هذه أيضا من الموقع نفسه الذي أتابع عليه، بتصرف بسيط مني للتلخيص.---------------------
الشبهة الثانية: قولهم لو كانت السنة حجة لأمر النبي بكتابتها ولعمل الصحابة والتابعون على جمعها وتدوينها
قالوا: لو كانت السنة حجة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابتها ، ولعمل الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم من بعد على جمعها وتدوينها. فإن حجيتها تستدعي الاهتمام بها والعناية بحفظها والعمل على صيانتها حتى لا يعبث بها العابثون ولا يبدلها المبدلون – ولا ينساها الناسون ولا يخطئ فيها المقصرون. وحفْظها وصيانتها إنما يكون بالأمر بتحصيل سبيل القطع بثبوتها للمتأخرين. فإن ظني الثبوت لا يصح الاحتجاج به كما يدل عليه قوله تعالى: "
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" وقوله: "إن تتبعون إلا الظن" ولا يحصل القطع بثبوتها إلا بكتابتها وتدوينها كما هو الشأن في القرآن.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على عدم الأمر بكتابتها بل تعدى ذلك إلى النهي عنها والأمر بمحو ما كتب منها. وكذلك فعل الصحابة والتابعون. ولم يقتصر الأمر منهم على ذلك بل امتنع بعضهم من التحديث بها،أو قلل منه ونهى الآخرين عن الإكثار منه. ولم يحصل تدوينها وكتابتها إلا بعد مضي مدة طويلة تكفي لأن يحصل فيها من الخطأ والنسيان والتلاعب والتبديل والتغيير ما يورث الشك في أي شيء منها وعدم القطع به ويجعلها جديرة بعدم الاعتماد عليها وأخذ حكم منها.
فهذا الذي حصل من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة والتابعين يدل على أن الشارع قد أراد عدم حصول سبيل القطع بثبوتها. وهذه الإرادة تدل على أنه لم يعتبرها وأراد أن لا تكون حجة.
وفيما يلي شيء من الأحاديث والآثاريدلّل على ما سبق قوله:
**روى مسلم عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا تكتبوا عني. ومن كتب عني غير القرآن فليمحه. وحدثوا عني ولا حرج. ومن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار "
**وروى أحمد عنه أنه قال: " كنا قعودا نكتب ما نسمع من النبي صلى الله عليه وسلم. فخرج علينا فقال: " ما هذا تكتبون " ؟ فقلنا: ما نسمع منك. فقال: " أكتاب مع كتاب الله ؟ أمحضوا كتاب الله وخلصوه ". قال فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد ثم أحرقناه بالنار. قلنا: أي رسول الله. أنتحدث عنك ؟ قال:" نعم تحدثوا عني ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ". قال: فقلنا: يا رسول الله. أنتحدث عن بني إسرائيل ؟ قال: " نعم تحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج. فإنكم لا تحدثون عنهم بشيء إلا وقد كان فيهم أعجب منه "
**وروى أبو داود عن المطلب بن عبد الله بن حنطب أنه قال: دخل زيد بن ثابت إلى معاوية رضي الله عنهما فسأله معاوية عن حديث فأخبره به . فأمر معاوية إنسانا يكتبه. فقال له زيد: إن رسول الله أمرنا أن لا نكتب شيئا من حديثه. فمحاه.
** وروى ابن عبد البر عن قرظة بن كعب أنه قال: خرجنا نريد العراق فمشى معنا إلى صرار. فتوضأ فغسل اثنتين. ثم قال: " أتدرون لم مشيت معكم ؟ قالوا: نعم نحن أصحاب رسول الله مشيت معنا. فقال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشتغلوهم. جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. امضوا وأنا شريككم ". فلما قدم قرظة قالوا حدثنا. قال: نهانا عمر بن الخطاب. وذكره الذهبي مختصرا
**وروى الذهبي في التذكرة: أن أبا هريرة سئل: أكنت تحدث في زمان عمر هكذا ؟ فقال: لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته.
