زبادي، كما أخبرتك زينب، كل شيء يبدأ بخطوة، ومن يؤمن بالبدئ بخطوة هو الذي يقطع المسافات الطويلة، ومن يحب القفز من حينه هو الذي لا يحصّل...
ابدئي شيئا فشيئا، فأن نعمل شيئا خير من ألا نعمل أي شيئ ...
أسماء
ليتك تكتبين لنا شيئا عن برنامجك في التفسير وكيف بدأت به والتزمت
تجربتك قد تفيدنا إن شاء الله
بارك الله فيكن جميعا
أهلا بك يا أم عبد الله
والله لا أذكر تحديدا تحديدا كيف بدأت، ولكنني أذكر كم كنت أسحَر بحلقات الشعراوي رحمه الله مثلا، وكم كنت أرحل معه بعيدا وهو يغوص في قرآننا العظيم، أذكر أيضا كم أخذني "في ظلال القرآن" إلى العيش مع القرآن كائنا حيا يتمثل في سلوكياتنا وأخلاقنا وحياتنا كلها ....أيضا أذكر كيف تعرفت على "قصص الأنبياء" لابن كثير في سن مبكرة، ومنها كيف أحببت حبا جما عظيما قصص الأنبياء العظام، ثم كيف بدأت مع "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير، وكيف وجدت فيه من نقله لعلم الصحابة الكرام بالقرآن وأغواره، وكيف فسروه، وكيف تدارسوه، وكيف عملوا به، وكيف نشأت مدارسهم الأولى من علمهم الجمّ، فكنت أجد لذة ما بعدها لذة وأنا أعرف كيف عاش هؤلاء مع القرآن، وكنت أتخيل حياتهم رضوان الله عليهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، والقرآن يتنزل عليه وهم -من نعم الله العظيمة عليهم- عايشوا نزول القرآن العظيم على نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام....
وهكذا يا أم عبد الله، ومنذ سنوات يسر الله تعالى أن أواظب على حصة تفسير بالجمعية أقدمها للأخوات، أضع فيها زبدة ما أقرأ من عدد من أجمل كتب التفاسير، وما أتدبر من كتاب الله تعالى، بمعدل صفحة واحدة أسبوعيا .... فهي إلى يومنا تعدّ من أجمل لقاءاتنا، وأروعها، حينما نسقط القرآن على حياتنا، ونبحث في جنباتها، ونتأمل إن كنا نحيا به أم أننا البعداء عنه، حينما تفضي الواحدة بما يختلج في دواخلها من إحساس بالتقصير ومن عزم على استشعار أمر الله في القرآن أمرا عظيما عليها طاعته والعمل به قدر استطاعتها...
وهكذا صرنا نستشعر كم هو عظيم عظيم عظيم فهم القرآن، وفهم أسباب النزول، وفهم قصص النزول التي لم تكن إلا حكمة من الله عظيمة، أن جعل للقرآن أسبابا تنزّل بها في ثلاث وعشرين عاما، أسباب هي أمثلة لما هو كائن وسيكون، ينطبق عليه أمر الآية أو حكمها، لتكون تربية للناس في سائر أمور حياتهم في لاقابل من حياة البشر، ....فلم تقتصر الآية منه على خصوصية السبب، بل يُعنى بها عموم الحال ....
كما أن معرفة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بتفاصيلها لها تأثير عظيم ودور كبير في فهم القرآن العظيم، بحكم خصوصيات السور المكية مثلا وبيئتها وجوها وأحوالها، وخصوصيات السور المدينة وبيئتها وأحوالها ....فهذا القرآن جاءنا به المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا المصطفى وقد كان قرآنا يمشي على الأرض، فلا ينفصل القرآن عن حياته أبدا، إذ أن حياته لم تكن إلا قرآنا مطبقا مثالا للمؤمنين وقدوة ليعرفوا كيف يطبقوا القرآن ويعيشوا به حياتهم ويستقبلوا به آخرتهم .
