الحب في الله والبغض في الله
وثق الشرع الحنيف مفهوم الأخوة بين المسلمين، وعمق عندهم مفهوم الولاء والبراء،
فجعل مرتبة الحب في الله والبغض في الله من أهم وأعظم المراتب في الدين،
فالحب في الله والبغض في الله هما أوثق عرى الإيمان،
جاءَ في الأثَرِ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لأَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه:
«يَا أَبَا ذَرٍّ، أَيُّ عُرَى الإِيمَانِ أَوْثَقُ»؟ قَالَ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ الـحُبُّ فِي الله، وَالبُغْضُ فِي الله».
استُعِيرت العُرَى لِـمَا يُتَمَسَّكُ به من أمْرِ الدِّينِ ويُتَعَلَّقُ به من شُعَبِ الإيمانِ وأصُولِه وأرْكانِه، وذلك لأنَّ مَنْ كَانَ الله ورسولُه أحبَّ إليه مِـمَّا سِوَاهُما فقد صَارَ حُبُّه كُلُّه لله، ويَلْزَمُ مِنْ ذلك أنْ يكونَ بُغْضُه لله ومُوَالاتُه له ومعاداتُه له، وأنْ لا تَبْقَى له بقيَّةٌ من نَفْسِه وهَوَاه، وذلك يَستلزِمُ محبَّةَ ما يُـحبُّه الله من الأقوالِ والأعمالِ، وكَراهةَ ما يكرهُه من ذلك، وكذلك من الأشخاصِ، ويَلْزَمُ من ذلك مُعامَلَتُهم بمُقْتَضَى الحبِّ والبُغضِ، فمَنْ أحَبَّه الله أكْرَمَهُ وعامَلَهُ بالعَدْلِ والفَضْلِ، ومَنْ أبغَضَهُ الله أهانَهُ بالعدلِ، ولهذا وصف اللـه المُحِبِّينَ له بقولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) [المائدة]. فلا تَتِمُّ محبَّةُ الله ورسولِه إلَّا بمحَبَّةِ أوليائِه ومُوالَاتِهم، وبُغْضِ أعدائِه ومُعَادَاتِهم.
وهنا نقف مع بعض أقوال العلماء والأئمة في توضيح أهمية هذه المنزلة وبيان عظمتها:
يقول ابن القيم في كتاب إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان:
"فأصل كل فعل وحركة في العالم من الحب والإرادة، فهما مبدأ لجميع الأفعال والحركات كما أن البغض والكراهية مبدأ كل ترك وكف إذا قيل إن الترك والكف أمر وجودي كما عليه أكثر الناس وإن قيل إنه عدمي فيكفي في عدمه عدم مقتضيه ...
فانقسم الترك إلى قسمين قسم يكفي فيه عدم السبب المقتضى لوجوده، وقسم يستلزم وجود السبب الموجب له من البغض والكراهة وهذا السبب لا يقتضي بمجرده كف النفس وحبسها.
والإلتئام مسبب عن المحبة، والإرادة تقتضي أمرا هو أحب إليه من هذا الذي كف نفسه عنه، فيتعارض عنده الأمران فيؤثر خيرهما وأعلاهما وأنفعهما له وأحبهما إليه على أدناهما فلا يترك محبوبا إلا لمحبوب هو أحب إليه منه ولا يرتكب مبغوضا إلا ليتخلص به من مبغوض هو أكره إليه منه.
ثم خاصية العقل واللب : التمييز بين مراتب المحبوبات والمكروهات بقوة العلم والتمييز وإيثار أعلى المحبوبين على أدناهما واحتمال أدنى المكروهين للتخلص من أعلاهما بقوة الصبر والثبات واليقين.
فالنفس لا تترك محبوبا إلا لمحبوب ولا تتحمل مكروها إلا لتحصيل محبوب أو للتخلص من مكروه آخر وهذا التخلص لا تقصده إلا لمنافاته لمحبوبها فصار سعيها في تحصيل محبوبها بالذات وأسبابه بالوسيلة ودفع مبغوضها بالذات وأسبابه بالوسيلة،
فسعيه في تحصيل محبوبه لما له فيه من اللذة وكذلك سعيه في دفع مكروهه أيضا لما له في دفعه من اللذة كدفع ما يؤلمه من البول والنجو والدم والقيء وما يؤلمه من الحر والبرد والجوع والعطش وغير ذلك.
وإذا علم أن هذا المكروه يفضي إلى ما يحبه يصير محبوبا له وإن كان يكرهه فهو يحبه من وجه ويكرهه من وجه وكذلك إذا علم أن هذا المحبوب يفضي إلى ما يكرهه يصير مكروها له وإن كان يحبه فهو يكرهه من وجه ويحبه من وجه
فلا يترك الحي ما يحبه ويهواه مع قدرته إلا لما يحبه ويهواه ولا يرتكب ما يكرهه ويخشاه إلا حذار وقوعه فيما يكرهه ويخشاه لكن خاصية العقل أن يترك أدنى المحبوبين وأقلهما نفعا لأعلاهما وأعظمهما نفعا ويرتكب أدنى المكروهين ضررا ليتخلص به من أشدهما ضررا
فتبين بذلك أن المحبة والإرادة أصل للبغض والكراهة وعلة لهما من غير عكس فكل بغض فهو لمنافاة البغيض للمحبوب ولولا وجود المحبوب لم يكن البغض بخلاف الحب للشيء فإنه قد يكون لنفسه لا لأجل منافاته للبغيض وبغض الانسان لما يضاد محبوبه مستلزم لمحبته لضده وكلما كان الحب أقوى كانت قوة البغض للمنافي أشد
ولهذا كان أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وكان من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان".