المحرر موضوع: خواطر مَكْتَبَتِية  (زيارة 40534 مرات)

0 الأعضاء و 3 ضيوف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6547
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #100 في: 2011-12-03, 07:08:50 »
بارك الله فيك يا أم يوسف، وطيّب خاطرك وجبر به، وجعل ما يمنّ به علينا من كلمات نفعا .

أما وقد رحبنا بالـ "جدن" فلا مناص من دوام إكرامها هي الأخرى ::)smile:، عساها تكون في اللغة صحيحة  :emoti_64:
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل أم يوسـف

  • أحلى شباب
  • *****
  • مشاركة: 2878
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #101 في: 2011-12-03, 08:12:40 »
بالطبع يا أسماء أنت تدرين أني معلوماتي في اللغة العربية لا تؤهلني لمعرفة إذا كانت في اللغة صحيحة أم لأ

ولكني " بعاكسك"  ::)smile:

الحقيقة أن كلماتك رائعة ولا أجد كلمات توفيها حقها و تعبر عن متعتي عند القراءة

أشكرك جدن  ::)smile: على الدعاء و لك مثله
كم من مستبد سيحاسب حسابا عسيرا على كل قطرة دم تريقها كلمته: لن أرحل.. وهو راحل شاء أم أبى

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6547
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #102 في: 2011-12-12, 13:53:20 »
دخل المكتبة، وألقى السلام ... ويده بيد صغير يطفئ شيئا من نار شَيْب أشعل رأسَه ...

تلمح في تقاسيمه المتبسّمة حُبّا كبيرا لذاك الصغير يفوق حجمه وطوله وصوته، يدلّل على أنّ الصغار أكثر محتلّي القلوب قوة، وأوسع أولي العلم بسطة في العمل بعلمهم عَمَلَ البساطة والصدق والبراءة والطّهر... وأغلب الكبار ذوو عُسرة فيها، وكلّ الصغار فيها ذوو مَيسُرة  ... وبين كبار وكبار أصلاب هي الأصل والمنبع وهي السبب في صغير جاء من كبير كان بالأمس بين الصغار صغيرا ....

فأيّ شجرة هي تلك أصل الفروع وأصل الأوراق وأصل الجذوع ... !

أي شجرة تلك التي تعرِّفُك الرياح العاتية مقدار رسوخها في الأرض وضربَ جذورها فيها، وتُعرّفك الشمس المضيئة الحانية على كائنات الحياة مقدار ما تصبر على صُروف الدهر، وكيف تعِد بعودة الخضار وإن سلبها الخريف العنيف أوراقها ونثرها على الثرى، حتى إذا رمقتَها خِلتها المسلوبة التي لن تعود لها الحياة.... وهي التي قد قطعت مع الربيع مواعيد العودة والميلاد الجديد ... ! فما أن يهلّ الربيع الوديع حتى يعود النماء وتعود ابتسامتها للحياة كما تعود فيه للحياة ابتساماتها .... !!

هكذا هم الكبار إذ يرافقون صغارَ صغارِهم، ولكأنّ الجذر الأكبر وهو يحمل الساق والجذوع والأوراق يحنو على الكلّ ويحيا للكل، ولا معنى لحياته إلا بحياة الكلّ...

و ما يضِنّ وجهُ الحياة العبوس برسم التجاعيد خطوطا وخطوطا على الجلد ترهّله وتَذهب بنضارته وطراوته، ولهو أقرب للبَضْع بسكين منه للرسم بريشة، وتُكدَّس السنون بادية لا خفيّة وإن جاهد مَن جاهد على أن يخفي ويداري ويواري...ما ضنّ حتى على اليد الممسكة باليد، فإذا رسم التجاعيد عليها لا يخفى وهي تقبض على يد صغيرة غضة نضِرة يستحي وجه الحياة العبوس أن ينظر إليها أو أن يريها عُبوسه واكفهراره ...

ولكنّ الصغير أفلحُ المفلحين في رؤية جدّه المُحبّ شابا يافعا فارعا لا تُبعِد بينهما السنون بقدر ما تقرّب بينهما لغة القلبين، فإذا قيست القلوب بالأحجام كان قلب الجدّ أكبر كما قلب كل كبير إلى قلب كل صغير، ولكنّهما يستويان بمقدار الحب العظيم الذي يحتويان... فلهو الموحّد بينهما، وهو القاسم، وهو الذي يسوّي الصغير إلى الكبير في غير كذب ولا افتراء .... فيُضْحي قلب الصغير كبيرا مع قلب الكبير الكبير .... ! emo (30):

ها هما عيناه تشرئبّان من أصل الأرض الأقرب إليه، مع عُنُقِه، مع كل ما فيه إلى وجه الجدّ الأبعد عنها، في حديث العين للعين والشفاه للشفاه، بلا تكلّف ولا اصطناع ولا مقدّمات ولا استباقات .... هذه الفصاحة التي لا تكلّف فيها ، وأفصح الفصحاء يخشى شيئا يشوب فصاحته وآذان الجمع متربّصة بكلماته ... ! وأكثر الحكماء حصافة يخشى أن تناله يد الهفو فيقع إلى دون ما عُلم عن حصافته ... !! وأحسن الجياد روضا تكون من نصيبه الكبوة...

ولكنّ هذا الصغير لا يخشى مع طلاقته وتلقائيته وسلامة قلبه التامة كبوة ولا هفوة ولا شوبة ... وهو يحدّث جدّه الذي تهابه الكبار ويحسبون له الحساب والألف بحديث الواثق الذي لا يأبه لضحك ضاحك ولا لشزر ناظر .......فأوّاه ثم أوّاه  لريح الحرية فيكم أيها الصغار البواسل ... !!

