دخلت وفي يدها كراس مهترئ، يكاد يئنّ من خلف قضبان غلاف أكثر اهتراء، أو ربما سكن منه الصوت وأوصاله المقطّعة ضرب اليمين وضرب الشمال من خلف تلك القضبان ....وقلم بين سبابتها وإبهامها، يكاد مع وجهها المستجدي يستجدي بلغة الحِبر أن يُكتب به .....
سارب حياؤها، مستخفية خفتها التي عرفتها بها، حتى لكأنّ الكلمات منها عادةً شتات و فُتات لا تكاد تُفهم منها جُمَل وتفيد إلا بشقّ الأنفس...ولكنها اليوم على غير عادتها جاءت "غادة" .... وديعة .... رقيقة..... هادئة .....لا تخرج منها الكلمة بصوت إلا وكانت تاليتُها بخَفْت عساها توحي لمن يسمع أنها المسكينة المضطرة .....
-أستاذة أسماء لو سمحتِ .... بكم تكتبين الرسائل ؟
-الرسائل ؟؟ !! أية رسائل ؟؟ أوَعرفتِني من قبل كاتبة رسائل؟ أوَبمقابل ؟ !

وفي نفسي شيء من أنّ المفردات أعجزتها، وقاموسهم اليوم شحيح منها رغم سُكناهم المدارس صباح مساء، وخاصّ الدروس ما بعد المساء... !! وحسرة في القلب من ضعف الأولى، ومن استشراء الثانية داء بين الأدواء عُضالا ....
-رسالة طلبت منا المعلمة أن نكتبها لقريب أو صديق، تهنئة بالعيد ...
آآآه .....رسالة.... يعني واجبا بمناسبة العيد، وقد دأبنا على تسميته صغارا "تعبير كتابي"، بما يساوي حثّ الفكر والقريحة وتعويدها على الكتابة والتعبير والإفصاح..... وأيّ بَون بينه بأمسنا، وبينه بيومهم ... !! أي بَون ........... !!!
إذ كانت أسعد أوقات دراستي في تلك الأيام الخوالي، تلك التي أجلس فيها إلى ورقة وقلم، أبوح للقلم وأحكي، وهو يترجم البَوح حرفا مكتوبا.....
حينما كنت أسرح بفكري وبقلبي وبعقلي ....... وأنا أستنطق الجماد لينقلب حيا على ورق، وأتبسّم لوجه الشمس كما تتبسّم لي بضوئها، وأتغزّل بجدائلها الذهبية، وأتملّى صفحة السماء الزرقاء، وعلى خطوطها البيضاء المتعرّجة المتحركة السابحة في الفضاء ملامح وأطياف حركات خفيفة لطيور حرة مغرّدة تعطي للسماء صوتا يحيّي كل أهل الأرض تحيّة الحياة .....

حينما كنّا نتقوّى ونحن الصغار، فنخاطب الجبال الراسيات الشامخات الشاهقات .... وما خِفنا قِمَمها وما هِبناها، ولا نفرنا من علوّ رأسها، ولا كانت يوما تلك العاليةُ علينا متعالية.... بل كم أحببناها، وأحببنا شموخها ..... وهي التي في الأفق البعيد الساحر تعانق جِيد السماء ...وأي عناق هو عناق الشوامِخ... !!
حينما كنا نحكي حكايا الربيع...... وفعله بزهر البساتين وهي تستحيل بين يديه غنّاء، وفعله بالأرض وهي تغني أغنية الخَضار والنماء .............
وفعله بالقلب وهو ينبت ويورق ويزهر حيا بين الزهور أبهى زهرة، وبين الأطايب أحلى مَطْيب ....وبين الطيور الحرة الطليقة فراشة زاهية اللون ، مرفرفة الجناح....حائمة، طائفة بين وادِ وأكمة و روضة، ودوحة دائحة ... وكل الأرض في قلوبنا الغريرة روضة ودوحة ......

