جعلت ابنتها الصغيرة التي لا تتعدى من عمرها العامَين تُحدّثها بالإشارة... !!
وخزتْها من ذراعها لتلتفت إليها، وجعلت بإصبعها الصغير تفهمها شيئا آلمها فهِمَتْه منها....

صغيرة جدا .... !! وتتقن لغة الإشارة ؟؟ !!

وأي إشارة !! فتعانقها أمها وتحنو عليها وتسارع لتمسح دمعا قد تكشّف من اغروراق عينيها
فهمتُ أن الأم بكماء صماء .......قد تعوّدت ابنتها على تلك المحاورة في جنبات بيت يضمهم....
كانت حاملا ... وبدت على وجهها علامات الإعياء الأخيرة وقرب المخاض... تخبو نضارته فجأة بين الحين والحين من فعل ضرب قوي من ذلك القابع داخل بطنها، الآكل الشارب الهنيّ بين حناياه ....ولا يستحي أن يضرب.... !!

أشارت إلى بطنها وهي تحدثني أنها قد قاربت ساعاتها الأخيرة بإشارات سبحان من يسّرها لها لتحيا وتعيش إنسانة كما يحيا ويعيش الناس.... بل أُمًّا كما الأمهات ....بل لأكثر من طفل واحد..... لثلاثة منهم غادروا بطنها إلى الدنيا، ورابع ما يزال يقضي آخر ساعاته بين حناياه وهو لا يعلم إذ تمرّد وصار يضرب ويزبد ويرعد أنه أخيرا سيخرج ....

سيخرج ليرى الدنيا وليطلق أول صوت له فيها بكاء، وكأنما يبكي انقضاء ساعات الراحة والأمان ويستقبل الدنيا وشقاءها بما تستحقه ... !!
أشارت إلى بطنها مبتسمة مصدرة بعض الصوت والنأمات وكأنما هي خلفية صوت لا صوت، وكأنما هي سند جعله الله لها ليتنفس فيها صوت مغمور مغمور مغمور ، وليكون لها من الصوت حظ حتى وإن كان أقرب ل"آ" و"أو " و"إي " قد لا يحيد عنها إلى غيرها.....!!
وكأن الكلمات تريد أن تخرج ولكنها تجد ألف باب وباب دونها والخروج ..... فتحجم وتكتفي بالأصوات مع الإشارات .....
وهُنَيْهة أيتها النفس فينا نحن أصحاب الأصوات والكلمات ........ لو طرأ علينا مثل ما هو عندهم عادة ولازمة وطبيعة من اختناق الكلمات ماذا كنا صانعين بأنفسنا ؟؟ لأقمنا الدنيا وما أقعدناها حزنا وكمدا وحسرة ووووو غضبا وووو........ولما تذوقنا للحياة معنى وكلماتنا كل كلماتنا لا تخرج ........ !!
فرفعت يديّ كفعل الداعي إذا مدهما يسأل المعطي الذي لا يملّ العطاء... أشير لها أنني أسأل المولى جل في علاه أن ييسر لها أمرها .... فتتبسم وقد فقهت ما أحببت قوله، وترد بنظرة منها إلى السماء مع صوت بين أصواتها القاموسية... وديع هذه المرة يتوجه للعلي القدير بالخضوع والرجاء أن ..............."آمين"

سبحان الله ................... وييسر لك المولى أيتها الإنسانة أن تعيشي وأن تفهمي وأن تُفهِمي وأن تكوني أما حنونة عطوفة ترقّ على ابنتها بضمّات إلى الصدر الحنون، وبابتسامات حب وحنان........

