إنه كائن صغير، قصير .... !

للسّين صديق صدوق، وللشين والثاء عدو لدود

...جَموح، مَروح، سَبوح ... طليق ، حرّ، عتيق، مقبل ، مدبر ....
تراه وكأنه الراكض أبدا، وكأن الفرحة وقهقهاته سريعة الانبعاث مِجسّ ما أن تمسّه حتى ينطلق عاملا كأكثر العَاملين سعيا و نشاطا وعطاء ....ووجهه الملائكي نور يشعّ على الأمكنة كلها حيث يحلّ، فيبعث من أنواره إلى كل القلوب المحيطة ...
هو القريب الحبيب، الذي يأخذ من سُويداء القلب بكل الأطراف...فلا يكاد يُذكر اسمه حتى تهلّ الأسارير على الوجه مستذكرة وجهه النضِر، ووجناته الوردية، وأنفاسه المتعالية نبضا فوق اللباس وفوق القياس وكأنما تلك المضغة هي الجسم كله، فإذا وهي الصالحة فِطرةً وطبيعةً لا جهادا وعملا، صلح الجسم معها فغدا كلّه ينتفض قلبا نضِرا....
فإذا غضِب هو الجميل، وإذا فرح هو الأجمل، وإذا طرِب هو الأجمل والأجمل، وإذا صخِب هو الفيلسوف الذي لا يخجل من أن يعرّف الحياة كلها بتعريفاته الخلطيّة، والويل والثبور لمَن سخِر من فلسفته وحكمته، ورأى فيها الخَبط ... !!

فهو من أشرس المدافعين عن رأيه، وعن رؤيته، ومن أكثرهم ثباتا على ما يرى وإن اجتمع له العلماء والحكماء ....!!
أنا لأمِّه خالة ....وله بالتعدّي خالة أيضا...ولكنّ ساعات حياته الأولى ما تزال تدقّ في جنبات بيتنا الذي كان محتضِنَه الأول من بعد غَسله بماء الدنيا من
غُسله بماء الحِمى الإلهي بين أحشاء حانية مُطْبقة عليه دارا وسُكنى هي أكثر المساكن والدور رحمة وألفة وراحة وسكينة وترفا ووَفْرا، ليستقبل الحياة الدنيا وينسى أيام بطن رؤوم تحمّله أشهرا تسعا ....
كان بيتنا، وذلك المكان المُعَدّ فيه لاستقباله بنِمْرِقته ولِحافه مكانا شهِد أولى ساعاته قدوما لهذه الدنيا ...
وتمرّ الأيام منذ تلك الساعات لتجمع له رصيدا معدودا من رصيده في الدنيا،قريبا غير بعيد سيتمّم به السنوات الأربع ....
قد اشتدّ عوده، وأصبحت يداه المنقبضتان من عهد الساعات الأولى يَدين متحرّكتين عاملتَين مُمسِكتين، مُعطيتين، مبتكِرَتَين.... وأصبحت قدماه اللتان كانتا من عهد ساعاته الأولى لا يعرفان غير المدّ وضعا، قدَمَين ماشيتين، قافزتين، راكضتين، ضاربتين، راكلتَيْن لكرة أو حتى لشي من الأشياء النفيسة، ففي شرعتهم ...النفاسة شيء من الأشياء وليست شيئا فوق الأشياء ...!
وغدت عيناه المغلّقَتَان عن الدنيا وما فيها من عهد ساعاته الأولى، المولّيَتان عن الدنيا وما فيها وكأنهما ما تزالان القابضتَين على أطياف البيت الأول وأحلامه وأمانه، تأبيان التفريط بصوره التي لم تكن إلا بين معاني الحب والحنان والرحمة والأمان، لا تحيد عنها لأخرى .... غدت عيناه اليوم مفتَّختين، باحثتَين، محدّقتين، دامِعتين ضحكا أو بكاء، غاضبتَين، متوعّدتَين، مطالبتَين بالحقوق دوما، ولا وجود لمعنى الواجبات في بريقها الملوّح بالسلامة والراحة والدَّعة، وأن التّعب عنده لهث خلف معانيه الصغيرة، الكبيرة في عالَمه الذي ينشغل فيه ويغرق منشغلا وهو يخلط الألوان خلط عشواء كأبرع فنّان من فنّاني يومنا المحسوب عمله على الفنّ حسابا زائدا كحساب صفر شِماليّ الموقع... !
إذ قد تنبعث القشعريرة في الأجساد المنهكة شوكا مَنْبَته النّفس المتضررة من الرؤيا، ومُتَنَفّسُه رؤوس تونِع خارجا تؤذن عن نفسها ببرودة تعمّ الجسم وتغشى أطرافه لترتعد أوصاله من سَطوها .... من رؤيا خطوطهم المتداخلة التي يقال عنها أقاويل الفلسفة والفنّ والجهبذة والعبقرية المنكفئة في أعين البسطاء المطّرحة اطّراحا في أعين الحكماء... !