وهكذا يكتشف الإنسان كم أن القرآن هو تلك المعجزة التي لا ينضب نبعها أبدا أبدا أبدا، مهما خاض العلماء في بحره، ومهما شقّوا عبابه، ومهما غاصوا، فهو دائما وأبدا يأتي بالمعاني، وبالكنوز، وبالحكم وبالتربية لا ينقطع خيره، هو جنة الله على الأرض، هو معنى الحياة، ومن غيره لا معنى لها، ولا ريح ولا طعم ....
تفسير القرآن، وتدبره من أعظم الأمور التي يحيا بها المؤمن، ويرتقي بها إيمانه، وتسعد بها حياته.... دائما لا أكف عن تكرار أن الحفظ خير عظيم، ولكن الحفظ من غير فهم ولا تدبر ولا عمل ما معناه ؟؟!!
وقد ترك لنا العلماء كنوزا وذخائر في مجال التفسير، وكثيرة هي التي تأخذك إلى الحياة الجميلة بكل معانيها، الحياة مع القرآن ....وخاصة تلك التي تغوص في التركيب اللغوي وعظمة موضع الكلمة في موضعها المحدّد من مثل غوصات الدكتور فاضل السامرائي اللغوية، ومن مثل ورود ذلك في تفسر ابن عاشور "التحرير والتنوير"، والتصوير القرآني الحيّ الخاص العظيم من مثل تفسير الظلال والشعراوي، .... والتدبّر أيضا يجعلك تقطفين من بساتين القرآن الرياحين التي تستشعرينها لذة للحياة، تستشعرين معها كم أن القرآن للناس جميعا، كتاب أنزل خيرا ونورا للناس كافة، ولم تُختصّ به فئة من الناس هم العلماء فقط، ولو كان كذلك لأصبح كتابا لا يقرأه إلا العلماء، نعم هم لهم باع في علوم الدين جعلهم يستمدون من القرآن الفقه والفتوى، وغيرها، ولكن كل مؤمن مطالَب بالتدبّر حتى لا يعيش منعزلا عن القرآن، حتى لا يعيش هو في واد والقرآن في واد كمن يجعل من الحي المتحرك المملوء حياتا جمادا لا يتحرك، وهو ليس أي حيّ بل هو مصدر حياتنا، فكيف لحياتنا أن تكون حياة مستقرة مطمئنة وهي بعيدة عن حبلها الذي يمدها بالنبض وبالنَّفَس، هي النفس التي بين جنباتنا، والتي هي نفخة من روح الله، لا تطمئن ولا تهدأ ولا ترتاح ولا تجد معناها ومعنى وجودها إلا في أمر الله، إلا في دستور الله الذي أنزله لها، وليهديها طريقها الذي يجعلها المطمئنة السعيدة، المستقرة، البعيدة عن التيه والحيرة ....
فكيف بمن فتح الله عليه ومنّ عليه، فعرف الحروف، وتعلم ولم يبقَ جاهلا أو أميا ألا يفتح أول ما يفتح كتاب الله، وألا يبحث أول ما يبحث في تفسير كتاب الله، وفهم كتاب الله ؟؟!
وكما أن النفَس لا يستغنى عنه للحياة، فكذلك أرى أن يخص المؤمن من ساعات يومه للغوص في القرآن، وتدبرّه، لا قراءته قراءة مجردة، بل تدبرا وعيشا وتمعنا ....
هي تجربة بسيطة يا أم عبد الله، ولكنني أتمنى أن يجرب كل مؤمن معنى مطالعة التفاسير، ومعنى التدبّر ومعنى العمل على خدمة القرآن، ليس من باب الحفظ والتحفيظ فحسب بل من باب الدعوة إلى استشعار حركته وحياته وتمثلها في الحياة، ليتذوق هذه الحلاوة، ويعرف هذه الطلاوة الفريدة التي لن يجد مثلها، فيعرف لحياته معنى هو معناها الحقيقي، فلا يبقى تائها باحثا لها عن معنى بين المعاني الزائفة الزائلة .
رزقنا الله وإياكم العيش بالقرآن، والعيش معه والعيش له، ولا جعلنا من الذين يقولون ما لا يفعلون، ورزقنا لذة الحياة به والموت عليه ...وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وجعل القرآن رفيقا لنا في الدنيا، وأنيسا لنا في قبورنا وشفيعا لنا يوم القيامة، وجعله حجة لنا لا علينا .