في جوّ من السكون الصباحي الجميل حيث الشمس المشرقة بحنوّ ورفق على الأرض تخرج أشعتها حييّة من بعد ليل بهيم سكن فيه الناس وارتاحوا وخلدوا للنوم، فبين نائم و نائم...................

بين نائم صاحٍ قد يبدو نائما مظهرا، بوسادة يسنِد لها رأسه، وبفرش يمدّ عليه جسمه، ولكن عقله صاح، يفكر ويفكر ويفكر ...............
وبين تفكير وتفكير وتفكير .....فيمَ تفكيره ؟؟
قد يكون سوريا ثائرا، ملّ حياة الخوف من الصلاة وهو في المعسكر، حتى لطالما صلى على فراش نومه متخفيا بلحافه خوفا من أن يراه جندي آخر أو قائد من قادة الأسد الأشاوس الذين يحرّمون على العسكر الصلاة .......!! فها هو اليوم صاحٍ على سريره يفكر بمآل ثورته .... يخطط لفكرة جديدة في مسيرة الغد حيث يصدح "هي لله هي لله ....لا للسلطة ولا للجاه"........والصلاة تتمثل له درة يجاهد لأجل أن تصبح مباحة في معسكرات سوريا الحرة ...............
أو ربما يفكر بكلمات جديدة لصفحة الغد من صفحات مواكبة الثورة الأبية ، مجاهدا بها وهو لا يملك غيرها سلاحا في غربة يعيشها بعيدا عن إخوته الثائرين المتظاهرين..........
أو ربما هو ليل الثائر اليمني الصاحي الذي يفترش الأرض ويلتحف غطاء خيمة اعتصم بها قرب مقر الجاثم على صدر اليمن الذي كان سعيدا قبله، ذاك الذي قيل أن اسمه "صالح" وليس له من اسمه أدنى نصيب ..........
ربما يبيت مفكرا بآلية جديدة لدعم الثورة، بطريقة سلمية جديدة فيما يملك هو وغيره من السلاح ما قد يحيل اليمن ساحة وغى، ولكنه يفكر ويقدر فلا يلجأ للسلاح وهو بين يديه، بينما يقصف الجاثم "الصالح" إخوته بكل سلاح ...........
ربما هو نائم مصري مستيقظ الضمير والقلب، يبيت ليلته يفكر بمصر، وبمستقبل مصر، وبمستقبل الإسلام في مصر، وبمن يتربصون بالإسلاميين الدوائر في مصر، ربما هو ذاك الذي عاش عمره الطويل أو القصير يحلم بتحرر مصر، وبعودة مصر لدورها الريادي في الأمة، فهو اليوم لا يكاد يصدّق أن مصر قد تخلصت من رأس الأفعى، وإن بقي جسدها المتلوّي يزحف بين الأزقة والشوارع في مصر الجديدة ينفث سمّا من الجسد، وإن قطعت الرأس ومعها اللسان ..........
هو الذي يرنو لمصر حرة وإن كره الكارهون، كل الكارهون........هو الذي يأمل ضميره الحي مع ضمير حي آخر لا ينام، مع ضمير حي آخر لا ينام،في غد مشرق تصبح فيه مفتوحة "عمرو بن العاص" عمريّة قحّة ..... يقبل أن تحتضن مصر الجميع، أن تحتوي الجميع ...........أن تصاب الفتنة فيها في مقتل ............ بإرادة الله أولا، الله الذي يسمع ويرى إخلاص المخلصين ودموعهم الحراقة في هزيع الليل يدعون ربهم تضرعا وخفية أن يحفظ مصر من كل مكر ...............
ربما هو ذلك النائم الذي أرخى الليل عليه سدوله في قطعة من الأرض اسمها "غزة" يتابع بنياط قلبه مع عينه وبكل خيوط عقله روضة الربيع العربي وقد ألقى فيها الثوار بذور الأزهار ..............وسقوها بأحمر قانٍ وما استكثروا أن يسقوها ويرووها بأحمرهم وهو ريّ حياتهم، فآثروا الرياض على الأرض والربيع يغمر الأرض وهي "بتتكلم عربي" على أن يرتووا هُم والأرض عطشى قاحلة جدباء .....
