كلام كهذا إلا من ربّ السماوات والأرض، ربّ الجمال والبيان...
"وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"
ها نحن مع هذه الآية ننزل إلى الأرض ... ننزل إلى حيث الابتلاء ... وإلى حيث الموت والحياة، لا الحياة وحدها كحال أهل السماء ...
إلى دار الابتلاء ... إلى حيث لم يُحسَم الأمر... وكيف يُحسَم وقد تقرر أنها للابتلاء والامتحان ... ؟! كيف يُحسم وقد تقرر أنّ الشيطان مُنظَرٌ إلى يوم يبعثون ؟!
إلى أتباع الشياطين وأوليائهم ... إلى من كفر بربّه ...

إنه عذاب جهنّم، عذاب الدار الآخرة، وأما عذاب الدنيا للكفرة فليس بكائن، والأمر في الأرض يُحسَم يوم الحسم العظيم، يوم يُبعثون ..

ثم يأتي تفصيل في شأن جهنّم وحال أهلها فيها بتصوير ليست دقّته إلا للقرآن العظيم وحده : "إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) "

ومرّة أخرى، يضفي سبحانه على ما لا يعقل صورة الذي يعقل، فإذا جهنّم –أجارنا الله منها – نعرف فيها صفات الغاضب الذي يكاد يُفتّته الغضب...
"إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ..."

يتبع مع تأملات لي في سورة الملك بإذن الله.

حازرلي أسماء:
تأمّلوا أمنيات سيدنا إبراهيم عليه السلام ... تأمّلوا شغله الشاغل، الذي ملأ عليه عقله وقلبه ما حيِي ... فلازمَه التفكير فيما يكون بعد ذهابه ... !
تأملوا "التفكير الإبراهيميّ البعديّ" الفريد ...!

لقد تمنّى الإمامة في ذريّته، كما جُعل هو للناس إماما ... لتستمرّ الإمامة للخير من بعده، وليطمئنّ على دوام التوحيد والدعوة إلى الله :
"وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ ..."
ولكنّه سبحانه بيّن له أنّه ليس شرطا أن تكون الإمامة في كل ذريّته، بل إنّ منهم ظالمين ليسوا لها أهلا :
"قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ"

وما يزال الخليل يلحّ على ربّه، وما تزال أمنيّته، وما يزال عليها مقيما، بل إنها لأوسَع وأشمَل... :
"رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ..."

يا ربّ... أمّة كاملة مسلمة لك ... !
هكذا فلتكن الأمنيات، هكذا فليتطلع المؤمن إلى عطاءات ربّه العظيم الواسع الكريم الذي لا ينقص من ملكه مقدار ذرّة وهو يعطي كل مَن سأل ...  هكذا فلتكن غاية أمانينا أن يدوم التوحيد في الأرض، وألا تنْبَتَّ صلة العبد بربّه الواحد الأحد.... هكذا فلنُجمِل في الطّلب.. ولتكن أمنياتنا للأمّة ... وللأرض قاطبة بالأمة المسلمة...
لقد دعا بالأمّة المسلمة ....  ولقد استجيب دعاؤه... ولقد كانت !!

ثم قال بعدها :
"رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "

ابعث يا ربّ من أهل هذه الأرض -حيث نرفع قواعد بيتك- رسولا ... ابعثه فيهم... ! لم يقل من ذريّتي، فلقد فقِه عن ربّه أنّ من ذريّته ظالمين، وأنّ عهد الله لا ينال الظالمين ... فدعا على الإطلاق والتعميم، لا على التخصيص،  برسول يُبعَث فيهم... فإن ما يهمّه وما يتمنّاه أن يُبعث رسول بالتوحيد والهُدى، لا أن يُختَصّ بذلك ذريّتُه دون غيرِهم...
فاستجيب دعاء الخليل وتحقّقت أمنيته العُظمى....

حقّق الله دعاءه بالأمّة، بل وجعل الرسول من ذريّته ... جعله إماما من ذريّته، وجعل الأمّة من ذريّته ...
فتأمّلوا صدق الداعي، وتأمّلوا كيف صدقه ربُّه لما صدق ... !

حازرلي أسماء:
"إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ۖ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ  حليم"  _آل عمران:155_

هذه الآية قوية...  وتضرب في أعماق النفس...  كل نفس!

ما الذي جعلهم يتولون؟! 
إنها ذنوبهم...!  إن الشيطان قد وجد إليهم سبيلا سهلا ببعض ما كسبوا،  ببعض ذنوب كانت منهم...  !
يجد منفذا سهلا فيمن كانت له ذنوب لم يتبرأ منها،  لم يتب منها... 

تخلص من ذنبك،  أقلع عنه...  تب توبة نصوحا...  فكلما تبت كلما صعب عليه الوصول إليك...!
لذلك كان الله توابا...  كثير التوبة على عباده...  ولذلك يوصى بكثرة التوبة،  وبسؤال التوبة من الله مرارا ومرارا  وبالاستغفار...!

حتى تُغلق دونه المنافذ،  وهو لا ينفك محاولا النفاذ إليك...  !

فلنتب ثم لنتب ثم لنتب...!
لذلك كان صلى الله عليه وسلم يستغفر الله في المجلس الواحد ويتوب إليه سبعين مرة...!
إنها تمحو..  !  إنها تسدّ المنافذ...! 

إنها تصعّب عليه الوصول...! 

ولذلك تلقى آدم من ربه كلمات...  فقالهنّ،  فتاب عليه...! تاب عليه قبل أن يُهبَط...!

ليُعلَّمَ أن التوبة سلاحه الماضي ضد عدوه الذي أهبط معه إلى الأرض...  ساحة الوغى...  ساحة حرب آدم لعدوّه...!
فلنعتدّ بالسلاح... فإنه لن يجد منفذا...!!

تصفح

[0] فهرس الرسائل

[*] الصفحة السابقة

الذهاب الى النسخة الكاملة