التهمة الأولى: الصفات السبعة
نبدأ بالشبهة الأولى والأقوى والمهمة، فإذا زالت إن شاء الله، فما بعدها أهون بكثير..
وهي الأسماء والصفات..
يزعم بعض الكتاب السلفيين، وبعض من نقل عنهم من العوام أن الأشاعرة لا يثبتون لله تعالى إلا سبع صفات فقط...
فما هو الحق في هذه المسألة؟
الحق ببساطة أن هذا افتراء كاذب لا برهان عليه، ومن يكلف نفسه فتح أي كتاب عقيدة للأشاعرة ويطالعه بتروٍ، سيعجب من هذه الكذبة والفرية ، وسيكتشف بنفسه أن الأشاعرة يصنفون في بعض كتبهم صفات المولى جل وعلا إلى أبواب، لتسهيل الدراسة على الطالب، وتحت كل باب يندرج ما يتعلق به من أسماء وصفات، فيقسمون صفات المولى جل وعلا إلى صفة نفسية وهي الوجود، ثم الصفات السلبية ويندرج تحتها عدة صفات كالصمدية، والوحدانية، والبقاء ومخالفة الحوادث، وصفات المعاني أو المعنوية، وهي تشمل سبع صفات رئيسية، ويندرج تحتها بقية الصفات الرباينة..
ولا تجد عالماً من علماء الأشاعرة إلا وله مؤلف مستقل في أسماء الله الحسنى وأثر الإيمان بها على المؤمنين، ككتاب (المقصد الأسنى للأسماء الحسنى لحجة الإسلام الغزالي)
ولعل أشهر مرجع لعقيدة الأشاعرة في عصرنا الحاضر هو "شرح جوهرة التوحيد" للإمام الباجوري، ومتن الجوهرة للإمام اللقاني، يقول فيه:
وعندنا أسماؤه العظيمه................................... كــذا صـفـات ذاتـه قـديـمـه
واختير أن اسماه توقيفيه.................................. كذا الصفات، فاحفظ السمعيه
والشرح لهذا باختصار من كلام الشيخ الباجوري:
"وعندنا –معاشر أهل الحق- أسماؤه العظيمة قديمة، خلافا للمعتزلة، فالله تعالى لم يزل مسمى بأسمائه قبل وجود الخلق، وعند وجودهم وبعد فنائهم، لأنه لا تأثير لهم في أسمائه، وكذلك صفات ذاته قديمة، فهي ليست من وضع خلقه، ولا هي حادثة..
واختير: أي اختار جمهور أهل السنة أن أسماءه تعالى توقيفية وكذلك صفاته، فلا نثبت لله اسماً ولا صفة إلا إذا ورد بذلك توقيف من الشارع، (أي نص صحيح ثابت قطعي) وهذا قول الجمهور
فاحفظ السمعيه: أي فاحفظ الأسماء والصفات الواردة عن طريق السمع، أي في الكتاب أو السنة الثابتة بالإجماع". انتهى
وهذا مثال على تصنيف الأشاعرة للصفات الربانية:
"صفة نفسية: الوجود، ويندرج تحتها صفات: الحق والنور والظاهر والباطن
وصفات سلبية: الوحدانية، القِدم، البقاء، القيام بالذات، مخالفة الحوادث، والتي يندرج تحتها: الصمدية، السلام، القدوس، الغني، الأول، الآخر، الباقي
صفات المعاني:
-القدرة: ويندرج تحتها: القوي، المتين، القادر، المقتدر، الواجد، العزيز، المقيت، مالك الملك، الملك، الوارث
-الإرادة
-العلم: ويندرج تحتها: العليم، اللطيف، الخبير، الشهيد، الحسيب، المحصي، الواجد، السميع، البصير، الرقيب، الميهمن، الواسع، المؤمن
-الحياة
- الكلام
صفات الأفعال:
- باب الخلق والإيجاد والتكوين العام: الحكيم، الرشيد، الخالق، البارئ، البديع، المصور، الهادي، المبدئ، المعيد، الباعث، المحيي، المميت، الجبار، القهار، القيوم، الحفيظ، المؤمن، المهيمن
- باب رزق المخلوقات: الرزاق، المقيت، المغني، القابض، الباسط
- باب الهبة والعطاء: الوهاب، البر، الكريم، الواسع
-باب الرأفة والرحمة: الرحمن، الرحيم، الرؤوف، الودود، اللطيف
- باب الولاية والنصر:الوالي، الولي، الحسيب، الصمد، الفتاح، المجيب
- باب علاقة الملكفين بخالقهم: الملك، الهادي، الحكم، العدل، المقسط، الحميد، الشكور، التواب، الغفور، الغفار، العفو، الحليم، الصبور، المنتقم
-باب أن كل ما يجري في الكون من متناقضات من أفعال الله سبحانه: الخافض، الرافع، المعز، المذل، المقدم، المؤخر، الجامع، المانع، الضار، النافع
- صفات الحمد والتمجيد: الكبير، المتكبر، العلي، المتعالي، الجليل، العظيم، الكريم، الماجد، المجيد، الحسيب، ذو الجلال والإكرام، الصمد، الحميد".