ها هو ذا يطلب، ويلحّ ، ويصرّ ولا يفتر... يقيم على طلبه منافحا مصابرا مرابطا لا يعود عنه ولا يَعدِل وإن كان من الجد ما كان، وقد يضجر الجد المحب من طلبات كثيرة، وقد يملّ ، وقد يرى فيما يرى أن أوان الردع والصدّ قد آن، وأنه لا مجال لفتح باب تلبية بلا إيصاد ....ولكن غالبا ما يغلب الصغير وإصراره،  ويفوز بإلحاحه وقيامه على طلبه ومراده ....وغالبا ما يعود الجد الكبير عن رأيه ....وغالبا ما تذهب حكمته ونظرته البعيدة بعيدا عنه تكِلُه وانصياعَ كل حكمته ورؤيته وتجربته وسنين عمره الطويل لصغير أقرب ما يكون عَقْلُه لعُقلة إصبع من أصابع عقله الكبير ... !!

فأواه فيكم لريح الإصرار والجهاد في سبيل تحقيق المراد أيها الصغار الأبرار ... !! emo (30):

- قصة تليق بسنّه لو سمحتِ...

- هذا رفّ قصص الأطفال أمامك يا "حاج" ...فانظر ماذا ترى، وانظر ما يروق للصغير بينها ...ما رأيك بهذه المجموعة من قصص الأطفال العالمية ؟ "ذات الرداء الأحمر، اليتيمة بائعة الكبريت، القط الذكي....." ؟

- يااااه ... انظر يا بنيّ هذه "ذات الرداء الأحمر" ويثنّي باسمها الفرنسي "Petit chaperon rouge"، أهي هنا؟؟ يا حسرة على الزمان ...يا حسرة ... !! يا حسرة على زمن جميل مضى يا حسرة ..... !! سآخذ لك هذه يا بنيّ لتقرأها وتعرف قصتها، فهي من أول ما قرأنا صغارا ....

وجعل الجدّ يتصفّح القصة بصورها وحياتها القديمة الجديدة، ويرى فيما يرى ماضيا عاشه، وزمانا جميلا كانت فيه "ذات الرداء الأحمر" من أول ما عرف، ومن أول من أحب، كيف لا وهي من بواكير المعرفة في باكورة الحياة ؟! ....

ورأيته وهو يقلّب صفحاتها وكأنّه يقلّب معها صفحات تاريخ مضى من حياته، كان من ذاك الزمن الجميل ....
أيام عرف الطهر والبراءة والنقاء في ذات الرداء الأحمر، وعرف الطيبة والوداعة والرقة في ذات الرداء الأحمر .... وعرف الحب وفعل الخير في ذات الرداء الأحمر وهي تزور جدتها وتأخذ لها معها حلوى مما تحب وتشتهي.... وعرف  من معاني الحرية في ذات الرداء الأحمر وهي بين المروج تسرح ، وفي أحضان الغابة باسقة الشجر دانية الثمر يانعة الزهر تلهو وتمرح، تُسلّم على كل نبْتها ومائها وطيرها كما يسلّم البشر على البشر .....

عرف المكر في ذئب تربّص بها في أدغال الغابة، فذكر مُرَّا تجرّعه وهو يكاد يموت فَرَقا على ذات الرداء الأحمر من مَكْره،و كم ودّ لو أنّه كان ذاك الصيّاد الشهم  منقذَها من أنيابه اللمّاعة الطمّاعة ....
وكم حزِن وأفل نجم بسماته المتلألئات قبل حين فور سماعه أنّ الذئب همّ بها سوءا وأذى، بل وفوق الهمّ كان النُّزوع...! وأيّ نزوع قاتل هو ، وذات الرداء الأحمر وجدتها بين أحشاء الذئب حَشى ؟! sad:(....ثمّ ما انفكّ يموت حزنا وكمدا حتى  فُكَّ أسر قلبه الخائف الحزين فورما عرف نهاية الذئب اللئيم ونجاة ذات الرداء الأحمر من مكره وكيده وطمعه ....حتى أنّه صدّق كل التصديق بباقر بطن اللئام ومستخرج الطيّبين الحَشى أحياء من بين أحشائه...!! وكم سعِدَتْ وجدتها .....وكم هنئتا.... وكم كان جزاء الإحسان لها إحسانا ....

في لحظات ............لم تكن إلا لحظات ... هي التي قلّب فيها صفحات القصة الصغيرة، رمقتُ الماضي السحيق ممتثلا بين عينيه، كما امتثل بين عينيّ ماضٍ هو لي بعيد أيضا،  ولكنّه أيضا كان من الزمن الجميل .... فعرفت كم أنّ حسرته كبيرة، وكم أنّ صفحة الذكريات التي فُتحت أمامه على ورق "ذات الرداء الأحمر" كانت جميلة بهيّة، بألوان زاهية رسمت رَوْقَة الإحساس بوزن الذكريات الجميلة البديعة ....

ما دَرَى أنني كنت أرى ما كان يرى، ما دَرَى أنّني أقلّب معه أيضا صفحاتي الجميلة، أراها في عينيه حسرة، يقيس بزمان يعيشه اليوم زمانا عاشه وكأنه كل أيامه ....

-----------------
ومازال لقصة القصة بقية فهل نكمل ؟ emo (30):
« آخر تحرير: 2011-12-12, 17:16:35 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6547
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #103 في: 2011-12-13, 10:45:04 »
أحببت أن تكون قصتنا تفاعلية، ولكن يبدو أنّ كلا مشغول بما شغله، وعلى كل حال يجب أن أضع تتمّتها

--------------

لم يكن يدري أنّني عرفت وزن حسرته وتنهيدته التي نفثها قويّة... إذ أنه وهو يرى ظلاله التي عادت فأظلته من جديد لم يرَ أن ظلالي الأثيرة قد عادت أيضا من ذلك الزمان الجميل وأظلتني للحظات.... ولكنّ وارفها يعمّ ، فتطول مدة مكثه ما تعلّق القلب المتذكّر ببهيّ تلك الصور وجميل تلك الذكريات... ولعمري إنّ حياة القلب لا تكون بلا أثر فيها لحياة جميلة كانت .... لا تضاهي جمالَها حياة تصير كتابًا للذكريات .... !!

