قالها رفاعة الطهطاوي يوما عندما ابتعثه محمد علي باشا مرشدا روحيا لجماعة من المبتعثين للدراسة بفرنسا في عصر "التنوير" كما سموه. قال: "إن الإسلام لولا نصرته بقوة الله سبحانه لكان كلا شيء بالنسبة لقوة الأوروبيين وسوادهم وثروتهم وبراعتهم "
وفعلها محمد عبده حينما
دعا إلى "دراسة الحقائق الدينية على أسس عقلانية"، وعمل بكل جهده على إدخال التعليم الحديث للأزهر لتنويره بآفاق العالم الحديث وحضارته.
وقالها طه حسين يوما وهو الأزهري الحافظ للقرآن وما أن لامست أنوار فرنسا قلبه حتى عاد لمصر يقول في قول الحجاج بن يوسف"والناس يطوفون بقبر النبي ومنبره إنما يطوفون برمّة وأعواد"، قال بشأن قولته أنه سوء أدب ووقف ضد من كفّره .
وقالها يوما حينما ترك الأزهر إلى الجامعة المصرية وهو المنبهر بالغرب وبحضارته وتنويره، النافر من الأزهر : "كنت أريد أن أكون شيخا من شيوخ الأزهر مجددا في التفكير والحياة على نحو ما كان يريد المتأثرون بالشيخ محمد عبده، أستعين في ذلك
بما أسمع في الجامعة، وما أقرأ من
الكتب المترجمة، وما
أجد في الصحف، وما ألتقط من
أحاديث المثقفين، فأصبحت وأنا أشد الناس انصرافا عن الأزهر ونفورا من دروسه وشيوخه، وحرصا على أن أهجر مصر وأعبر البحر إلى بلد من هذه البلاد التي يطلب فيها العلم الواسع والأدب الراقي وتتغير فيها الحياة من جميع الوجوه"...
وطبعا ذلك الأدب الفرنسي الراقي الذي راق لطه حسين، هو ما كان ينشر منه في جريدة "السياسة" من حين لحين، فينتقده في ذلك أشد النقد رائد البيان في اللغة مصطفى صادق الرافعي وهو يقدم للجامعة المصرية رسالة مفصلة عن خلط طه حسين وخبطه وعبثه بمستقبل الأجيال في الجامعة المصرية، ويعلمها بتفاصيل أخطائه وخطره على الجامعة، فيكتب فيما يكتب مدى حرصه على نشر أفحش الروايات الفرنسية يريد بذلك إفساد الطلبة
وتجديد الأخلاق! بينما يبين افتقاره لكل مميزات أستاذ الأدب العربي .
ولما ابتعث من الجامعة المصرية لفرنسا لدراسة التاريخ تتلمذ على
أيدي مستشرقين في تفسير القرآن وكان ذلك في "كوليج دو فرانس" على يد المستشرق بول كازانوفا !! وكانت دراساته الفلسفية مكثفة في الأخذ عن ديكارت ودوركهايم...!
وعاد لمصر ليكتب ما يكتب ويقول ما يقول، ولينوّر الأذهان! وليخرج المسلمين من ضائقة الأزهر والتقليد الممارس في أخذ علوم الدين، داعيا للتفتح والانفتاح والتنوير حتى على مستوى الدين وعلومه . وأثار بكتاباته الزوابع والأعاصير، بكتابه "في الشعرالجاهلي" وبكتابه "الرسالة الجامعية" التي أجمع كثر من أهل العلم والدين على إلحاد صاحبها ....
وطبعا يصنّف العقلانيون فيما يصنفون طه حسين بالمظلوم لمّا ثير ضدّ دعواته التنويرية !
وقالها من قالها غيره، من قفاة أثره، وقفاة أثر رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وقفاة أثر كل متنوّر بنور الغرب، منبهر بنوره، لينقله بدوره إلى أمته التي تتخبط في دياجير الظلمة بدعوى أنها "تعطل العقل" !!!
وثارت الزوابع ضدّ علماء الأمة القدامى، وأصبح من أجيال هذا العصر الذي لا أراه عصر ازدهار الحضارة الإسلامية برجالاته ولا أراه عصر التقدم الذي لم يشهده الإسلام عبر العصور ليتشدق أهله بأنهم الأكثر فهما وعقلا ووزنا من عظماء الأمة الأوائل، الذين يستحلّون اليوم الخوض فيما أتوا به بدعوى "عدم تقديس الأشخاص" حتى بلغت بهم مبلغ التعالي وهم لا يشعرون....