ولعل معترضاً يعترض فيقول هذه أسماء الله الحسنى وليست صفاته فنقول:
أي قارئ مبتدئ في علم التوحيد يعرف أن كل اسم لله تعالى يستتبع صفة له جل جلاله، إلا اسم الذات (الله)..
ولكن لا تستتبع كل صفة اسماً... لذلك باب الصفات أوسع من باب الأسماء...
فمن يثبت أسماء الله الحسنى فهو يثبت لله تعالى كل الصفات التي تستلزمها...
اسم الله الرحيم تثبت به صفة الرحمة
اسم الله القهار، تثبت به صفة القهر
اسم الله المهيمن: تثبت منه صفة الهيمنة
اسم الله الحكيم: تثبت منه صفة الحكمة
اسم الله الأول: تثبت منه صفة أن ليس قبله شيء
اسم الله الآخر: صفة أن ليس بعده شيء
اسم الله الظاهر: صفة أن ليس فوقه شيء
اسم الله الباطن: صفة أن ليس دونه شيء
إلخ...
وإذن.... كل اسم يثبت به صفة، وليست كل صفة تثبت اسماً...
وبهذا نكون قد بينا أن اتهام الأشاعرة بأنهم لا يثبتون لله تعالى إلا سبع صفات، هو محض وهم، وندعو من يقول بذلك دعوة صادقة، أن يتناول بعض كتب عقيدة الأشاعرة بالدراسة الموضوعية، دون أن يكتفي بقراءة اقتباسات منها متضمَّنة في كتب شيوخه، فهذا هو منهج الباحث عن الحق..
هدانا الله جميعا لما يحبه ويرضاه..
التهمة الثانية: تأويل الصفات
المبحث الأهم في موضوع الأسماء والصفات هو اتهام السلفية للأشاعرة أنهم يؤولون الأسماء والصفات، وأن تأويلهم هذا هو تحريف للكلم عن مواضعه، وتقوّل على الله بغير الحق، واتباع للظن في مجال العقائد..
وأما من يفوض من الأشاعرة فيتهمونه كذلك بأنه يعطل الصفات، لأنه يثبت ألفاظاً لا معاني لها..
فما الذي يريده الإخوة السلفيون؟؟
يقولون: نريد منكم أن تثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه، وما أثبته له نبيه صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل
والتحريف: هو حرف الصفة عن معناها إلى معنى آخر مع عدم الموجب له
والتعطيل: هو نفي الصفات كلها أو بعضها عن الله تعالى
والتكييف: هو الإخبار عن حال الشيء وكيفيته، وصفات الله لا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه وتعالى
والتمثيل: هو إثبات مثل للشيء، كأن يقال: إن صفات الله تعالى مثل صفات المخلوقين.(1 )
فهل ما يظنه السلفيون بالأشاعرة صحيح؟ وما حقيقة الأمر؟
أولا- ما هي الصفات محل الخلاف؟ هل الاختلاف حول جميع صفات الله عز وجل أم بعضها فقط؟؟
اسمحوا لي هنا أن أنقل لكم من كتاب شيخنا الفاضل علي الطنطاوي رحمه الله، من كتابه القيم "تعريف عام بدين الإسلام":
آيات الصفات
«لقد اجتنبت في هذا الكتاب الخوض في المسائل الكلامية، وأعرضت عن سرد اختلافات المتكلمين، ولكن مسألة (آيات الصفات) قد طال فيها المقال وكثر فيها الجدال، ولابد من بعض البسط في الكلام فيها، ولقد وصف ربنا نفسه في القرآن بألفاظ موضوعة في الأصل للدلالة على معان أرضية، ومقاصد بشرية، مع أن الله ليس كمثله شيء، وهو الرب الخالق، تعالى على أن يشبه المخلوقين، ولا يمكن أن تفهم هذه الألفاظ حين إطلاقها على الله، بالمعنى نفسه الذي تفهم به حين إطلاقها على المخلوق.