لم تكن تدري أيها الجدّ الذي عاد به حفيده ويده الصغيرة ومكتبة لأشيائه الصغيرة إلى ماض جميل أنّ الله الودود يرفّ برحمة من رحماته على قلوبنا، فيدقّ ناقوسُ الذكرى فيها ليعود المرء فيعيش ماضيه وصِغَره وشبابه في لحظة بين لحظات العمر شأنه شأن حبيس غرفة الإسمنت والحجر والآجر، الفارّ منها إلى السماء بشمسها وهوائها وسحابها، وإلى الأرض الرحبة بمائها ونمائها وخضارها ...وشتان شتّان بين حياة وحياة ....!!

لم تكن تدري أيها الجدّ أنّه من حالِكِ حالِكَ حالي، وأنّني أيضا كنت المسافرة على مطيّة اللحظات إلى تلك الأيام الخوالي ....وأنّ حسرتي أيضا يا جدّ كبيرة وعميقة  كلما تذكرت أيام زمن جميل عشتها هي عندي الأيام الغوالي ....

ومن أين يتأتّى يا نفس الجمال ؟ ومن أين يتأتّى يا نفس الغلىَ ؟ وكيف يُقاس يومي  بتلك الأيام فإذا هو الأدنى؟ وإذا الدمع مني ساعة القياس الأقربَ والأدنى  ؟...وعلامَ أيتها النفس الحسرة والتحسّر والأسى؟؟
قد أتاكِ الجواب يا نفسي في تلك اللحظات القليلة، في تلك التي قلّب فيها الجدّ صفحات "ذات الرداء الأحمر"، في تلك التي قلّبتِ معه فيها صفحات "ذات الرداء الأحمر"، وصفحة الأيام الماضية فيها ....

كانت أياما عليّة بمعانيها...بعِظم القيم فيها... بقرب الإنسان لأخيه الإنسان فيها... بمعنى الإنسان في الإنسان فيها ....بصدق الضحكة القلبيّة فيها... بكثرة دواعيها، وصفاء معانيها ....
تلك التي كانت صباحاتها نديّة في القلوب كما كان يُنَدّى في صباحاتها النَّوَر...

تلك التي كان فيها الجار يسأل عن جاره وعن حال جاره، لا عمّا لَهُ و لا عن مالِه ... ويحرس جاره لئلا يؤذى جارُه، لا ليتمسّح بجاره ذي المال والأعمال عسى يناله من خيره ما يناله ...ويربّي الوِلدان مع الأب جارِه لأنّهم أولاده بتعدّي الأخوّة الجامعة .
تلك التي كان فيها الأخ أخا لا لمال أو لمادة أو لجاه، بل لقلب أخ يرفّ عليه قلبُه ....كل منهما في جسد، ولكنّ محلّ الإحساس والعمل منهما واحد ....

تلك الأيام التي كانت فيها الحُرمة حُرمة، والكرامة كرامة، والمروءة مروءة ...تلك التي كانت المرأة فيها بكمال معناها وكمال معناها حُرمتها، ومكانتها ونفاستها...فكانت العالمة وهي الموقّرة المحافظة على نفسها والمحافَظ عليها، وكانت الأديبة الأريبة وهي المحافِظة الموقّرة.... وكانت التي توغل في رأس وأسّ العلوم علوم الدين وهي المثال والقدوة الهادية...

حينما كان الرجل برجولته، ورجولته كمال معناه ... فكان يعفّ عن كذب، أو عن سفَه أو عن خفّة رأي أو عن خيانة أو عن لآمة لأنه الرجل بكمال الرجولة فيه ... لا يخشى في الحقّ لومة لائم، وهو الملجأ حين الشدّة والاضطرار، والمجيب ساعة الحاجة وساعة يجدّ الجدّ ويجب الحدّ، ولم يكن يهرب من مسؤولية ولا من تبِعة ولا من واجب، ولم يكن يحمّل المرأة ما يجب أن يبقى حِمله وحده، بل كان حاميها والحِمى، وسنَدَها ورادّ السوء عنها و الأذى ...فكانت عين المرأة يومها حكيمة ترى الرجل بمعاني الرجولة، وكمال الرجولة، وكانت تطلب فيما تطلب وتتمنى فيما تتمنّى معنى الرجل في الرجل لا اسمه ورسمه وعاءً خاويا لا يُوعي...

حينما -يا جدّ ويا نفسي المسافرة حيث سافر الجدّ- كان جمع الناس يبغضون الكذّاب والأفّاق والأفّاك والمخادع المُداهن كبغضهم الشيطان فورما يُؤتى على ذكره الآسِن ....فكانوا يعادونه ويولّونه الدُّبُر حتى يرعوي أو ينزوي انزواءة الذي هو منهم ولا يُقبل أن يكون على ما هو عليه منهم، ولأنّ طُهر الكلّ أولى من مداهنة الواحد الذي يُؤسِن الكلّ، كحال الجزء الموبوء من الجسم يُبتَر لئلا يذهب الجسم كلّه من استشراء عَفَن الموبوء ....وحتّى يظلّ المجتمع وهو الألفاف الظليلة بنقائه وعليل هوائه ، فلا ينتقل الأسَن إلى الحِياض الطاهرة ....