بل وأن تعرفي ربك الذي هو في عرشه العلي، فترتقين ببصرك البصِيريّ إلى أعلى حيث قد أدركتِ أنه الأعلى، حيث فهمت أنه ربك وربي، وحيث تدرين أنه السميع الذي يسمع رجاءك وإن بقاموسك البسيط الذي لا يكاد يعد بين القواميس ذوات الحرف الواحد قاموسا ..... !!
إيمان في قلبك أخيّتاه !! يااااه ما أحلاه .... ما أبهاه وأنا أرمقه في حركاتك وفي إشاراتك .... ليس كل من ينطق مؤمنا ... !!! وليس كل مؤمن ناطقا .....
وماذا ؟؟
هذان ابنها وابنتها يلحقان بها وأنا في غمرة حديثي الممتع معها، حديث الإشارات .... ليت شعري ، أي حوار صامت هو !!
وأحدّق بهما وهما من أهل الإشارة ... !!

قد ألفاها وتعوّداها حتى لم تعد طلاسما عندهم ولا غريبا من الفعل ....
لم يعودوا يصدرون صوت الكلمة خطأ كحالنا ونحن نحاول محاكاتهم لنحاورهم ،ونحن نخطئ فننطق الكلمة وقد تعوّدنا أن الصوت وحده... وحده وسيلة الإبلاغ والإفهام......نخطئ فننسى والطبيعة فينا والتعود قد غلبا، ننسى أن من نحدثه لا يمسع فما من مجال لدور الصوت منا ليَسْمَعَنا، بل حديثه الإشارة لا شيء غير الإشارة .......
أما هما فلا خطأ .....ولا كلمة .... !!

يشير إليها ابنها بأصابعه وبرأسه أن هل أتممت يا أمي لننصرف ؟؟ وهو ينتظرها وأخته .....
فترد عليه أن انتظرا قليلا بعد ................... بالإشارة لا شيء غير الإشارة .... !! وشيء من صوت ألِفَاتِهَا المتحركات فتحة تارة وضمة تارة وكسرة تارة أخرى ......

وتبدو عليها علامات الغضب منه وهو يصر عليها ويلح أن يذهبوا ..... فتزجره زجرة الأم الآمرة .... نعم تماما كفعل الأم وزجرها
وأسمع محادثة صوتية عادية بين ابنيْها، الولد وشقيقته ..... فأفهم أنهما ناطقان .....أجل ناطقان مثلنا تماما ....بكلمات وبأصوات يقول وهي عليه ترد .......
فالتفتّ إلى أمه أسألها بالإشارة لا شيء غير الإشارة، فألصق سبابتي اليمنى باليسرى أعني زوجها ،وأرفع إصبعي إلى فمي مستفهمة بملامح وجه مستفهم هي الوسيلة الأهم معها : هل يتكلم زوجك ؟؟
فتفهمني وتتبسم وترد أنه لا يتكلم .... بالإشارة لا شيء غير الإشارة .....

بإصبعها مع الإشارة إلى فمها وإلى أذنها تنفي .... وتؤكد لي أنه لا يتكلم هو الآخر ولا يسمع ........
فأسألها عن أبنائها الثلاثة ، هل يتكلمون جميعا؟ هل يسمعون ؟؟
فترد بحركة من رأسها قوية واثقة، تصحبها فرحة قلبية أن : "نعم " هم الناطقون جميعهم، السامعون ............

ياااه ............ سبحان الله .... سبحان العلي القدير ...... سبحان الفعّال لما يريد ........
فأتبسم والفرحة تملأ قلبي، فرحة من نوع خاص،

فرحة بعظمة الله وقدرته ومشيئته وخفيّ حكمته، ورحمته بعباده، ورأفته بعباده، وهو ربهم جميعا، فلا يكل أحدهم، ولا ينسى واحدا منهم، ولا يحرم واحدا منهم من رحمته ..... ولا يكون حال من أحوال عباده إلا وهو سبحانه الأعلم بما يهيئه له ليعيش ويكبر ....... ويقدر في دنيا هي ليست لأحد ملكا، بل كلها لله وحده ..........
كلهم يتكلمون ......... والأم صماء بكماء، والأب أصم أبكم .............. لا إله إلا أنت سبحانك ........!!
وأرفع عينيّ إلى أعلى حيث نحدث عن ربنا أنا وهي بلغة الإشارة، حيث ربنا العظيم الذي أعرفه أنا الناطقة السامعة، وتعرفه مثلي هي الصماء البكماء، حيث ربنا الذي يتغمدها برحمته فهي السعيدة القريرة المتبسمة الراضية ...........