فنحن نقول: فلان عليم، وفلان بصير، ونقول: إن الله عليم بصير، ولكن الكيفية التي يعلم بها العبد ويبصر، ليست هي التي يعلم بها ربنا ويبصر. وعلم العبد وبصره ليس كعلم الله وبصره، كذلك نقول: استوى المعلم على منبر الفصل، ونقول: استوى الله على العرش، نحن نعرف معنى الاستواء (القاموسي) ونطبقه على المعلم، ولكن هذا المعنى لا يمكن أن يكون هو بذاته المقصود حين نقرأ: {الرحمن على العرش استوى} (آية 5 طه).
هذا كله متفق عليه بين العلماء، فهم جميعا مقرّون بأن آيات الصفات هي كلام الله. فإذا قال الله: {ثم استوى على العرش} لم يستطع أحد أن يقول: ما استوى. وهم جميعا معترفون بأن المعنى (القاموسي) البشري لكلمة (استوى) ليس هو المراد من قوله استوى على العرش، ولكنهم مع ذلك اختلفوا اختلافا كبيرا في المراد المقصود بعد اتفاقهم على ترك التعطيل والتشبيه، تساءلوا: هل هذه الآيات حقيقة أم مجاز؟ ؟؟؟ وهل تؤول أم لا تؤول؟؟؟
أما الذين أوَّلوا فقالوا بأن الحقيقة هي استعمال اللفظ بالمعنى الذي وضع له، وهذا هو تعريف الحقيقة عند عامة علماء البلاغة ، ولا شك أن اللسان العربي الذي نزل به القرآن، وضعت فيه هذه الألفاظ قبل نزول القرآن ، ووضعت لمعان أرضية مادية، حتى إنها لتعجز عن التعبير عن العواطف والمشاعر البشرية فضلا عن التعبير عن صفات الله خالق البشر، فإن مظاهر الجمال وأشكاله لا حد لها، وما عندنا لها كلها إلا كلمة (جميل)، وأين جمال المنظر الطبيعي من جمال القصيدة الشعرية، من جمال العمارة المزخرفة، من جمال الغادة الحسناء؟ وفي النساء ألف لون من ألوان الجمال، وما عندنا لها كلها إلا هذا اللفظ الواحد، فاللغات تعجز عن وصف الشعور بالجمال. وكذلك القول في الحب، في تعداد أنواعه واختلاف مشاعره، وضيق ألفاظ اللغة عن وصف هذه الأنواع، ونعت هذه المشاعر، فكيف تحيط بصفات الله وتشرح كيفياتها؟؟؟
وإذا كانت الحقيقة هي (استعمال اللفظ فيما وضع له) ، وكانت ألفاظ: ( استوى- وجاء – وخادع- ويمكر- ونسيهم) إنما وضعت للمعاني الأرضية البشرية المادية، وكان استعمالها في القرآن في قوله: {ثم استوى على العرش} ، {وجاء ربك} ، {وهو خادعهم} ، { ويمكر الله } ، وقوله: {فنسيهم} في غير هذا المعنى المادي الأرضي البشري الذي وضعت له، لم تكن إذاً: حقيقة بمقتضى تعريفهم هذا للحقيقة.
ومن ينكر أنها مجاز، ومنهم ابن تيمية، يعرف (الحقيقة) تعريفاً آخر خاصاً به، غير التعريف الذي جرى عليه البلاغيون، ويقول ما معناه: إن تأويل هذه الألفاظ، أي: تفسيرها تفسيراً مجازياً، والجزم بأنه هو المراد مردود، لأن المعاني المجازية هي أيضاً معان بشرية.
ولقد نظرت فوجدت أن هذه الآيات على ثلاثة أشكال:
_____________________________
( 1) يلاحظ أن السلفية ينفون التمثيل عن صفات الخالق تبارك وتعالى، أما بقية أهل السنة والجماعة فينفون عنها التمثيل والتشبيه ، وأنا أرى أن السلفية أخطؤوا في هذه النقطة خطأ بينا وحادوا عن منهج السلف الصالح فيها. وهذا الاختلاف بين الطائفتين تنبني عليه أمور خلافية أخرى، ولكنني سأعرض عن ذكرها رغبة في البحث عن نقاط الاتفاق، لا نقاط الاختلاف، والتركيز عليها ، فهذا هو الأولى، والله أعلم.