حينما كنا نذكر الشتاء القاسي وكأنه المحبّ الحاني.... ونذكر فيه المطر، والهَطل والغيث، والثلج، وحبات البَرَد ....وكأنّ الخير من السماء يتنزّل علينا ليلقى من قلوبنا الحب والبِشر .....فكأنما كان يستأنس بصفاء القلوب، فكان ينزل فرِحا مُفرحا .....
حينما كانت قلوبنا لا تعي غير الفرح، حينما لم يكن فيها مكان للتّرح ....حينما كنا لا نقوى على وعي ما هو أكبر، وأن ليس في قاموس فهمنا أكبر من الفرح النقيّ نقاء البَرَد .....وهل كان ما منه أكبر ؟؟
حينما كنا نلتفّ حول الجدة الحنونة قرب مدفأة تلقي الشّرر وكأنه يسمع من حكاياها، ويسهر مع العيون الصغيرة السّهرى .... حينما كان علي بابا طيبا يجابه اللصوص، ومن قبل عهد حكاية "ابن علي شهبندر اللصوص" .... !!
حينما كان تاريخ الجد والجدة يتمثل لنا من أفواههم دُررا وعهدا تمنّينا لو أننا كنّا فيه، لنحيا حياة الحبّ الذي كان بين الناس، وحياة الإيثار، وحياة الشهامة، وحياة الأسرة الكبيرة الواحدة، والجار فيها أخو الجار، والمؤمن أخو المؤمن، والفرِح معه الكل فرِحون، والحزين معه الكل حَزْنى.... والقوي بإخوانه، والضعيف وحده ....
حينما كنا نتغزّل بالشمعة المضيئة والزمن يأكل منها ليعطي منها إلى مَن استنار بنورها .....فكنّا نحبّها، ونقدّر عطاءها، وتضحياتها حتى لكأنّ القلب منا يكاد ينخلع لحالها وهي التي تموت ليحيا غيرها .... !! كم كنا نقدر العطاء والحب والتضحية .....كم كنا نتمنى أن نكبر لنعوّض كل معط ومضحّ ومحب وفي يقيننا أنه المعطي بلا منّ وأنه المضحي بلا انتظار مقابل .... !!
كم كانت القيَم في زمان صِغر أيادينا، ونضارة وجوهنا، وتألق ابتساماتنا قِيَما ....وكم ندين لكل من علّمنا قيمة منها ... !!وعلمنا أنها التي لا تقاس بمقياس ولا توزن بميزان، ولا تباع ولا تُشترى، وأنها التي تبقى مدى الدهر أصيلة أصيلة أصيلة ....لا تتبدّل ولا تتسنّه .... !!
كم كنا نحاكي السنابل المزدهية بضوء الشمس، الرانية للأفق، المشرئبّة للخير والنماء والعطاء وهي المئة من واحدة ....فكنا ننغمر فيها بقاماتنا القصيرة، ونستأنس بفعلها في وجوهنا.... وأعيننا تنغلق دون هدهداتها، ووجناتنا تستطيب لمساتها .......
-رسالة إذن هي يا غادة ؟؟ ..... لا لن أكتب لك رسالة وقد سألتْك المعلمة من عطائك ومن جودك أنت.... من كلماتك.... من إحساسك، لتعطيك لقاء ما أعطيتِ.... فكيف إذا كانت كلماتي.... أوتشترين كلماتي لتبيعيها لقاء علامة بين العلامات ؟؟ وما النفع لك ساعتها؟؟ وأي حق هو لك ساعتها ؟؟ ! لا يا غادة .... اتعبي أنت....اكتبي أنت .... اعطي أنتِ لتأخذي أنتِ....لن ينفعك مني كلام مرصّع لتذهبي به وكأنه كلامك .....
-طيب ساعديني لأكتب ....
-أما المساعدة، فبلى ..... فهل كتبت شيئا لأراه لك، فأقيّمه وأقيم اعوجاجه ؟؟
-لا لم أكتب .....