هو ذلك الغزاويّ الذي يتابع كل هذا ..... فيعلم أنه لم يعد وحده وأنّ قلبه لم يعد وحده ينبض للأقصى، ويرنو لتحرير الأقصى ويعلو صوته أنه يريد الصلاة بالأقصى ولم يعد يستبعد الحلم، ولم يعد يراه بعيدا من بعد ما ذهب الذي منع غزة النَّفَس ذات عام وسدّ عليها كل منافذ الحياة ظانا أنه يقتلهم ويكتم أنفاسهم ليتخلص منهم ومن مقاومتهم ومن إبائهم ومن حبّ التضحية عندهم ومِن حياة الأم بعد فقدها فلذات كبدها وهي محتسبة فرحة تنتظر يوم لقائها بمن سيشفعون لها لتدخل بمعيّتهم الجنة ..........ظنّ أنه سيخرس أصوات هؤلاء "المجانين" في عرفه ....ذلك الظالم .....
حتى إذا هو اليوم ممدد على سرير يُدفع به إلى خلف قضبان وعلى رؤوس الأشهاد يحاكَم ....... وهذا الغزاويّ يتابعه وهو على سريره ..... ويستذكر مشهده ليلا وهو صاح يفكر على سريره ..........وشتان بين سرير وسرير !!!
ربما هو ذلك الليبي الحر الذي تنفس الصعداء من بعد مقتل ملك الملوك المزعوم، ذلك الليبي الذي فُكّ الرباط عن عنقه والقيد عن معصمه من بعد ما أراه الله يوما فيمن اغتصب جنده أخواته الليبيات كأبشع ما يكون من الحيوان .... عذرا أيها الحيوان فأنت والله أكرم وأكرم وأكرم ....
فيمَن قتل الليبيين فرادى وجماعات وقبرهم جماعات يظنّ أنه سيتخلص من أرواحهم الأبية ومن ضمائرهم التي لا تموت وإن توقفت قلوبهم عن النبض .....خاب ظنه ذلك القاتل المقتول .....!!
يااااه يا ليل النائمين كم فيك من الصاحين !!! ويا نهار المستيقظين كم فيك من نائمين !
في صباح من صباحات مكتبتي، في جوّ من السكون الذي يسبق استيقاظ الدارسين و العاملين ليبدؤوا يوما جديدا من العمل أو الدراسة ....في كَنَف شمس مستحيية قد أَذِن لها الفجر المنتصر أن تنبلج وتنجلي من بعد ليل بهيم كم كان بين نائميه من صاحين .......!!! ومع صوت عصافير مهاجرة تلقي السلامات من بين السحابات تمنّينا بيوم يغنّي فيه الأحرار نشيد الحرية كما يغرّد فيه العصفور الشحرور نشيد حريته الأبدية .......
أو ربما كان صباحا مندّى بحبات المطر المؤذن بعودة الشتاء الماطر المغيث ، والغيمات المرمِّدات عين السماء الزرقاء تكاد تستصرخ من ينافح عنها ويدافع، إذ أنّ كل الكلمات عنها أنها المبدّلة لون السماء الزاهي إلى لون حزين ....

وأنها التي تحجب قوة الشمس عنّا في حرب بينها وبين أشعتها الذهبية، وأنها ....وأنها ........

ملّت المسكينة ظلم الواصفين ... فيما تكاد تصرخ بنا : ألا ترون جمالي أنا الأخرى ؟؟؟
فأردّ عليها في ساعتها ولا أحد غيرنا... أنا وهي وبعض قطرات الندى ....... أرد عليها أنّ جمالك لا يقلّ عن جمال الإشراق أيتها الغيمات

، في عزّ تلك الساعة الساكنة من صباح مندّى بقطر الندى ...... وطوبى لمن أحسّ جمالك مع نظرة إلى حيث الراسخ الشامخ خلف الأبنية والعمارات يطل علينا برأسه وكأنما يعلن زمان إعلاء الرؤوس، فكأني به طودا أكثر شموخا من سائر أيامه الفائتة ..........