حيث علامات الرضى هي أكثر ما ميّز وجهها وحالها ...........

أشير إلى أعلى وأنظر إليها لأقول معها "سبحان الله" "إرادة الله "............ولأحدث نفسي الضعيفة أن عُبّي من دروس الرضى وأنت تتذمّرين من أقل القليل ....
فتطأطئ رأسها لتريني مكانا فيه هو أثر لسقطة لها من مكان مرتفع حينما كانت صغيرة أفقدتها النطق والسمع ...........
تستأنس أخيّتنا أكثر ، وتضيف وهي تحدث عن ابنها مشيرة إليه أنه الذي يقرأ ويكتب وأنه دائم المرافقة لوالده إلى المسجد رافعة يديها إلى خلف أذنيها مكبّرة .....

سبحان الله ........... سبحان الله .........
وتعيد عليّ وقد بدا على وجهها شحوب مفاجئ أنها قد قاربت ساعات الوضع، فأشير إليها أن تعود لبيتها خوفا عليها من أن تزيد آلامها فيلمّ بها ما يلمّ وهي بعيدة عن بيتها ....فتبتسم أنها قد فهمتني وأنها فقط قدمت لحاجة لأبنائها، وأنها عائدة من توّها ............
يا الله ....... هكذا هو ربنا يقسم لكل عبد من عباده قسمة في هذه الحياة الدنيا، فيعلّمنا أن لكل منا حظا منها برحمة منه سبحانه، وأن الأبكم يعيش وأن الأصم يعيش، وأنه يهيئ له ما ييسر له العيش والتأقلم، وأن أصم أبكم يعاشر صماء بكماء ويهبهما الله ذرية ناطقة ليملؤوا عليهما حياتهما ........
بأصواتهم وإن كانوا لا يسمعون لهم صوتا، بحركاتهم .... بطفولتهم، بنموّهم كنموّ النبتة التي يتعهدها صاحبها بالرِيّ والسقيا ........ وهما المتعهّدان، يحنوان كما يحنو الآباء، ويحبان كما يحب الآباء، ويلقي المولى عز وجل في روع كل منهما إحساس الأبوة والأمومة ........لتكون علاماته الأغلب فيهما ابتسامات وضمات للصدر قد يفتقر إليها كثير من الناطقين الذين تلهيهم كثرة كلماتهم وتوعّداتهم وتأنيباتهم وتقريعاتهم عن الإكثار منها .......

تخيلت ذلك البيت حيث الإشارة فيه هي الصوت وهي الكلمات ..... تخيلته والأطفال فيما بينهم ينطقون ومع والدَيهم يشيرون ....
تخيلته وإيمان صامت بلا كلمات يظلّه ....... وتوجه إلى الله العلي منهم بالدعاء الصامت وهو سبحانه يسمعهما ويلبي دعواتهما، ويرزقهما خيرا في أبنائهما، ويمنّ على الرجل فيكون من أهل المسجد ويصطحب ابنه إليه ............

تخيلته وهو مملكة صغيرة يملؤها الحب والحنان ..... والراعيان فيها أم وأب صامتان مؤمنان سعيدان مُحبّان ............
سبحانك يا ربي .........سبحانك .........
ودّعت أخيّتنا ....وأنا أشير إليها... لا شيء غير الإشارة... أن كم أنت رائعة أخيّتاه .....وقلبي يبوح لي لا لها أنّها كانت لي معلمة في دقائق معدودة ..........
وحَيَّ على طيب الجَنَى منك يا مدارس الرضى في هذه الحياة الدنيا..............وطوبى لمَن عرف ربه وإن لم ينطق .....!!