2017/02/15
الآن مع موقف جديد من مواقف الحكمة والتفكير، والنظر في عواقب الأمور قبل أن يكون الفعل، التعقّل والتدبّر قبل أن تسبق العاطفة فتكون الحَكَم، ومن بعدها يحصل الندم، وفي كثير من الأحيان لا ينفع النّدم...
كنا قد عرفنا موقِفَيْن من قبل، أوّلهما : ردّة فعل عائشة رضي الله عنها إزاء الإفك الذي افتُرِي عليها ، وثانيهما تصرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم له مبعوث سلام لقريش من الحديبية ...
أما اليوم فمع عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد عرفنا أن عمر بن الخطاب قد أشار به على رسول الله صلى الله عليه وسلم بديلا عنه رسولا وسفيرا إلى قريش يبلّغها عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السلام ، ونيّته في إنفاذه ...
نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مشورة عمر، وحمّل عثمان رسالته إلى قريش قائلا: "اذهب إلى قريش فادعُهم إلى الإسلام وأخبرهم أنّا لم نأتِ لقتال أحد، وإنما جئنا زوّارا لهذا البيت معظّمين لحُرمته، معنا الهَدْيُ ننحره وننصرف".
وامتثل عثمان، وذهب إلى قريش، فكان ما توخّى عمر بن الخطاب من بعثته، فلقد رُحِّب به وهو على مشارف مكة، ودخلها مُعزَّزا بقومه، وأبلغ قريش رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها...
ثم دعتْ قريش عثمان أن يطوف بالبيت...
.gif)
تأملوا ...

عثمان يدخل مكة سفيرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد ستة أعوام كاملة، هُجِّروا فيها من موطنهم، من مسقط الرأس، من موطن أحبوه، وعاشوا فيه، ورَوَوْا من مياهه، وأكلوا من ثماره، ورتعوا في ربوعه، وزَهوا فيه بزهرات أعمارهم، وكانت مكة حاضرة البلاد كلها في الجزيرة العربية...
أذاقوهم ألوان العذاب، والتنكيل، وحاصروهم، وجوّعوهم، وقاطعوهم، ليرجعوا عن دينهم، وطال صبرهم، حتى طُرِدوا، وشُرِّدوا، ونُهبت أموالهم، وهُدّمت بيوتهم، وأُخرِجوا من مكة مستضعفين مسلوبين، محزونين، لا يُسْليهم، ولا يعزّيهم إلا أنهم يتّبعون نبيهم الهادي فيهاجرون حيث أمرهم هجرةً لله ولرسوله...
تلك كانت خَلَجاتُ نفس عثمان، وأشجانه ودواخله، وهو واحد من أولئك المحرومين من هواء مكة، ومن ماء مكة... بل من موطن أول بيت وُضع للناس، مباركا وهُدى للعالمين، وهم يعرفون هذا بنزوله آيات تُتلى وهم في المدينة ...
ها هو اليوم أمام الكعبة ...!!
ها هو اليوم يُعرض عليه الطواف بها، وهو وأصحابه وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنيتهم أن يطوفوا بها ...!!
** ها هي الفرصة تُعرض بين يديه عرضا من أكابر قريش، وهو في أمان من أمره، لا يخشى على نفسه منعا أو دفعا ...
** ها هو والحنين يشقّ عُباب نفسه شقّا، وتعظيمه للكعبة دين من دينه، وحبّه لها قديم وجديد قد كبُر وكبُر ...
وعثمان اليوم رسول آمن، مؤمَّن... فماذا كان من عثمان ؟؟ !
لقد رفض عرضهم، وأبى أن يطوف بالكعبة حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ... !
.gif)
لنتأمل ... ولنتأمّل ... ولنتفكّر، ولنتفكرّ فيما فكّر فيه عثمان ...

إن عثمان رضي الله عنه لو فعل ذلك لما أُثِم، ولكنه يرفض، ولا يرضى أن يطوف بالبيت قبل أن يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم...
يرفض أن يطوف بالبيت وهو غاية أمنياته وزهرتها، وهو يتوق لذلك توقا، ويهزّه إليه الشوق هزّا ...!!
يرفض ونفسه تجيش وتفيض حنينا إلى ما عُرض عليه ...
.gif)
تأملوا، وهو بكلماته، وبإبائه، وبرفضه عرضهم، قد فكّر، قد أحال نفسه إلى عقله، رغم كمّ العواطف التي يحملها بين جَنَباته لهذا البيت العظيم، رغم ما تجيش به نفسه من ذكريات، وآلام، وأوجاع، وظلم مسّه ومسّ حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وأنهم ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد...