**وروى شعبة عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه: أن عمر حبس ثلاثة: ابن مسعود وأبا الدرداء، وأبا مسعود الأنصاري، فقال: " قد أكثرتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "
**وروى البيهقي في المدخل، وابن عبد البر، عن عروة بن الزبير: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فأشاروا عليه بأن يكتبها. فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا ثم أصبح يوما وقد عزم الله له فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله. وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا
وهناك عدد من الأحاديث، ومن الروايات التي تبين إعراض الصحابة عن الإكثار من كتابة الحديث، اقتصرت على هذه الأمثلة أعلاه. وسأضع الجواب على المدّعي بما وضع أعلاه على فترات بإذن الله تعالىالجواب: قد اشتملت هذه الشبهة على عدة مسائل حاد فيها صاحبها عن سبيل الحق وتجنب طريق الصواب. فينبغي لنا أن نشرحها مسألة مسألة، ونبين ما في كل منها من خطأ وفساد رأي. حتى تنهار هذه الشبه من جميع نواحيها ويتضح لك بطلانها وتقتنع تمام الاقتناع بفسادها. فنقول:
إنما تحصل صيانة الحجة بعدالة حاملهاالمعوّل عليه في المحافظة على ما هو حجة وصيانته من التبديل والخطأ هو أن يحمله
الثقة العدل حتى يوصله لمن هو مثله في هذه الصفة. وهكذا. سواء أكان الحمل له على سبيل:
1-الحفظ للفظه .
أو
2-الكتابة له.
أو
3-الفهم لمعناه فهما دقيقا مع التعبير عن ذلك المعنى بلفظ واضح الدلالة عليه بدون لبس ولا إبهام.
فأي نوع من هذه الأنواع الثلاثة يكفي في الصيانة ما دامت صفة العدالة متحققة. فإذا اجتمعت هذه
الثلاثة مع
العدالة كان ذلك الغاية والنهاية في المحافظة. وإذا اجتمعت وانتفت العدالة لم يجد اجتماعها نفعا ولم يغن فتيلا. ولم نأمن حينئذ من التبديل والعبث بالحجة.
ومن باب أولى ما إذا انفردت الكتابة عن الحفظ والفهم وعدالة الكاتب أو الحامل للمكتوب. فإنا لا نثق حينئذ بشيء من المكتوب.
ألا ترى أن اليهود والنصارى كانوا يكتبون التوراة والإنجيل ومع ذلك وقع التبديل والتغيير فيهما لمّا تجردوا من صفة العدالة حتى لا يمكننا أن نجزم ولا أن نظن بصحة شيء منهما. بل قد نجزم بمخالفة لأصلهما. قال الله تعالى: "
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ(79)"-البقرة-
الكتابة ليست من لوازم الحجية فإذا كان المهم في المحافظة على الحجة عدالة الحامل لها – على أي وجه كان حملها – تحققنا أن الكتابة ليست من لوازم الحجية وأن صيانة الحجة غير متوقفة عليها. وأنها ليست السبيل الوحيد لذلك. وهذا أمر واضح كل الوضوح ولكنا نزيده بيانا وتثبيتا بما سنذكره من الأدلة. فنقول:
أولا: إنا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل السفراء من الصحابة إلى القبائل المختلفة ليدعوا الناس إلى الإسلام ويعلموهم أحكامه ويقيموا بينهم شعائره.
ولم يرسل مع كل سفير مكتوبا من القرآن يكفي لإقامة الحجة على جميع الأحكام التي يبلغها السفير للمرسل إليهم ويلزمهم بها . ولا يستطيع أحد أن يثبت أنه كان يكتب لكل سفير هذا القدر من القرآن. والغالب فيما كان يفعله صلى الله عليه وسلم هو أن يكتب للسفير كتابا يثبت به سفارته ويصحح به بعثته. وفي بعض الأحيان كان يكتب له كتابا مشتملا على بعض الأحكام من السنة وليس فيه نص قرآني أو فيه نص قرآني إلا أنه لا يكفي لإقامة الحجة على جميع الأحكام التي يراد تبليغها.