في صباح من صباحات المكتبة الباكرة.... والأنيس طبيعة جميلة ساحرة هادئة ساكنة، ليس سكون الليل ولا هجوع السحر، وإنما سكون الصباح الباكر، حيث الشوارع الخالية من كل صخب، المرتاحة ساعةً من ساعات اليوم من لهث الناس، ومن جحود الناس، ومن آثام الناس .......
وكأنما هي هدية الرحمن للشوارع وللشجر، وللحجر... ليهدأ ويسكن وينام كما ينام النائمون .........!! هدية الله لقطع من أرضه عرفت دبيب الناس كما لم تعرفه أرض تعودت الطبيعة ومكوناتها وحدها ........
في صباح من تلك الصباحات .........وفي إطلالة باكرة من شرفة عقلي وقلبي على أهل الأرض العربية التي بدأت تذوق طعم الحرية وبدأت تعرف معنى التضحية، وبدأت تتوق لمعنى الانعتاق .......في إطلالة من عقلي وقلبي على قلوب وعقول عرب كثيرين من عرب الربيع المزهر، أطل على أسِرّة حملت أجسادا في ليل النوم لم تنم.... لأنها وقد ألقي عليها بدواء الداء الذي اشتكت منه طويلا لم تعد تعرف النوم .....ولم تعد تستطيب النوم، وباتت تخشاه من فرط ما أخذ من العمر سنوات وسنوات ...............!!!
في صباح من تلك الصباحات ......في صباح هذا اليوم بالذات ....كان أول الداخلين مكتبتي، ولدين يبيعان الجرائد، هما ممن يستقبلون الصباح في ساعات سكونه وهدوئه .......يسألني إن أحببت اقتناء جريدة من عنده -وفي مكتبتي لم أضف بعد ركن الجرائد اليومية- فاقتنيت من عنده وهو من أولئك الذين تود لو أعطيتهم وإن لم يكن ما أخذته يعنيك ......!
كانت جريدة "الشروق" .....وكانت صورة القذافي تتصدر الصفحة الأولى رافعا يديه داعيا في واحدة من صوره القديمة ....وعنونت الصورة بمانشيت عريض "القذافي دفن بطريقة لم تحدث في تاريخ البشرية "...........
وأحيطت الصورة من جوانبها بعناوين جانبية يستجلبون بها القراء ليقرؤوا المزيد على الصفحة المفصلة بين باقي صفحات الجريدة .....ولكنّ شيئا من تلك الكلمات لم يستهوِني ولم يشدني، ولم يثر في نفسي شيء من الصورة أو الكلمات إحساسا ....إلا إحساس الكراهية الدائمة لهذا الشخص الذي كان يوما ما يعبث بأرواح المؤمنين كما يعبث الذئب بأطراف الشاة البريئة .........
تعمدت ترك الجريدة مفتوحة على صفحتها الأولى فوق العارض الزجاجي بالمكتبة حيث يقف كل من يدخل المكتبة لقضاء حاجة، وهو حائل بين الزبائن وبين مكتب لي بحاسوب، تركت الجريدة فوق العارض لحاجة في نفسي .......
دخل رجل المكتبة، وهو بين الخمسين والستين من عمره .... تعودت على وجهه إذ لم يكن غريبا، بل كان زبونا تعود على قضاء حاجيات له من المكتبة، خاصة ما تعلق بالكتب ....
سألني إذا ما زرت العاصمة في معرض الكتاب الدولي الأخير، وإن كنت قد استجلبت معي كتبا منه، وهو يسأل تقع عينه على صورة القذافي، وفي سرعة برقية يقرأ العنوان العريض ويلمح اليدين الممتدّتين بالدعاء، فيقول بين متمتم ومجاهر:
- ادعُ اليوم أو لا تدعُ يا قذافي ....سواء بسواء
فعرفت أنه الذي عرف أن الدنيا قد ارتاحت منه .... فرددت عليه بلسان قناعتي
- ارتاحت منه الدنيا ..................
- بلى ....وكيف لا ؟؟
- الغريب فيمن يشفقون عليه ويستثقلون قَتْلته ويوصمون قاتليه بالهمجيّين ....ما بالنا؟؟!!
-تلك مشكلة من مشكلاتنا أختاه ....فهل يُنسى كل ما صنع من قبل ....؟؟!!