أرأيتَ يا أيها الجدّ المسافر حلاوة السفر من جنس سفرتك وسفرتي؟؟ أعلم أنك قد رأيت .... !

حينما لم تكن قلوب الآباء والأمهات الطاهرة الخالية من ابتلاءات الزمن بإنزال المفاهيم غير منازلها، وبقلب الموازين، لم تكن تُعطي من قلوبها  لقلوب صغيرة هي منها وهي أكبادها التي على الأرض تمشي  أنّ "الكذب" ضرورة اجتماعية ، وأنّ "سوء الأدب" سلاح اجتماعي إشهاره ضرورة، وأنّ "الوقاحة" جرأة أدبية عصرية لا بدّ منها، وأنّ "المادّة النقدية"  هواء عصريّ مع الهواء الذي هو للنَّفَس ...وأنّ...وأنّ......حتى أصبح من الأطفال مَن إذا خاطبتَه حسبتَه ذاك المجرّب الذي خبِر الزمان ونوائبه والدهر وألاعيبه !!....وما ذاك فيهم إلا صورة ممّا يُزرع فيهم، وما ذاك فيهم إلا حجارة، على النار التي بالقلوب المتحسّرة نارٌ أقوى وأشدّ لهيبا ....

ومن هذا ومن ذاك أيها الجدّ .... من صحن به القليل من جار مقلّ في يوم عيد بين الأعياد يصل جارَه الغنيّ بيد ابن أشْرِبَ في قلبه أن جارنا هذا مثل أبينا، له التجلّة والاحترام والتقدير والحبّ ....فلطالما تفقّدنا ورعانا ولم ينسَنا في شدائد أيامنا كما في رخائها ....

من يده الشبيهة بيد ذات الرداء الأحمر، ومن قلبه الشبيه بقلبها الأبيض ....يصل صحن الفقير المقلّ بيت الغنيّ الموسر ...فلا يتكبر ابن المرسَل إليه على ابن المرسِل، بل يحتفي ويفرح ويسعد، فصديقه هذا الفقير غنيّ النفس.... وعلى هذا رباني أبي أن أختار بين الأتراب أصدقائي، فإنه لا يشتري لي المال فيما يشتري طيب منبع ولا كرم أخلاق ....
ومن كل هذا وذاك يا جدّ الحفيد ....تتأتّى التنهيدة ذات النفثة القوية ..... أدري.... تالله أدري .....

وكل هذا في لحظات .... ما أثراها وما أغناها  من لحظات تطوي الزمن الجميل طيّا على بساط الريح الزهيّ الذي أخذنا إلى تاريخ بهيّ وزمن ولا أبهى .... تفرشه نمارق وزرابيّ، وترصفه نجوما ولآليّ ....فيتراءى لنا ما لا يتراءى لغيرنا وهم لم يمتطوا بعد صهوة اللحظات الغالية إلى الزمان الغالي .....

واشترى الجدّ "ذات الرداء الأحمر" وهو يقول ويعيد، ويعيد ويقول ...يا حسرة على ذلك الزمان ...!!يا حسرة على ذلك الزمان ....!!
ويحدّث حفيده أنّ عليه قراءة هذه أولا، ويعده أن يبتاع له أخرى من عبق ذلك الزمن الجميل إذا ما أتمّ الأولى....

ويهمّ بالخروج من مكتبتي .... وهو يداري دمعا، لم يدرِ أنني رمقته ورأيته وعرفته .... ولمّا لم يقوَ على مغالبته همّ  براحة يده تميط ما غلبه على أمره فانساح منه على خدّه إماطة الرجل لدمعه العزيز ... وهو لا يدري أنني قد رأيته ....

ولأنني عرفت وزن تلك الدمعات اصطنعت العمى عنها، وأنني لم أرها ...وودعت بعيني ظَهر الجدّ الذي سارع يُشيح بوجهه عني وهو يخرج وكأنّه يُخرج قبل كلّه عينَه فاضحةَ حالِه وسرّه  ....وإنّه لمن معنى النفاسة فوق وصف المعنى أن نبقي على الإحساس القويّ النفيس طيّ أنفسنا، ونربأ أن يكون عرضا لكل مبصر....!

إنك لا تدري أيها الجدّ أنني رأيت دمعاتك، وأنني قدّرت وزنها ....ولأنني قدّرت فقد آثرت الصمتَ،وفي الصمت سفر آخر على مطيّة أخرى إلى عالم تقدير المشاعر وتبجيلها وإعطائها حقّها من التجلّة  والإعزاز ....

وحقّ لدمعك أن يُرسل أيها الجد ّ...........وحقّ لعينك يا جدّ أن تجود .....


« آخر تحرير: 2011-12-13, 10:49:33 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل maha

  • شباب جديد
  • *
  • مشاركة: 1
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #104 في: 2011-12-22, 04:17:05 »
اول مشاركة ليا فى منتداكم الرائع فى موضوع اكتر من رائع
واعذرينى ان كلامى مش باللغة العربية الفصحى بس حاولت ولقيت ان باى حال من الاحوال هتكون محاولة فاشلة جدا لانه هيكون موجود فى مكان زى دة
حبيت اقولك ان خواطرك بجد اكثر من راقية كلاما ومعنى
اعدت لى احساس رائع بالبهجة ابتديت احسه من تانى بعد مدة طوييييييييييييييييييييلة اوى اوى مش قرات فيها كلام باللغة العربية الحقيقية مع كل خاطرة وكل وصف وكل كلمة
بجد جزاك الله خيرا

