2017/02/13
سلسلة نشدان الحكمة :
ثانيا: موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم له مبعوثا لقريش في الحديبيةفي نِشداننا للحكمة وللتعقّل والتفكير بعواقب الأمور قبل الاندفاع العاطفي، عرفنا في منشور سابق حكمة عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، وهذا رابطه :
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=1131841390274726&id=100003466263333أما اليوم فمع الموقف الثاني...
في صلح الحديبية، حينما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل سفيرا إلى قريش يُعلمها غاية النبي صلى الله عليه وسلم من زيارته، وأنه ما جاء إلا مسالما لا مُحاربا، وأنه يريد أن تُمدّه وتُخلّي بينه وبين الناس، وقد ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المهمّة عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
فأما ابن الخطاب فكان له من هذا الاختيار موقف، إنه لم يقل هذا اختيار النبي صلى الله عليه وسلم ومالي حِياله إلا التسليم والطاعة دون أن أنبس ببنت شفة، بل لقد أفصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس بالرجل المناسب لهذه المهمة، وأرشده إلى عثمان بن عفان بديلا عنه، بل قال عنه أنه الأصلح لها ... !
قال :"يا رسول الله، ليس لي أحد بمكة من بني عَدِي بن كعب يغضب لي إن أوذيت، وقد عرفتْ قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعزّ بها مني عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مبلّغٌ ما أردتَ."
أولا : لم يكن رأيه المخالف لاختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم له عن عصيان لأمره، بل عن إشارة عليه، وقد علمهم المعلم الأعظم أن الأمر شورى بينهم في غير ما هو وحي.
ثانيا: لنتأمل فإذا عمر رضي الله عنه يقول : "ليس أحد بمكة من بني عَدِي بن كعب يغضب لي إن أوذيت" .
فهل خاف عمر رضي الله عنه على نفسه الموت ؟ وهو الذي كان من أوائل المقتحمين في كل خطب، في كل غزوة من الغزوات، لا يخاف موتة في سبيل الله تعالى، بل يتمناها غير هيّاب ..
ولكنه يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد صلحا، ويقرأ عمر بعين فاحصة متعقّلة أن هذا الصلح يستدعي مظاهرة ومساندة وتقوية وتعزيزا، وهو لا يريد أن تفتقر الخطوة لهذا فيكون الضعف بدل القوة، ويحلّ الريب من جدواها بدل بذل الجهد المتاح في تعزيزها وتوكيدها من كل جانب ..
💡لنتأمل، إنه لم يفرح بالبعث، وبنَدْب رسول الله صلى الله عليه وسلم له دون كل الصحابة، فيفخر بها ويسارع إليها مسارعة من يقتنص فرص الأجر والثواب، ويسارع إليها مسارعة من همُّه إرضاء الرسول صلى الله عليه وسلم دون تفكير وتمحيص، ودون إشارة بما هو أجدى وأنفع للرسالة وللإسلام وللمسلمين وعزّهم، قبل أن يفكّر بنفسه ...
لم يكن عمر رضي الله عنه ذلك الرجل الذي لا يفكّر بالعواقب....
وقوله أنه لن يجد بمكة من يغضب له إن هو أوذي، أراد بها أن يبيّن لرسول الله صلى الله عليه وسلم نقطة بالغة الأهمية ليست في صالح ما يريد من هذه المهمة . ذلك أنه وهو يغدو هناك المطارَد والمُبغَض الذي لا يُرحَّب به، بل يُترصّد له لن يساهم في تحقيق الغاية التي نشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعثه، بل سينقلب الأمر عكس ما أراد، وهو لا يريد أن يهِمّ المسلمين بهمّ رجل تؤذيه قريش، بل يريد أن ينتقل المسلمون في الخطوات بما يعود على الإسلام بالفتح لا أن ينكصوا على أعقابهم...
💡 لنتأمل أيضا ... يقول أن قريش قد عرفت عداوته إياها وغلظته عليها، وعمر بهذه زعيم، وغير مُنكِر لها، ولكنه في هذا الموقف تحديدا لا يرى في حالته تلك مناسِبة لبعثة يُراد بها الصلح، وعمر كما نعرف، لا ينفكّ شديدا في الحق، وعرفنا له مواقف كان يقضي فيها بالأشد، فهو يخشى أن يكون على تلك الحال في بعثة يُراد منها صلح ومسالمة ...
فلننظر إلى هذا الرجل المفكّر، إلى هذا الرجل المتعقّل، والذي تُتاح له فرصة فيها مما يحب من الأجر والثواب وخدمة الإسلام، ولكن تفكيره لا ينحصر بنفسه، ولا بعاطفة تستبق الثواب، بل يحكّم عقله لصالح الإسلام ولصالح الرسالة، ولصالح ما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعث السفير. ولئِن يُؤجر على إشارة يشير بها ليس له فيها من حظّ أعظم وأوفر عند الله من مسارعته لأجر فرد واحد تكون العواقب بعدها وخيمة على الجماعة ...! فلنتأمل :)
💡 لا بل ويزيد، فيشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغيره، يقول أنه أعزّ بها منه، عثمان بن عفان، ويوضّح ويُبين أنّ عشيرته بها وهي من المكانة في قريش بحيث تكون المُظاهرة والمؤازرة، وأنه مبلّغ ما أراد ...
لم يفكر بأنانية، ولا باندفاعية، ولا بحبّ سبق-لا على وجه المراءاة وعمر أبعد ما يكون عنها-، بل حتى على وجه العمل الخالص الذي يجني به الثواب، لم يقل أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدراك ما هو يختاره، ويكفيه هذا ليكفّ عن كل محاججة...
بل هو يعرف من نفسه ومن مكانة قومه في مكة، ومن موقفه من رجال قريش ما يجعله يشير بغيره وهو يراه أكثر أهلية للسلام، ولتبليغ رسالة سلام ... فلا يندفع، ولا يجدها فرصة ليشفي شيئا من غليله من قريش... بل يشير بالرجل الأنسب ...
فلننظر كيف لا يدّعي "عظيم" فيهم أنّه الأهل لكل شيء دون منازع، وكيف لا تسبقه العاطفة الدينية من حب الثواب والأجر فتغلب على عقله، بل لقد حكّمه فتبصّر لصالح الإسلام ولصالح المسلمين.
وأخيرا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم المعلم الأعظم، يرى في كلام عمر حكمة وتعقلا، فينزل عند رأيه وإشارته، ولا يصرّ على بعثه هو، بل يبعث عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه ...
وهكذا ... نعرف فيهم تحكيم العقل، والتفكير، الذي يوصلهم لحسن التدبير بعيدا عن عاطفة سرعان ما تهزّهم، ولا تكون إلا وبالا على الإسلام ...حتى الأجر والثواب لا يُسارع إليه على حساب هَلَكة قد تحلّ بالإسلام ... نعرف فيهم التروّي والتفكير والنظر في عواقب الأمور قبل أن يُقدموا على ما يفعلون....فلنتعلم .... :)
وفي منشور قريب بإذن الله موقف جديد من مواقف الحكمة، فانتظرونا :)
#الحكمة