فأي فرق وأي بَون هو بين فنّك يا "معتزّ" الحبيب وبين فنّهم هذا ؟!!
وغدا رأسه الذي كان يعذّبه حَملا وهو يرتجّ فوق أطرافه إذا حملته بين يديك، تعمل فيه العينان، بين يمنة ويسرة، ولا يقوى على تثبيته وعيناه تعملان، غدا رأسا مفكّرا يصعد بالفكرة ويهبط، ويحتال ويمكر، ويختار ويصرّ، ويقترح ويرمي بسنّارة مُطْعَمة لينال المراد، ويقرّر.... ولا تقوى أعتى القِوى على ردّه عن قراره، حتى غدا "معتزّ" بين أترابه العنيد .... !!
و هَبْك المجرّب الحذِق الذي يظنّ بحبائل أفكاره وقراءاته الفوقيّةَ والمعرفةَ وبصبره الصبر، وبسَبْره السّبر ....ولتكن أحد الذين يحاولون ردّه عن قرار ...فلك أن تحتمل العواقب وأنت بين يديه الذي لا يقوى على إقناع ولا محايلة ولا مراودة ...كحلمنا بقائد تقي نقي يكون مع تقواه ونقائه قويّ العزيمة، صارم القرار في غير هَوَج مُهلِك ولا إبطاء مُبْرِك...
غدا مفكّرا يتقن لغة الاستدرار لما تعوّد درّه من عواطف مَن حوله ليقضوا له حاجة بين الحوائج الملحّة، وكل حوائجه ملحّة ...

وفي مكتبتي له القصص والحَكَايا...حتى لكأن كل ركن فيها يحكي عنه حكاية...
إنّه الذي ألفها وألف جوّها، وأشياءها الملوّنة الزاهية مذ كان غضا يقفز للألوان بصوت القفز قبل أن تعمل بالقفز قدماه ...وأحبّها وأحبّ ما فيها، وأحبّ ألوانها وأشياءها الملوّنة بألوان فرحهم الدائم ....
فكان كلما زارنا جعلها قبلتَه الأولى، حتى أنه -وقد اشتدّ فكره مع عوده-، أصبح يترك أمّه أو أي مرافق له إلينا على باب البيت طارقا، ويهرول هُو إلى باب المكتبة الملاصق ليدخل إليها أولا قبل دخوله بيتنا ....
فأستقبله محتضنة، مفرغة من شوقي إليه وهو الذي لا يفرغ وإن زارنا كل يوم .... ويحتضنني بحرارة منمّة عن حبّ كبير صادق يلفّني به لفا ....
ويبدأ بالطواف، وكأنه الطواف الركن و النُّسُك بين مناسك الفرض المفروض... !! وتجول عيناه الصغيرتان الجميلتان وتصولان... وتبحثان بين الألوان عن الجديد، وما أكثر ما يَميز الجديد عن القديم الذي يصبح جديدا ويمسي قديما بين عهد وعهد قريب من عهود المكتبة ...
ويبدأ بألحانه الشجية "سينِيّة" الإيقاع

، ولحسن الحظّ ووفره فاسمي سينيّ الأصل لا ثينيّ ولا شيني، فكانت "أسماء" من مَبْسَمِه ابتسامة محلاة بروحه الطاهرة ....