غير متصل ماما هادية

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 15907
  • الجنس: أنثى
  • احفظ الله يحفظك
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #105 في: 2011-12-22, 09:29:04 »
اول مشاركة ليا فى منتداكم الرائع فى موضوع اكتر من رائع
واعذرينى ان كلامى مش باللغة العربية الفصحى بس حاولت ولقيت ان باى حال من الاحوال هتكون محاولة فاشلة جدا لانه هيكون موجود فى مكان زى دة
حبيت اقولك ان خواطرك بجد اكثر من راقية كلاما ومعنى
اعدت لى احساس رائع بالبهجة ابتديت احسه من تانى بعد مدة طوييييييييييييييييييييلة اوى اوى مش قرات فيها كلام باللغة العربية الحقيقية مع كل خاطرة وكل وصف وكل كلمة
بجد جزاك الله خيرا

أهلا ومرحبا بك يا مها في أيامنا الحلوة
أتمنى أن يطيب لك المقام بيننا وأن تصبحي عضوا من أسرة المنتدى
اختيار موفق جدا للبداية من عند المبدعة أسماء


للأسف يا أسماء أؤجل دوما الاطلاع على خواطرك المكتبتية لوقت (رواقة) ولا اجد هذا الوقت بعد
ولا حول ولا قوة إلا بالله
*رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ*

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6547
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #106 في: 2011-12-22, 12:10:24 »
اول مشاركة ليا فى منتداكم الرائع فى موضوع اكتر من رائع
واعذرينى ان كلامى مش باللغة العربية الفصحى بس حاولت ولقيت ان باى حال من الاحوال هتكون محاولة فاشلة جدا لانه هيكون موجود فى مكان زى دة
حبيت اقولك ان خواطرك بجد اكثر من راقية كلاما ومعنى
اعدت لى احساس رائع بالبهجة ابتديت احسه من تانى بعد مدة طوييييييييييييييييييييلة اوى اوى مش قرات فيها كلام باللغة العربية الحقيقية مع كل خاطرة وكل وصف وكل كلمة
بجد جزاك الله خيرا

أهلا وسهلا ومرحبا بك أختنا مها  emo (30): سعيدة جدا أن كان موضوعي أول موطئ لقدمك بمنتدانا الحبيب ....كما سعدت أن نالت هذه الخواطر إعجابك  وأعادت لك شيئا من شعور يسعدك  ::)smile:ولله الفضل، وله الحمد والمنّة  emo (30):

لي عودة قريبة جدا يا مها، ربما اليوم أو غدا بإذن الله تعالى لأضع الجديد .

هادية الغالية أسأل الله تعالى أن ييسر لك من أمرك ما تجدين معه وقتا للقراءة هنا .
نسأل الله سبحانه أن يرزقنا كتابة ما ينفع وأن ينفع بما نكتب .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6547
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #107 في: 2011-12-23, 14:42:41 »
وفي دوام المكتبة أيضا مندوحة لقضاء شأن بين الشؤون، وهي في حقيقتها، وفي جملة مسؤولياتها من بعد ما يألفها الصغار المارُّون بها إلى مدارسهم، والكبار المارون بها إلى وظائفهم... تغدو فيها مسؤولية تلبية المحتاج شيئا من أشيائها من أهم ما لدورها من نفع... وكثير مّا هم المضطرون لحاجتهم في ساعة عُسرة من ساعات العَجلة أو الوقوع تحت طائلة أمر بين الأوامر... خاصة من أولئك الصغار الذي يرون معلّمهم آمرا لا يَجوز إسقاط أمرِه، وأنّ كل ما يقول وما يطلب وما يسأل لا بد أن تكون إجابته إليه سريعة، بل بأسرع من السرعة...! :emoti_209:

وترى زملاء القسم الواحد كخلية نحل يأتمر الكلّ فيها بأمر مَلِكَتِهم، صنوان في الائتمار التذمّر والقلق من الطلب، أو تلبيته بانشراح وصدر رحِب، ففي كلٍّ التلبية لا مناصّ منها، وواجبة لا مفرّ .... sad:(

وكثيرا ما اجتمع الزملاء نزلاء القسم الواحد، في طلب واحد، -وكما هي شِرعة الأطفال -الضوضاء عندهم وتضخيم الأمور سنّة مؤكدة، لا يكاد يتخلّف عنها واحد منهم، فهذا يقول في الأمر قولا، ويؤكد عليه، وذاك يُسمِع به القاصي والداني ،مَن أهمّه ومن لم يهمّه، ::)smile: وكأنّما هو المشروع المصيري للبلد...! وكأنما الإشهار له أصواتهم وكلماتهم وتهويلاتهم ....  :emoti_138:
وفي كل هذا يصبح من أكبر مرامي المكتبة نَشَدانُ إحساس الراحة من بعد تلبية المطلب...وأنت ترى المضطرّ وقد فَكّ عندك اضطراره، والمستعجل وقد توفّر بما وجد عندك وقتُه، والأطفال وقد تفتّحت أساريرهم  بتنفيذ أمر معلّمهم آمرهم...

ولكن لا يمنع هذا -وإن منع من كل شيء- أن تربو راحة النفس بأداء الصلاة عن كل راحة أخرى، وتُمحَقَ دونها كل راحة، وأن تلبّى للروح حاجتها من غذائها، وهي التي لا تنفك في كل مرة من المرات الخمس جوعانة صَدْيا لمطعمها ومشربها، لا تجد في المرة عوضا عن المرات الأخَر، ولا في التي سبقت فكانت بخشوع وقنوت ودخول في قلب جوّ الرحمات والفيوضات كفايةً عن مرات أخَر، بل هي في كل مرة تجوع وتعطش ولكأنها التي تصوم ما بين الوقت والوقت، فإذا كان آذان الوقت كان موعد إفطارها، وإذا ذهب بدأ صومها الجديد إلى حين تَجدُّدِ النداء العليّ لنفس الدنيا لتسمو ساعة بين ساعات النهار وساعة، أو ساعة بين ساعات الليل، وترتقي وتعلو حيث لا دنيا ولا همومها ولا نوائبها ولا فِتنها ولا أحاديثها ولا دنيّها ....حيث الرحب الإلهي، والسعة السماوية والفيوضات الربانية...