وقالها لي من زمن ليس بالبعيد-من شهر ربما- أحدهم وكان عضوا بجمعيتنا، وهو يتحدث عن "عدنان إبراهيم" وعن " عقلانية" الأمر في نقد "صحيح البخاري" بدعوى أنه ليس الكفر .... حتى انتقل به الحال إلى أن قال عن فعل من أفعال علي رضي الله عنه أنه لا يعدو أن يكون اجتهاد بشر، وأنه لا حاجة لنا حتى في ساحة الصحابة، -وأي صحابة هم!- أن نقدس الأشخاص ... وما يكون منه ومن عمر رضي الله عنهما وغيرهما إن هي إلا اجتهادات لا يمكن أن تكون هي الدين ذاته !
وبأسلوب جريئ جريئ ...! وما أسهل ما يتجرأ شباب اليوم في ساحات القول، وما أصعب أن تجدهم في ساحات الفعل حينما يجدّ الجدّ !
وقالتها لي يوما أيضا قريبة تدرس الطب بفرنسا ونحن نتناقش، وهي تذكر ما تذكر مما لا أنكره من أمور الانضباط والتنظيم التي يعرفونها ولا تخفى عنا، أن العلم بمكان والدين بمكان ولا يجوز أن نتحدث عن الدين ونحن نتحدث عن العلم ! بدعوى "العقلانية"...
وقالها الكثيرون والكثيرون ممن أعرف وممن لا أعرف، قالوا وكأنهم يروننا نركع لأوراح العلماء، ونسجد لأوراح الصحابة، وننطق الشهادة ونردفها بشهادة أن الصحابة والعلماء مقدسون ...
قالوا أنهم يدعون لئلا "نقدس الأشخاص"
فينهال هذا وذاك ممن يزن وممن لا يزن فيستسهل الخوض في عقل فلان من العلماء وعلان ... وكأن عقولنا اليوم ذات الوزن الأكبر .... وكأن فعلنا للأمة وللدين هو الأكبر من فعلهم ...!! هكذا بلا قواعد علمية ولا شروط نقد واضحة تؤهل من يجرأ ليتقدم ويفعل لأن يفعل .....
هل نحن ندعو لتقديس الأشخاص ؟ هل ندعو لتعطيل العقل ؟
لا بل ندعو ألا ندخل ساحات ليست ساحاتنا فنخبط فيها ونخلط، ونتحدث من غير علم ولا هدى عمّن كانت يدهم الطولى في نقل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي نقل القرآن ذاته، وقد سخرهم الله سبحانه ليحفظ دينه والذكر الحكيم .
أدعو للتواضع ثم التواضع ثم التواضع....
كان الشافعي وهو مَن هو يقول -في معنى ما قال-، أنه كان يستمع لأحدهم وهو يتحدث عن أمر وإنه ليعلم أوله وآخره بتفاصيل، ولكنه لم يكن يقطع حديثه، ولا يسارع فيقول أنه يعرفه، بل كان ينتظر حتى ينهيه، بل ويتظاهر بعدها بأنه الذي لا يعلمه، وأنه سامعه لأول مرة...!
ذلك غيض غيض غيض من فيض....
أعن أمثال هؤلاء تكون دعوتهم التي نالت قوتها من كلمة "
تقديس"... هذه الكلمة المخيفة التي تلقي في الروع أن من يتلقى عنهم، ويتواضع ليأخذ عنهم، يجب أن يشهر سلاحه أولا، سلاح عقله الآخذ بهواه، سلاح خوفه من تأثيرهم في نفسه، سلاح العقل وأنّهم عاشوا عصر التحجّر إذ لم يكن لهم نصيب مما بلغه التطور العلمي ..حتى إذا أخذ لم يكن الغرس في نفسه على الوجه الذي يزرع ليؤتي الأكل، بل على وجه الأخذ مع التشكيك ...
وإن هذه الدعوى لتتفاقم، حتى وصلت فعلا بمن وصلت إلى تسفيه العلماء... وحتى إلى التقليل من قدر الصحابة، بل بآخرين إلى التشكيك في أصول الدين...
فعن من تريدوننا أن نأخذ بعدها ؟ أعنكم ؟ معذرة فإن عقلي المتواضع لا يستطيع أن يسفه عظماء العلماء ويستمع إلى جزافات عقول أخرى