القمة والقاعدة
لطالما كان هناك جدل مستمر حول آليات التغيير في المجتمعات، وإذا ما كان التغيير يبدأ من القمة أولا أم القاعدة.
ولأول مرة أنتبه أن الجدلية مرتبطة بشيء غريب ربما لا يبدو منطقيا للوهلة الأولى. إنها المرحلة العمرية للمتحدث عن التغيير، والتجارب الحياتية الخاصة به هو شخصيا!
فما لاحظته خلال العشرين عاما الماضية أننا نبحث عن الملاذات الآمنة بشكل أكبر كلما تقدم بنا العمر، وهذا منطقي لأن الإنسان يشعر بالضعف مع مرور العمر وخوفه من تقلب حياته بعدما فقد كثيرا من طاقته على العمل.
الملاذات الآمنة تلك تجعلنا -لا إراديا- نريد الحكم على الأشياء بشكل لا يحملنا تبعات ثقيلة، ولا يضعنا في موقف يقلب علينا ضمائرنا،
فتمارس عقولنا تلك الخدعة البسيطة بالاستسلام للواقع تحت شعار "الخبرة"، أو أنه آخر الزمان ولا فائدة من الوقوف أمام التيار.
الرغبة الدفينة تلك تجعلنا نظن أننا فعلنا ما بوسعنا، وأنه لم يعد هناك مخرج ولا حيلة في مواجهة هجمات أهل الباطل وسلطتهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها !
ربما ذلك هو نفس السبب الذي جعلني في السنوات الأخيرة أتساءل كثيرا عن جدوى العمل لهدف كبير في هذا الزمان. فأحاول أن أقنع نفسي أنه لا طاقة لي بذلك، وأن علي التركيز على النجاة الفردية أو الأسرية، حيث أنها القرار الأكثر "حكمة" وبالطبع أكثر أمانا وراحة من حمل هموم تتضاعف كل يوم مع مآسي الأمة في كل مكان.
يظهر هذا جليا في نظرية القمة والقاعدة المتعلقة بالتغيير. فالقاعدة تحتاج إلى مجهود وبذل كبيرين، والتعامل معها أصعب ويحتاج إلى نفس طويل، بل غالبا لا يرى المرء ثمرة عمله هذا في حياته!
في مقابل التغيير السريع والنشوة التي نشعر بها حين تأتي محاولة التغيير من القمة ولو لفترة بسيطة، فنغمض أعيننا عن الحقائق الثقيلة ونتشبث بهذا الحلم الجميل والراحة التي أزاحت عنا عبء مسؤوليات الأمة الجسام.
فهناك الان من يحمل عنا كل هذا!
لكننا إذا تجاوزنا تلك الخدعة وحاولنا التجرد فعلا دون الإلتصاق بأهوائنا، سنجد أن التغيير من القمة هو حالة استثنائية لها تفاصيل كثيرة غير ظاهرة.
فالسلطة وحدها لا تجبر الناس على تبني توجه حقيقي، إلا اذا وجدت الأرض الخصبة لذلك في نفوس الناس بالفعل، والأرض الخصبة تلك هي القاعدة!
أي أنه في أي تغيير يأتي من القمة، لابد أن هناك شيء ما مرتبط بالقاعدة، وإلا ما استمر هذا التغيير وأحدث أثره المطلوب في المجتمع، وإلا كان تغييرا ظاهريا موقوت بالحال.
هناك مشكلة أخرى، وهي أننا حين نتحدث عن التغيير ننظر له وكأننا نعرف الوجهة التي نريدها، والصورة التي نريد أن نحققها، في حين أنه لو ترك لكل واحد منا المجال للتعبير بالتفصيل عن رؤيته للتغيير لاكتشفنا أن الصور مختلفة إلى حد كبير.
فالتغيير المتأصل في جذور المجتمع مختلف عن التغيير في مظاهر الحياة في هذا المجتمع. لهذا حين سمح لأحد المجتمعات العربية أن ينطلق دون ضوابط السلطة السابقة، ظهرت القاعدة على حقيقتها لتبرهن أنها لم تكن تعتقد في أفكار وقيود السلطة السابقة، وإنما فقط تم اجبارهم على نمط ظاهري معين ، ولم تتم مراعاة الجوهر في غالب الأمر.
أليس من الأولى أن نصارح أنفسنا بأننا لا نصبر على الطريق الطويل، وبأننا نتعلق بقوة التغيير من الأعلى وإن كان ظاهريا لأنه الأسهل والأسرع، كما يحقق لنا رغد الحياة الذي نتمناه في الدنيا، خاصة بعدما تنطفئ حماسة الشباب ونشعر بضعف العمر والتعب من طول الطريق؟!
إذا كنا سنكتب لمن بعدنا، فعلينا أن نتحلى بجرأة في الطرح، وأن نصدقهم الحديث عما جرى معنا على الحقيقة، بدلا من الحرص على الظهور بشكل المضحي الذي بذل كل ما لديه وينتظر العرفان والامتنان ممن يأتي بعده.
إن أغلى هدية نقدمها لجيل جديد، هو أن نفتح له قلوبنا دون حرج من تسليط الضوء على أخطائنا وتقاعسنا. فإذا كنا قد ضعفنا ولم يعد بنا طاقة، فعلى الأقل نبين لمن بعدنا حقائق الطريق الذي سلكناه، فلا يمضون خلفنا ثم يكتشفون بعد فوات الأوان أننا لم نكن صادقين معهم..