فإذا تجدَّدَ النداء تجدّد معه إفطار النفس التي سرعان ما تجوع وتصدى من فرط ما في الدنيا من حرّ الفتن، وما في النفس من قرّ الإحن ....

فلا يكون إغفال وقت إجابة النداء إلا مَوجعة ومفجعة ومهلكة للنفس التي يُظنّ بها قوام الصلب والعود وهي التي تصوم ما بين أكثر من وقت ووقت...! بل قد تصوم ما بين أول وقت وخامس وقت...!! وصومها كشأن الصائم  جسمه عن أكل وشرب أياما خمسة بلا انقطاع ....!! فهل يستقيم لصائم كهذا عود أو صلب؟، أم أنّه حينها أقرب للهلاك منه للبقاء وإن كان أكثر الناس قوة وصلابة ولحما وشحما ....؟!

ولكلٍّ شرعة ومنهاج....  emo (30):فهذا الجسد يصبر عن غذائه اليوم بالليلة، فيجد بعدهما الحاجة لما يسقيه ويغذيه في أوجها، وما زِيدَ عن ذلك ففوق طاقته وسعته، أما شرعة النفس فصومها من وقت إلى وقت من الصلاة هو بمقدار يوم الجسد الصائم، ولا وجه لمقارنة مجال بمجال .... فالروح هي الأكثر حاجة للغذاء والأقل صبرا عنه من الجسد الذي يقيم صابرا يوما بليلة ....!!

فما أرحم الرحمن وما أعدل العدل وهو يوزع الأقوات والأرزاق...! فيحدد للجسد مقدار ما يصبر،ويحدد له ساعة حدّ صبره في رحمة لازمة لا تغادر، ويحدد للنفس مقدار ما تصبر ويحدد لها ساعة حدّ صبرها في رحمة لازمة لا تغادر ،والجاني على نفسه من ألزمها الصوم ساعات الغذاء بعد سماع النداء يتلوه النداء يتلوه النداء، كالمهلك جسده ملزمَه الصوم لما بعد سماع النداء .... وبين عطاء وعطاء، ما أجمل عطايا الرحمن للروح   ....!!

وفي مندوحة يصنعها الاضطرار لاستزادة النفس من زادها،واستعجال الأمر في أمرها للقائها عالِمِ علانيتها وسرّها، خالقها بضعفها وبحاجتها لأن تبث مولاها شكواها وما بها،وما لها وعليها، وبحاجتها لأن تحتاج وتفتقر لعين رحمته تكلؤها، وتحفظها ولا تكِلها لها، ولبسطة عفوه عن الفقيرة إليه في كل حين وفي كل آن،ومغفرته لذنوبها كلها أولها وآخرها علانيتها وسرّها، دقّها وجلّها،وتجاوزه عن زلات ساعاتها التي مضت والتي لا موثقة ولا موعدة ولا أمان لها أنّها البعيدة عنها وإن بطرفة عين على غير ما يجب، إلا أن تكون في غضّ، أو بانتباهتها في ما لا يجب ،إلا أن تكون عن  وقوع نظر لا يستطيب الوقوع ....

ولمكتبتي باب خلفيّ يدخلني بيتَنا بلفّة صغيرة ساعة أشاء متى استوثقت من إحكام غلق بابها الرئيسي المزجّج، والويل لي والثبور إن كنت الساهية ساعتها...! :emoti_64: وهي مسؤولية فوق المسؤولية، وكثيرا ما عدت فحدّقت :emoti_209:بل واقتربت ودنوت واستوثقت من استوثاقي لئلا أبوء بخسران كل المكتبة من هفوة بين الهفوات أو سهوة بين السهوات ،فعلى نفسها تجني دوما براقش :emoti_64:....وبالمقابل تلفّ شقيقتي لفّة عكسية من البيت للمكتبة، لتلحق أحيانا بمن يستحثّ طلبه ولا يجد له صبرا في ساعة إيصاد المكتبة.

 وملاصقة مكتبتي للبيت  تعني فيما تعني عنوّ الأطفال لباب بيتنا طالبين  فتح المكتبة لقضاء حاجتهم الملحّة المستعجلة...وطلبات الأطفال يا سادة ، ثورة لا يعرفها ولا يفهم كُنهها وقوتها إلا من جرّب  وهو يفتح الباب ليجد المحتجّين قائمين بأصوات وتهويلات وفزعات.... emo (30):

وساعةً وساعة هي حالة النفس من إصرارهم على الطلب في أي حين شاؤوا وإن كانت النفس المَلولة في حين مشيئتهم بحاجة لما يبدّل حالها sad:(، فإمّا رضى وقبول وانشراح emo (30):، وإما قلق وضجر وأعصاب تتكاتف على ما فيها لتعلن التعب والرهق بأفّ أو بمضيّ المرغَم لا البطل .... :emoti_144:

نادتني شقيقتي من بعد صلاة الظهر،- وقد لفّت عكس لفّتي-  أنّ "رزيقة" بالمكتبة تنتظرني....

-----------------------------------------------

فما حكاية رزيقة ؟   :emoti_17:
« آخر تحرير: 2011-12-23, 14:51:09 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6547
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #108 في: 2011-12-27, 15:38:02 »
الجزء الثاني :

----------------------

وأي "رزيقة" هي "رزيقة" ؟؟!!