رغم ما تنطوي عليه نفسه من حنين وشوق للطواف، للطواف بكلمات التوحيد يردّدها، يُلقيها على بيت الله كما يحب الله ويرضى، وهو البيت الذي ما يزال يرزح تحت نَيْر الوثنيين وأوثانهم ...
.gif)
لنتأمل... كيف طوى عثمان كل تلك العواطف، وخبّأها لساعتها المناسبة، وهو لا يرى تلك ساعتها بعدُ ...!
وساعتها عنده : "حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم"
لقد تعقّل، وفكّر، وقدّر ... ولله درّه كيف قَدّر .... !
حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تكتحل عين رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكعبة، وتقَرّ بالطواف...
وليس هذا فحسب، بل إن عثمان لَيَرى بعين عقله، ما لا تُريه إياه عاطفته المتلهّفة للكعبة وللطواف...
إنه يرى طواف رسول الله صلى الله عليه وسلم بها "فتحا"...!!
أجل كان يراه الفتح... وذلك هو الطواف الذي يريد، طواف الفتح ....
لا بأس بالصبر ... لا بأس بالتريّث... لا بأس بانتظار الوقت المناسب لفعل ما يحبّ...
إنه الوقت الذي يُعَزّ فيه الإسلام، ولا يُعَزّ فيه عثمان وحده ...!
هذا ما أراد عثمان .... أراد العزّة للإسلام والمسلمين قبل أن يريدها لنفسه ...
أراد مظهر القوة والقيادة والنصر والفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بألف وأربعمائة من أصحابه جاؤوا الحديبية ....!
رأى أن الحكمة كل الحكمة في مظهر الفتح والقوة وإن تأخّر... وإن كان على حساب حبّ وشوق وتَوق، وحنين، لا يُؤثم إن هو أشبعه بطوافه ... وإن لم يكن ضامنا بعدُ أنهم داخلون البيت ومطوّفون به عامهم هذا ... لا بأس أن يتأخر وإنْ بعد عامهم هذا ...
رأى أن الحكمة في إنفاذ مُراد رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتح مكة مهبط الوحي، ومن إعزازها بالإسلام، ومن تطهير بيت الله الحرام من الأوثان والأصنام المحيطة به، والأنصاب المنصوبة لها ... في دخول مكة جماعة عظيمة عزيزة تُظهر القوة، وتُحقق القوة ...
يُريد مظهر العزّ وجوهر العزّ في آن .... !
.gif)
إن عثمان اليوم وهو السفير، وهو الرسول، وهو حمامة السلام الطوّافة .... لا يذهب عن خَلَدِه أنه ما جاء إلا تمهيدا لفتح عظيم ... فتح لن يخفى عليه وهُو وأصحابه يرنون إليه خلف قائدهم ... وإن لم يَبُح به القائد بَوْحا، فإن ملامحه لَتَرتسم لعقل عثمان ... فلا يغادرها، ولا يخرج عن خطها، ولا يبتعد عن الهدف الذي يفهم أنه لأجله قد بُعِث .... وأنهم لأجله يسعون، وأنهم لأجله يمهّدون ...
نعم إنهم جاؤوا زُوّارا ... جاؤوا معتمرين، جاؤوا ليطوفوا، ثم يعودوا، ولكنّ عثمان يفهم أنه الفتح قبل الفتح ... وكيف لا يكون فتحا ...وهم قد خرجوا مستضعفين مطرّدين، ويعودون أضعافا معزّزة قوية، ذات شأن وبال وحال ....
وهكذا يؤجِّل عثمان فرحته، ليقيسها بميزان الجماعة، بميزان الفتح، بميزان العزّة للإسلام ...
بميزان الاتباع للقائد الذي يدينون له بإخراجهم من الظلمات إلى النور ...
.gif)
فلا يسارع ملبّيا نداء عاطفته الجيّاشة ...
بل يأوي إلى ركن شديد، هو رُكن عقله الممحّص، المفكّر، المُقدّر أحسن التقدير، فيؤخّرتحقيق أمنيته وحاجته الفردية ويؤثر على نفسه وبه الخصاصة ليتحقق العزّ للإسلام بالجماعة تغشى مكة بفتح يُبهِت العدوّ ويُبهِره، ويُحيله هو الآخر إلى عقله ليفكّر بميزان هذه الجماعة وبميزان الفتح .....!
.gif)
يُعرِض عن الفرصة الثمينة رُنُوّا للفرصة الأثمن ...
يفكر بمظهر الفتح وأثره على نفوس الناس أكثر مما يفكر بقضاء حاجة في نفسه التوّاقة المشتاقة...
فلنتعلّم ....