ويبدأ بالسؤال عن جديد الهدايا والعطايا وقد تعوّدها... وإن كان له من باب يُفتح لها بلا إيصاد لكان فتحه، ولكنّ بعض الكوابح لتلك الجوامح تقف دون فعله وأمنيته .... :

وجاءني اليوم ....وكأي صباح يكون هو مع الشمس شمسَه الأخرى المنازعةَ مَلِكة الإشراق على الإشراق والإصباح، كان صباحي اليوم ... وبدأ بكلامه الفريد المتفرّد الذي لا أسمعه من غيره، ولا يكون من غيره أبدا ...

وفي جلّ جمله طُرفة ونكهة وضحكة من القلب يجتثها من عمل حياته التي لا تسمى حياة إلا بنبضه،ولا تسمّى حلوة إلا من حلاوة فطرية أصيلة كحلاوة معتزّ ، كأنما الحياة صنعته، وكأنما نحن المتألّون عليها، العائشون فيها بالشكوى لا بالعمل، وإنما الشكوى مبعثها أنفسنا، وإنما الدنيا بَراء من وقع غرورها فينا لو أننا ما كنا بها المغترّين .
ويبدأ يرسم على وجهه ملامح المجدّ في الطلب، المستجدي، البادئ عملا بين الأعمال التي تنزل بأعلى المقامات عندها، ولا تملك لها رفضا إلا من ادعاء للرفض، سرعان ما ينقلب انصياعا وقبولا ... وعلى استجدائه وتوسّله علامات العزّ والأنفة لا تغيب، والعين تعمل والفم الصغير يعمل ...والكلّ في عمل وشغل...
- أسماء أريد قلما سحريا للوحتي، فقد نفد حِبر القلم مُقتَنَى أبي...

وبما أنه أول الطلب مع مستهلّ الدخول، والفرحة باللقاء ما تزال نارها تمدّ للروح من نورها، فقد سارعت لواحد، ليصبح هديته وملكه....
عساك يا معتز تكتفي وتقنع وتكفّ، ولكن -سبحان الله- كم أنّهم ينبهرون بشكل وبلون، وسرعان ما يبهت انبهارهم وينتهي مع انتهاء قضاء وطر يسير من حاجتهم التي كانت قبل قليل هدفا من أهدافهم السامية ...
كفعل النفس في نفسها، وهي التي تزيّن وتحلّي وتزيّل بين الحق وبينها ...ولكن سرعان ما يذهب وقع التزيين ما أن تنال اليد المبتغى...ويبقى أثر الندم ووقعه لا يمّحي إلا برحمة من الله تتغمّد وتقبل المُقبل ...
ومنصرَفَه من عندي يركض لأمّه ليريها هديته الجديدة، ويعود سائلا أن أبدّل له اللون فقد ذهبت شهوته من الأول ....

فأستوقفه استيقاف الصغير الذي سيصبح كبيرا لا محالة ولا مجال لأن يعبّ من المحيط ومما يدور ولا يعبّ من قيم ومبادئ لا نريد لها فيه تزحزحا ولا تبدلا ...
- ولكن يا معتزّ أتعلم ؟ هذا قد كتبت به، ونفد من حبره ما نفد، وأنا لا أبيع غيرك قلما ناقصا قيد أنملة وهو يظنّ أنه الكامل.
- بل ستبيعين يا أسماء .... ستبيعين....