كلّما بلغ مسمعي اسمُها، أو استحضرتُ بين صور الخاطر أو الذكريات رسمَها، أو زارتني كدأبها تزورني ولا تنفكّ زائرتي، تقافز بذهني شريط المقدّمة والبداية والمآل من حكايتها، ليبعث في نفسي ضرورة من أهمّ الضرورات... ضرورة الاستعداد والإعداد، إذ  أنّ درسا جديدا من دروس الدنيا قد حان موعده، وأنّ عليّ أن أتحفّز بوجداني وجوارحي، وعقلي وقلبي،  وكلّ ما فيّ لمتابعة الدرس واستيعابه وحُسن قراءة الكلمات والأحداث ....

رزيقة صاحبة الحكايات، والتي تحمل بجعبتها ما قدِمت حكاية بحكمة وبموعظة... فلا أراها إلا كما أرى الرسالة المغلّفة بغلاف ربانيّ تمشي بقدَمَين، وتتحدّث بشفتين، وتبكي بدمعات، وتتبسّم برضى وإخبات ...تحمل الهمّ ومع الهمّ حلوى الصبر والثبات، كشأن الداء الملازم المعاشر، ودوائه الملازم المقاوم.....

تتحدّث بحوادث الدنيا.... تتصدّى لها بقوة الإيمان والحبّ لمقادير الله ما كانت وكيفما كانت....
تنساح الدمعات، وتنبثّ الزفرات، وتغلب الآهات... شأنها شأن النفس ومادتها "البشرية"، ولكنّ الإيمان في قلبها وحُسن قراءتها لرسالات الخالق المولى على نحو من جنوح قلبها للمولى يستمدّ منه للبصيرة نورا يقرأ عليه معاني الرسالة، تقْلِب كرب حالها فرجا، وتجعل لها من همّها مخرجا، ولحزنها جلاء و بَلَجا...

رزيقة من الوجوه التي عرفتُها بقدر من الله، كما في كل شيء فعل قدره....
لاقيتُها في يوم من أيام الدنيا، طرقتْ فيه بابا من أبوابٍ إليها أرسلها ربّها في عزّ حزنها وألمها من فراقها أمّها، أقرب الناس إلى قلبها المُعنّى من فراقها...
بدتْ حُطاما وهي المفارِقة من أحبّت كل الحبّ...وكأنّها الميت بين الأحياء... تمشي في دنيا  لم تعد تراها إلا مقبرة كبيرة دفنت كل أحلامها وآمالها، وأخرجت بوجهها كل أثقالها من كدر وحزن وآلام، لتلقيها عليها لا تبالي أماتتْ منها أم ماتت ....!!!   فعمل المقبرة ما بين موت وموت.............. لا يفوت ....!

وهامَتْ على وجهها رزيقة كما شاء الله أن يكون لها الهَيْم... تتصبّر وتتثبّت، وتلقي كلماتُ الله في روعها عمل الحياة في المَوات...عمل النبض في القلب المشرف على السكون... عمل النور الواحد بعظمته في جمع الظلمات... ولنِعم الهَيْم هَيْم رزيقة ......

وما  "رزيقة" ؟... أهي  واحدة من المُحاطين بالمريدين والمريدات والتلاميذ والتلميذات لرياض النفس على درب الحق، ومعرفة ربّ البشر لاستشعار فعل أمره  في كل صغيرة وكبيرة ، ودُربة النفس على بلوغ سمقة الاطمئنان في كل حال من الأحوال، والرضى في كل حال من الأحوال، و التبسّم لوجه الحياة ما عبست وما بشّت....؟
أهي التي يقصدها القاصدون للنّهل من معين المعرفة والحكمة ونور الهُدى وقد أبحرت في العُباب،وذاقت فعرفت حُلو اللُّباب، فما أحبّت إلا أن يذوق غيرها ما ذاقت، وأن يعرف غيرها ما عرفت وما وجدت من حلاوة الإيمان في القلب، وحلاوة العيش في رحاب الله راضية محتسبة، مقبلة على ربّها غير مدبرة ....؟!
أهي هذه "رزيقة" ؟ .......

 لا ليست هذه، ولكنّها من هذه في كثير.... وممّا فيها في كثير، وليست ممّا فيها أنّها التي تُنعَت فيُذهب إليها، أو يُشار على المريدين والباحثين والمهمومين بجلسة من جلساتها، وبرَوحة من رَوَحاتها، وبروقة من روقاتها...
وليست هي التي تَعلّم على يديها الناس فهُمْ من خير من أعطى بلا منّ، وآثر أن يغيب عن الأنظار بعد عطائه، وألا يقال فلان سوّى وفلان دوّى وفلان غدا وفلان راح، بل وجد كل الراحة في غيابه عن الأبصار، ورجاءِ حضوره في ذكر مدرِك الأبصار غير مُدرَك   الأبصار  ....

ليست هذه رزيقة،وهي هذه رزيقة لمن تهيأ فتعلّم منها....و الحكمة ضالّة المؤمن، وممّا عرفتُ فيها أنّها الحاملة حكمة ما حلّت وحيثما حلّت، وأنّ نورا في قلبها يشعّ على مَن يفهمه ويبصره نورا ....

هي البسيطة، بل في بسطة هي بساطتها، بل هي التي كانت قبل أعوام ثلاثة أميّة لا تقرأ ولا تكتب.... وربما شاع أنّه لا علم إلا لمن قرأ، ولا نور إلا ممن كتب....بل إنّه الأكثر شيوعا ....

ولكن كم من قارئ ماهر، وكاتب باهر، لم يحسن قراءة صروف الدهر، ولا معنى مجيئها، ولا كيف تُجابَه، ولا الحكمة من وجودها لمجابهتها...
كم منهم لم يعرف معنى الحياة إلا كما تَعرِف المسطرة المرقومة إلى حدّ، المُعَلَّمَة بعلامات الملمتر،فلا تقيس إلا طولا بحدّها، ولا تعرف من المكاييل غير الطول والعرض، فأمّا الوزن، وأمّا السعة وأما الكثافة وأما السرعة وأما وأما...فكلّه عنها خفيّ، وهي المسطرة ذات الأرقام والأعلام ....!

