من وحي كتاب"ا
سترداد عمر(من السيرة إلى المسيرة)" د.أحمد خيري العُمري.
وهكذا فأحمد خيري العمري، يمضي في هذا الكتاب، مركزا على الفهم العمريّ للقرآن الكريم، يستلهم منه للحضارة المنشودة، ولكن لماذا عمر بالذات ؟
تحت عنوان
ربيع عمر الآخر يسوق العمريّ شيئا من قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإذا الذي كان عازما على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقطع الدروب لتلك الغاية، يبلّغه الله مقتل أحد غيره، نعم لقد قتل عمر "الجديد" بإسلامه عمر "القديم"، عمر الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزّ الإسلام بأحد العُمرين، فكان هو أحدهما ....
عمر الذي مكّن المسلمين من الصلاة عند الكعبة ظاهرين بعد إسلامه، عمر الذي كان عزّا للإسلام ...
فيعود الكاتب هنا ليضع نظّارته الحضارية، فيربط بين
العزّة والحضارة، إذ العزة بطريقة ما هي مظهر من مظاهر الحضارة، فهي غلبة، وهي عكش الذلّ.
وهي لا تعني فقط التفوق العسكري، بل تعني التفوق في كل مجال من مجالات الحياة، في العلم، في العدل، في السلوك، في الأدب، في الاقتراب من القيم المؤسِّسة لهذه الحضارة، من حجرها الأساس وعدم الانحراف عنها، وكما يقول: "
في أن تكون نموذجا جاذبا يجعل الناس يعتنقون حجرها الأساس وقيمها حتى دون أن يشعروا بذلك"
عمر لم يسلم وحسب،
بل لقد كان إسلامه عزّا للإسلام ثم تحت عنوان :
عمر يختار قالبهيفصّل الكاتب في قالب عمر، القالب الذي اختاره عمر بعد إسلامه، ليكون عمر العظيم ....
الكاتب هنا يؤكد عن عدم ورود شيء من عمر ، أو من غيره عن أنّ عمر اختار هذا القالب عن عمد، ولكنه يقول أن سيرته وكل ما في حياته يشي أن ذلك كان قالبه... إنه يتحدث عن نزول سورة "ص" تزامنا مع إسلام عمر رضي الله عنه، ذلك أن قريشا لما أسلم عمر، وشقّ عليها إسلامه، ذهبت تساوم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبر أبي طالب، تطلب منه أن يقضي بينهم وبينه، فيجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لو قالوا لا إله إلا الله لدان لهم بها العرب، وملكوا بها العجم، ثم أنزل فيهم الله تعالى آيات من سورة "ص"...
ثم وبدءا من الآية 17 من سورة ص، يذكر المولى عزّ وجلّ أحد أنبيائه، ويأتي بأوصافه وميزاته، وهي متزامنة مع إسلام عمر بن الخطاب، وابن الخطاب ساعتها أشد ما يكون حرصا -كما بقيت عادته مع كل القرآن لاحقا- على تلقف الوحي، وتأمله، وتدبّره والعيش في حنايا معانيه ومراميه....
"
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ(17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ(18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ(19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ(20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ(21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ(22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ(23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ(24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ(25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ(26)
"-ص-
إنه سيدنا داوود ذا الأيد، الأواب...
وهكذا في هذا القالب وضع عمر نفسه، قالب ذي الأيد العادل،صانع الحضارة ....
وفي هذا الشأن يشاء الله تعالى أن يجعل لي فيها قصة يوم أمس تحديدا، وأنا حديثة عهد بقراءة أسطر "العمري" عن قالب عمر، وقد كتبت في هذه القصة التالي:
----------
زارتني بمكتبتي صديقتي يوم أمس، وأخبرتني عن وقوفها عند قوله تعالى "واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب".
أخبرتني بوقوفها عند "ذا الأيد" ... سيدنا داوود بالذات عليه السلام ... لقد كان ذا الأيد ...