ويصر ويلح ووو......... ولكن لا مجال لطاعة مخلوق وإن كان للقلب الأحبّ في معصية الخالق ...وفي نسيان لخير يقبل عليه مع كل إقبال للعمر عليه، ولا نرى إلا مقدار مهوى العين منا على أرنبة الأنف من فرط حب هو في حقيقته اللاحبّ ما دام لا يرى "معتز" الرجل، بل يكتفي برؤية "معتز" الطفل الغرير.
"معتزّ" هو "المعتزّ بالله" أصلا... وهو يعبّ مع سنواته الأولى من نور الله تعالى ومن نور ما علمنا وعلمنا حبيبه وصفيّه صلى الله عليه وسلم، فقال لي ذات مهاتفة وهو يخبرني عن آخر ما درس وتعلّم بروضته الحبيبة، ومع رفقائه الصغار، أنه قد تعلم بعد دعاء الأكل ودعاء النوم، ودعاء "الاستيقا
ز"

أشياء أخرى أهمها نشيد روضته الجديد :
ابعد ابعد يا شيطان*** قلبي عامر بالإيمان
لما أسمع الآذان *** أترك شغلي مهما كان
وأصلي للرحمان *** بخشوع واطـــــــمئنانوأنّ عليّ أن أحفظ جيدا معه وألا أنسى، فيبدو أنني تلميذة بليدة أتعبتْه وأضجرتْه

، لكثرة ادّعائي صعوبة استيعاب دروسه، مستبلدة، متعمّدة لأجعله يصرّ على تعليمي أكثر ...
- طيب يا معتز، علمني وعلم أيضا أمي، وأخي ، وأختي معي .
- لا لا يا أسماء أنا أعلمك وأنت تعلمينهم جميعا ...
وبكل حزم وعزم يبدأ :
- دعاء الأكل "اللهمّ بارك لنا فيما رزقتنا وقنا عذاب النار... بسم الله"

وغيرها أيضا على منوالها ....

وبينما أناوله صباحا شيئا من مقبّلات الفرح بمقدمه، لم أسمعه يقولها، فصحت به أنه قد نسيها، وأنني ما سمعتها اليوم منه، فتمتم وهو يردف تمتمته قائلا :
- قلتها في قلبي يا أسماء، في قلبي ...في قلبي أنت لم تسمعيني لأنني قلتها في قلبي ...

وفي قلبي قلت أيضا :

عجبا ... من عادتنا نسمعك تجهر بها حتى أنّ الجيران بإمكانهم سماعها ... فاليوم أصبحت متمتما ... عجبا، يالتنصّل الصغار بما لا تملك حياله أن تعاقبهم أو تحاججهم وقد أبدوا حججهم المفحمة.... !

أما القلم السحريّ الكاتب على اللوحة السحرية، ففي معرض سماع أشياء عن الجنة تحكيها له خالته، وهو لا يبالي، ولا يلتفت إلا للوحته يخطّ فيها من خطوطه العبقرية، ويلوّن ويشخبط ويخلط وهو الذي يرى في نفسه العبقري المجدّد، وقلمه ذاك سلاحه وهو كل شغله ولا ينشغل عنه بغيره ولا إلى غيره، فتجد خالته حيلة فتقول :
- أتعلم يا معتز في الجنة ستجد من هذه الأقلام الكثييييير الكثير –مشيرة بيديها حذو ذقنها معبرة عن الكثرة- وأبدا يا معتز أبدا هي لا تجفّ ولا ينفذ لها حِبر ...
فيلتفت معتزّ فرحا مغتبطا متفاجئا بهذا الخير الذي يراه مبتغاه الأكبر مع ولعه بالكتابة وتعلّمه الكثير من الحروف وهو في سنّ سبق فيها إليها أترابه، فيهتزّ قائلا :
- إذن سأذهب للجنة .... وفيها من هذه الأقلام... !

وها هو يقطع عليّ حبال أفكاري فيه، ويدخل متوعّدا، مزبدا، مرعدا ....
- أسماء ألا تدخلين للقيلولة ؟ إنه وقت الراحة، وإن لم تدخلي لن أدخل –يريد بما معناه أنه باق معي بالمكتبة ومسليّ بطلباته التي لا تنتهي –

حفظ الله معتزّ وأعزّ به وبأترابه دينه وقومه .
