هاني طفل عادي، ليس على وجهه ولا على لسانه علامات الذكاء المتقد التي تميز طفلا ما عن باقي أترابه، بل ربما كان ما يميزه قلة ذكائه وتصديقه لأي شيء...
عَفَويّ جد... مرِح.... يلعب في ساعات الجِد وفي ساعات اللعب سواء بسواء....

ربما جعل يرقص وهو يحدثك

أو يعلو صوته فجأة بطريقة شاذة غريبة ومع أصوات أخرى تصاحب صوته متناغمة مع حاله غير المستقر

وحركاته المستمرة.....
وكأنه لولب يصعد وينزل ويمتد يمينا ويعود ليرتد شمالا وهو في كل ذلك اللاهي الذي لا يستقر على حال ....

هكذا هم الأطفال ...نعم...
ولكن هاني بزيادة وبشكل ملحوظ.... يخترع الحركات، ويبتكر الأحاديث الخيالية ، ويُشدَه لأبسط شيء ولأبسط معلومة .....

دخل عليّ المكتبة كعادته، وقد تعودت أنا الأخرى على حاله، فما أن يهلّ حتى تهلّ على وجهي ابتسامة المعرفة المسبقة بموال الفوضى والخيال والعجيب من القول والفعل والحركة منه ....فتمرست على التعامل معه والتغاضي عن كل فوضاه .....مع حبي لروحه التي تبعث الفرح في ساعات الكَدَر...
دخل عليّ وعيناه تستقران أولا وقبل كل شيء على ثُريّتَين ورقيتين مزيَّنَتَيْن بألوان طفولية زاهية، جعلتهما في سقف المكتبة على بعد متناسب بينهما، فأضفيتا على المكتبة رونقا وجمالا .....
وكان أول عهد هاني بهما اليوم .... فقال بعفويته، ودون حتى أن يلقي السلام ....
-هاتان من الصين، أليس كذلك ؟ إنهما صينيتان ....
فجعلتْ ابتسامتي تتسع وتكبر دليل تقديري المسبق لحلول قصة غريبة من قصص هاني الهاني ....

فوجدتني أسترسل مع هاني، -والثريتان صينيتا الصنع فعلا-
-أجل يا هاني إنهما من الصين ....
-من أتاكِ بهما من هناك؟ أأنت التي جلبتهما من الصين ؟

وبابتسامة عريضة أريد بها أن أفهِم هاني أنّما أجيبه بغير الحقيقة، وأنني في الوقت ذاته أمازحه وأمضي معه حيث يمضي، وأحاكي عقله وما إليه يقفز ....
-نعم يا هاني أتيت بهما من هناك ...
فيُشدَه هاني ويذهل وتتسمر عيناه بي، وكأنما استحلتُ أمامه "ماوتسي تونغ" وقد بُعث حيا وجاء من الصين إلى مكتبة "السراج المنير"
-ذهبتِ إلى الصين ؟؟ !!!!
-نعم يا هاني ...
-ومتى ؟؟؟
-في الصائفة الفائتة .....وابتسامتي ستار لضحكة قوية تريد أن تنطلق من أعماقي ولكنني استطبت اللعبة وما أحببت فضحها أو أن تنفرط من يديّ حبات عِقدها ....
فيرد هاني مفغور الفاه، مشدود الحواس .....مسمّر العينين :
-أوتتقنين اللغة الصينية ؟؟
-أجل .......
-قولي شيئا منها ...........
-تشينغ تشونغ ......
ويكاد هاني يقع على الأرض من فرط استعجابه وعدم تصديق عينيه وهما تريان ماوتسي تونغ متمثلا في مكتبة "السراج المنير"
-وما معنى هذه ؟؟
-معناها: كيف حالك يا هاني ؟؟

وبعينين ثابتتين مسمَّرَتين يرد هاني بصوت العاجز عن الإدراك والاستيعاب:
-بخير ....

ويمضي لحاله وعلى كتفه محفظته الخفيفة التي تزن طنا أو نصف طن !! بقدمين متثاقلتين وكأنما حمّلتا كل ثقل الدهشة والمفاجأة ..........

لم تفلح ابتسامتي العريضة في الإيحاء لهاني بأن القصة خيال امتداد لخياله، وسيعود هاني قريبا وسأفهمه أنما هي كذلك ....حتى لا يصدق المسكين أنني فعلا القادمة من الصين المتحدثة بلغتهم ...........
تلك كانت واحدة من عشرات القصص الباعثة على الفرح والابتسامة مع هؤلاء الأطفال على اختلاف مستويات ذكائهم، وفي عزّ الحزن والأسى قد يفلحون في اجتثاث ضحكة ما مخبأة في مكان ما من هذه النفس التي تابى إلا أن تكون بشرية ......