ألسنا جميعا ذوي أيد ؟! فما نبأ هذه الأيدي لسيدنا داوود عليه السلام، إنه يتصف بها "ذا الأيد"
وسرحتْ في أيدي سيدنا داوود عليه السلام .... إنه الذي ألان له الله الحديد، لقد كان عاملا، وهو الذي كان ملكا، وهو الذي كان قاضيا عادلا، وهو الذي أوتي الحكمة، وفصل الخطاب ...
وهو الذي كان له من الذرية سليمان عليه السلام، فكان له في تربيته وتنشئته أيد وأيد ....
وقالت فيما قالت عن "أيد" سيدنا داوود عليه السلام قوله تعالى : "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ(78)" فلقد كان من أياديه أن ذكر الله تعالى شهادته فيهم، لعنه إياهم... لعنه لمن كفروا من بني إسرائيل، فهو ذو الأيدي، صاحب الثوابت، صاحب "لا إله إلا الله"
لقد كان "ذا الأيد" .... سيدنا داوود عليه السلام، لان الحديد بين يديه، فصنع بالحديد...صنع بيديه، وعمل، ومع عمله كان داعيا لله، كان أوابا، كان ثابتا، لقد حقق المعادلة .... تلك المعادلة التي لا تزدهي الأرض بحق إلا بها ....
أن تتحقق على الأرض حضارة على ثوابت، على توحيد، حضارة عقل يعلم أن الأرض وما فيها قد سخّرت للإنسان، ليصنع، ليعمل، ليتحرك، ليستخدم هذا العقل، ولكن على ثوابت، على أسس من معرفة الله، على أسس إسلامية إيمانية ثابتة راسخة .... حضارة تجمع العقل والروح كلا في خدمة "لا إله إلا الله"....
نعم لقد كان سيدنا داوود عليه السلام ذا أيد.... كان عاملا، وكان مؤمنا، كان داعيا للإيمان ....كان الاثنين معا .... كان صانع حضارة...
هكذا جعلنا نأخذ ونعطي عن أيدي سيدنا داوود عليه السلام .... فلم نكتفِ بالمساحة التي تجمعني وإياها من الأرض ساعتها، بل جعلنا نلتفت يمينا وشمالا إلى مَن حولنا، إلى حالنا... إلى أناس يرون في الدين مظهرا من تقصير أو لحية أو صلاة وذكر، وكأن غير هذا ليس من الدين .... يرون في الدين "شعائر" ولا يكلّفون العقل فيهم بحثا أو تبحرا في علوم الدنيا، وكأنما ذلك ليس لنا، بل لهم وحدهم، لأصحاب التكنولوجيا والعلوم، وقد تعودنا أن نبقى فقط مستهلكين، فقط مستهلكين .....
ثم التفتنا لحضارة الغرب، فإذا هي بنيان، وقفزات، ونفوذ من أقطار السماوات والأرض، ومظاهر أقرب للسحر والخيال .... ولكنها على أسس هشة، على أسس تأليه العقل، وتأليه المادة، وتأليه القوة والقوي ....
نعم سيدنا داوود عليه السلام، كان ذا أيد كان صانع حضارة الأيدي، الأيدي العاملة، والأيدي الداعية.... وكذلك كان قارون ذا أيد ... فجمع بين الأسباب وتوحيد رب الأسباب ....
واستحضرتُ في حديثنا الذي شاء الله أن يكون عن "ذي الأيدي الأواب" حديث العمري في كتابه "استرداد عمر" عن قالب عمر، القالب الذي وضع عمر فيه نفسه، قالب "داوود ذا الأيد إنه أواب" فكان هو أيضا صانع حضارة لم تتحقق على الأرض حضارة مثلها، حضارة "لا إله إلا الله" بأيد عاملة، بنّاءة، متحركة، بعقل عامل ....
وبينما نحن كذلك إذ بداخلة من باب المكتبة تلقي السلام، ثم تسأل عن شيء تريد اقتناءه لابن أختها "داوود"
... فتبسمت صديقتي، وتبسمتُ ونظرت كلتانا للأخرى وقد دخل من يردد اسم "داوود" بالذات ....