واكتفيت بقوله هذا ليُقضى شيئ من حاجة في نفسي ......
ويمر الوقت، ....و يدخل مكتبتي رجلان يريد أحدهما صورا طبق الأصل لما عنده من وثائق، وبينما أنا مع الآلة المصورة والوثائق، أسمع حديثا بينهما موضوعه تلك الصورة وذلك التعليق .....
- إييييه .....هذا القذافي رحمه الله رحمة واسعة ..........
فيرد مرافقه :
-لقد صيّروه مجرما من بعد ما كان فاتحا وعظيما وقائدا ......
- وعبد الجليل ذاك ...ليس إلا مجرما ؟؟!!
وأحجم عن أي تعليق وإن كان الكلام يريد أن ينطلق مني انطلاقا ..... ولكنني كنت أعلم ألا فائدة من كلام مع أمثالهما .....زدْ أنّ المرأة منا تعرف من يقدّر كلامها كلاما ومن يرى في كلامها شيئا غير الكلام ........فكان مني الإحجام وكأنني لم أسمع .....................
ويُقضى شيء من حاجة في نفسي، وآخذ الجريدة وأخفيها وأكتفي برأيَيْن اثنَين وهما اللذان يترجمان حال أمتنا من بعد الخلاص من طاغية بين الطغاة .........................كانت الأرض تشتكي جُرمه وجبروته وطغيانه .......
هي بين فكر ولا فكر ..........هي بين حق وباطل، هي بين إرادة الله في الأرض وأمنية من تمنى أن يكون ما أراد هو أور بما لم يكن يريد شيئا أصلا......هي بين تذكر ونسيان، أو تناس للأهوال وتذكّر للحظة الانتقام وحدها معزولة عن كل ما سبقها، مجردة عن كل أسبابها، وكأنها الافتراء والظلم والتعدّي واللاإنسانية .....
هي بين إنزال المفاهيم منازلها، وبين إنزالها بغير منازلها ..........فنذكر ساعة يكون الطاغية فاعلا ونغضب ونزمجر وقد نزبد ونرعد مع من يزبدون ويرعدون، وحينما يحل الانتقام، وتأتي النهاية التي يريدها الله، نفصل الحدث عن كل أسبابه فلا نعود نرى إلا الحدث وحده وكأنه المقتول المظلوم....
وكأن "الشهيد" بات وساما يوزّع على الظالم والمظلوم سواء بسواء، على المتعدّي أولا وعلى المتعَدَّى عليه سواء بسواء .........وكأن الحق والباطل وجهان لعملة واحدة ..................
ورغم كل ذلك ...............ورغم كل ما نسمع ....ورغم كل ما ينساه المشفقون على الظلمة، لن نظلمهم بدورنا ولن نحاربهم حتى يروا ما نرى وحتى يذكروا معنا ما نذكر ........
قد نذكّرهم ....نعم ... ولكن لن نحاربهم من أجل أن تصبح رؤيتنا للحق واحدة، مستندة لأسبابها وتاريخها .....
بل سنحارب العمى، وسنحارب التضليل، وسنحارب المساواة بين الظالم والمظلوم، وسنحارب الرؤية بعين وبعين نقيضة بين غمضة عين وانتباهتها ..... سنحارب الانجراف خلف التضليل الإعلامي وثقافة ترسيخ الرأي الآخر بعقول من السهل استعمارها لسهولة قابليتها لأي استعمار ...ذاك الرأي الذي يصيّر الإنسانية إنسانية ساعة يشاء لمآربه وحاجاته، ويصيّر الظلم ظلما ساعة يشاء لمآربه وحاجاته ....
ذاك الرأي الذي يبني على نشره وزرعه مآرب ومقاصد بعيدة تغيب عن أولي الآراء المتقلّبة الذين لا يرون بعين الحق بل يرون بعين متقلّبة متتبعة لخطى المخططين مُعلية لخططهم، مُنجحة لمقاصدهم ........
سنحارب التضليل ليكثر الواعون ...................... وحتى لا نرى الظالم ظالما يوما وحينما يذهب ويذهب ظلمه نصيّره مظلوما ....