2017/04/30
---------------------------------
كعادته شيخنا الغزالي رحمه الله...
هو ذا يصف القرآن أحسن وصف... !
--------------------------------
الشيخ محمد الغزالي :
إنني واحد من الألوف التي قرأت هذا القرآن، ومررت بمعانيه وغاياته مرور العابر حينًا، ومرور المتفرس المتأمل حينًا آخر.
والقرآن ليس الكتاب الوحيد الذي طالعته.. فقد طالعت مئات الكتب الأخرى على اختلاف موضوعاتها، واقتربت من نفوس أصحابها ومن ألبابهم، وأذنت لهذه الكتب أن تترك آثارها في فكري؛ لأقلبها على مكث، وأنتفع بما أراه نافعًا ولفظ ما أراه باطلاً ...
ومن اليسير علي وعلى أي قارئ مثلي أن يكون حكمًا معينًا على الكتاب الذي تناوله؛ فقد أخلص من قراءة كتاب ما، ثم أقول: هذا المؤلف واسع الاطلاع ... أو أقول: إن ثقافته غزيرة في الآداب الأجنبية، أو إنه طائل الثروة في الأدب العربي القديم، أو إنه ملم بآخر ما وصلت إليه الكشوف العلمية، أو إنه قصير الباع في إعطاء المعنى حقه، أو إنه مصطبغ بلون يساري، أو إنه من المعجبين بالفيلسوف الفولاني، أو أن في نفسه عقدة تميل بأسلوبه إلى الحدة في ناحية كذا، أو إنه مرن الفهم والأداء... الخ.
وقد أعجز عن استبانة الخصائص الإنسانية المتباينة في تكيف الرجال الذين طالعت نتاجهم الذهني، أو آثارهم الروحية. وكثيرون غيري يجدون في أنفسهم هذه المقدرة. وقد تلوت القرآن مرارًا، ورجعت بصري في آياته وسوره، وحاولت أن أجد شبهًا بين الأثر النفسي والذهني لما يكتب العلماء والأدباء، وبين الأثر النفسي والذهني لهذا القرآن، فلم أقع على شيء البتة... وقد أحكم بأن كتابًا ما صدر عن مؤلف في عصر كذا، وأن جنسية هذا المؤلف ومزاجه وأهدافه هي كيت وكيت.
أما بعد قراءة القرآن، فأجزم بأن قائل هذا الكلام محيط بالسموات والأرض، مشرف على الأولين والآخرين، خبير بأغوار الضمائر وأسرار النفوس، يتحدث إلى الناس تحدث السيد الحقيقي إلى عباده الذين خلقهم بقدرته، ورباهم بنعمته، ويتناول الأمم والقرون في هالة من الجبروت والتعالي، يستحيل أن تلمح فيها شارة لتكلف أو ادعاء.
ومع رفعة المصدر الذي تحس أن القرآن جاء منه، وإحساسك بأن هذا الشيء أتى من بعيد، فإنك ما تلبث أن تشعر بأن الكلام نفسه قريب من طبيعتك، متجاوب مع فطرتك، صريح في مكاشفتك بما لك وما عليك، متلطف في إقناعك فما تجد بدًّا من انقيادك لأدلته، وانفساح صدرك لتقبله...
ولا تحسبن هذا الوصف متأثرًا بمواريث التدين التي انتقلت إلينا من الأولين، فإن الكفار أنفسهم أدركوا أن القرآن مباين بأسلوبه الخاص لجنس ما ألفوا من كلام، وملكتهم الدهشة لدى سماعه.