-افتحي كراسك يا غادة ..... هيا اكتبي ..... هيا عبّري من كلماتك .....لمن تريدين أن تكتبي ......؟؟ هيا يا غادة ابدئي .... : "صديقتي العزيزة فلانة"
وأمسكت غادة برأس قلمها الذي لن يبخل .....وجعلت الأفكار تنتقل من رأسها إلى رأسه مترجَمة على الورقة ......
وكنت أسألها .... وأحثّ أفكارها على الخروج بكلماتها البسيطة، بمرادفات منها لكلمة بين الكلمات .... لقول قلبيّ يحضر متمثلة وجه صديقتها التي تحبّ على الورقة .....
وكانت غادة تكتب ..... فتنسى الألف واللام أحيانا كثيرة ..... وكأنها وهي تتعرف إلى ما عندها لأول مرة، كفاها أن تعرفت هي، فلم يعد يهمها أن تعرّف غيرها ........

وضمّنت غادة كلماتها التهنئة بالعيد، والتمني بالنجاح، والمستقبل الزاهر .......و أنهت كلماتها هي لا كلماتي ولا كلمات غيري ..... حتى أنني كلما استنطقت منها الكلمة ومرادفتها أبيت أن أضع التي تروق لي، وآثرت أن تبقي على ما هو ملكها ..... والذي كان يحتاج أن يُستحثّ ليخرج لا أن يبقى داخلا، لا تشغّل له دواليب العقل...... فتتعوّد على الاستيراد.... ويخمل عقلها عن الإبداع والصنع ويُحرم قلبها من الفرح بصناعة اليد ......
-أرأيت يا غادة .....ها قد كتبت رسالتك... ها قد خاطبت صديقتك .... لم أكتب أنا ...... ها أنت وبإمكانك الإفصاح والتعبير .....فعوّدي عقلك على هذا، ولا بأس بقليل من المساعدة والتقويم .... ولكنّ الجميل والصحيح أن يكون ما تقدمينه منك هو حقا منكِ لا من غيرك .
-ترد وعلى وجهها إشراقة ووضاءة هي عنوان فرحة جديدة، بمذاق جديد، حلو لم تكن من قبل تعرفه ....فلما عرفته سعِدتْ....
-شكرا أستاذة أسماء ..... شكرا.... بكَم ؟؟
-أنا لا أبيع الكلمات يا غادة، ومثل هذا لا أريد منه مقابلا، ولا يستقيم أن يكون له مقابل.... فإنما هو جهدك، وكانت مني مؤازرة، مقابلي يا غادة أن تعوّدي عقلك على أن يكون المعطي الخالص، وأن تكون العلامة لكِ لقاء بنات فكرك لا بنات فكر غيرك ....ذاك هو مقابلي يا غادة .... وفي قلبي تلك الآه العتيدة الجديدة...... آه لو تعلمين آهي يا غادة .....!!
ليتكم أيها الآباء..... أيتها الأمهات يا رعاة الأمانة الكبرى عرفتم أنّ عطاء طفلكم وإن كان صغيرا هو الذي يستحق لقاءه العلامة، وأنّ تخميلكم لعقولهم لقاء العلامة هو الوبال، وهو الخَسار لهم لا الربح ولا النفع ولا الفائدة المظهرية التي تنشدون......
وساعة يجدّ الجدّ فإنّ طفلكم اليوم سيصبح الرجل المتواكل غدا، والمرأة المتواكلة غدا ....هم المتواكلون غدا أبناء أمة المتوكّلين ....ساعة يجدّ جدّ الأمة ويقوى عزمها بذوي العزم فيها سيُلفظ المتواكل الذي كنتم أنتم زارعي بذرته الشوكيّة ....فعلامَ تقيمون فيهم للشوك صروحا ؟؟ !! وتئدون الورد وتستكثرون أن تعرّفوه وجه الشمس......؟!!
ليتكم تفيقون وتستنهضون في رؤوس أطفالكم شيئا يحتاج أن يُستنهض .....