فيتبين لنا من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى في
عدالة السفير وحفظه لما حفظه من القرآن والسنة – اللذين لم يكتبهما – الكفاية في إقامة الحجة على المرسل إليهم وإلزامهم اتباعه.
ثانيا: إنا نعلم أن الصلاة – وهي القاعدة الثانية من قواعد الإسلام – لا يمكن للمجتهد أن يهتدي إلى كيفيتها من القرآن وحده. بل لا بد من بيان الرسول صلى الله عليه وسلم. ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بكتابة كيفيتها التي شرحها بفعله وقوله.
ولو كانت الكتابة من لوازم الحجية لما جاز أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الخطير الذي لا يهتدي إليه المجتهدون من التابعين فمن بعدهم بمحض عقولهم أو باجتهادهم في القرآن – بدون أن يأمر بكتابته التي تقنعهم بالحجية كما هو الفرضثالثا: إنا قد بينا أن حجية السنة ضرورية دينية وزدنا على ذلك أن أقمنا عليها من الأدلة ما لا سبيل إلى إنكار دلالته أو الشك فيه. ومع ذلك لم يأمر صلى الله عليه وسلم أمرَ إيجاب بكتابة كل ما صدر منه. ولو كانت الحجية متوقفة على الكتابة لما جاز له صلى الله عليه وسلم أن يهمل الأمر بها وإيجابها على الصحابة.
ثم نقول: لو جاءت اليهود والنصارى لصاحب هذه الشبهة فقالوا له:
إن القرآن ليس بحجة. فإنه لم ينزل من السماء مكتوبا، ولو كان حجة لاهتم الشارع بأمره وأنزله مكتوبا كما أنزل التوراة والإنجيل.
فماذا يكون جوابه وهو يذهب أن الكتابة من لوازم الحجية ؟
إن قال لهم: إن عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الخطأ والتبديل فيه تغني عن نزوله مكتوبا. قالوا له: إن موسى وعيسى عليهما السلام كانا معصومين أيضا مما ذكرت ومع ذلك اهتم الشارع بكتابيهما فأنزلهما مكتوبين وما ذلك إلا لأن العصمة وحدها لا تغني.
وقلنا له نحن معاشر المسلمين من قبلنا:
كما
أغنت العصمة عن نزوله مكتوبا تغنينا عدالة الراوي عن كتابة ما هو حجة قرآنا أو سنة.
كل ما في الأمر أن العصمة تفيدنا اليقين والعدالة تفيدنا الظن. والشارع قد تعبدنا بالظن في الفروع ولم يكلفنا بتلمس سبيل اليقين في كل حكم من الأحكام لما في ذلك من الحرج والتعذر. لا يكلف الله نفسا إلا وسعها .
على أن النقلة والحاملين للحجة إذا بلغوا حد التواتر أفادنا نقلهم اليقين، كالعصمة وإن لم يكن على سبيل الكتابة.
وكثير من السنة قد نقل على هذا الوجه. وصاحب الشبهة يزعم: أنه لا شيء من السنة بحجة، وأن القرآن وحده هو الحجة.
إذن لا بد لصاحب الشبهة – إن كان مسلما – أن يعترف معنا أن الكتابة ليست شرطا في الحجية. وأن بلوغ الرواة حد التواتر أو عدالتهم وقوة حفظهم – وإن كانوا آحادا – قائم كل منهما مقام عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في صيانة ما هو حجة وثبوت حجيته. حتى يمكنه أن يرد على اليهود والنصارى ما أوردوه .
لنا تتمة بإذن الله تعالى