------------------------------------
فمن إذن هي رزيقة ؟

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6547
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #109 في: 2011-12-28, 13:37:11 »
الجزء الثالث

بدأتْ من بعد وفاة أمّها  بارتيادها المساجد في ساعات الدرس المُبرمجة من الوزارة للأخوات الأميات ، وتحفيظ ما تيسّر من القرآن لهنّ، وكان ذاك دواءَها الذي وجدت من بعد ما هامت على وجهها تنشد الدواء....
ومن حلقات الدرس لمحو الأمية، وحلقات الحفظ السماعيّ، إلى المبادرة والمسارعة إلى التطوّع لتنظيف وتهيئة مسجد جديد كل الجدة، كان ثمرة تبرّع أحد المؤمنين ببيت له بيتا لله، يؤمّه عباده المؤمنون للصلاة الجامعة ....! فأصبح بيتُ عبد الله لله بيتاً، والعبد والبيت لله ملك....وأصبح بيت الواحد، آمّاً للجماعة بروعة الإسلام الذي لا معنى لحياة الفرد فيه فردا بلا جماعة...!

فهامت بحبّ الجديد ، وبحب كل أطرافه وأرجائه....بل كلّ شبر فيه، وقامت على ترتيبه وتنظيمه، وفرشه، وتعهّده بتنظيف دوريّ لكل ما فيه ....  وعن جزء النساء منه كانت مسؤوليّتُها.
وأصبحت منه... وأصبح من رَوحه رَوْحُها، ومن نفحه نَفْحُها ...وكانت غاية أمانيها أن تقرأ حروف كتاب الله، كما أفلحت في حفظ شيء منها سماعا، بل كانت تراها حلما عزيزا لا يعلو عليه حلم ....!

وبدأ المتبرّعون في جلب المصاحف للمسجد لمن يقرأ..... وكانت كلما أنهت تنظيفه وترتيبه من يوم الجمعة قبل أَمِّ المصلين له، اتكأت على حائط من حيطانه وبيدها مصحف تتمنّى قُرب حروفه ومعانيه من رأسها كما هي القريبة من قلبها، وكما تحدّثها حديث المحبّ لمحبوبه....
ومع تقدّمها الهُوينى في محو أمّيتها الحرفية، بدأت تُهجّي الحروف وتستنطق أبكَمَها فيها حتى نطق، ومن الحرف والحرف وُلدت كلمتها... ومن الكلمة والكلمة وُلدت جملتها... ومن الجملة والجملة وُلدت قراءتها المتأنّية... ومن القراءة والقراءة وُلد  التعوّد والألفة ، وحمدُ الله المتنعّم المتفضّل وشكره دَيدن ودأب وصلاة...
وأصبحت تمسك المصحف وهي تقرأ في ركن من أركان مسجد "زينب" ما تيسّر، والدنيا وما فيها لا تساوي عندها سطرا من آيِ القرآن العظيم تزيّن صدرها، وتحلّي فمها، وتغذّي روحها، وتسقي زرع الإيمان في قلبها، لينمو، ويورق، ويزهر....

رزيقة، باتت رمزا من رموز المعلَّقَة قلوبهم بالمساجد...!
ليست رجلا، ولا الرجل هي لينطبق عليها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُعرف أنها من سبعة عدّهم وقال بأنّ ظلّهم ظلّ مَن لا ظلّ إلا ظلّه يوم لا ظلّ ولا فَيْء ولا شيء إلا أمره...!
أجل ليست رجلا، ولكن كيف هي برحمة الرحمن الرحيم الودود المنّان الحنّان وهي التي تسقي بدمعها الأرض العَطشى كلما حدّثها أحدهم ألا إمكانية لها برعاية مسجد وتعهّده وتعهّد فرشه ونظافته وتنظيمه، ما لم تكن معيّنة من الوزارة المعنية، "وزارة الأوقاف والشؤون الدينيّة"......!

كيف هي عند الله وهي التي تحيا بنَفَس المسجد، وبهوائه لرئتها، ترى الموت ساعة تُوسَعُ زجرا ونهيا، وأنّها التي ليست موظّفة بأي شكل من الأشكال، ولا مُعيّنة لتداوم متطوّعة، لا ليوم، ولا لعشرة ولا لشهر، بل على الدوام....

دخلتُ على رزيقة مكتبتي.... emo (30):
هي الصديقة، وهي الأخت، وهي التي أحبّ أن أصغي لكلماتها، وأن أجد من الوقت ما أكون فيه بين يديها المتعلّمة ،وهي -فيما تقول-، تأتي لتفضفض وتخفّف عما بها، ولتفرغ مما بجعبتها لمن تعرف أنها أهل ثقتها ومعرفتها...
ألِفت زيارتي بمكتبتي،وألفت السؤال عنّي بأحد مكانَيْن، "مكتبتي" أو "الجمعية"، فأمّا الجمعية فهي ما تزال مواصلة بها دربا بدأته لمحو أميّتها الحرفية، تلميذةَ بين تلميذات شقيقتي معلّمتِهنّ التي كانت يوما بين الأيام الخالية معلمة لي في سنّ الطفولة من عمري...كما أدين لها طوال عمري بأنّها المعلّمة كما ينبغي للمعلم أن يكون، تربيةً وحكمةً وحُسنَ سياسة للنفوس، من قبل تعليم الحروف الآلي، وكأنّ المعلَّمَ آلة حاسوبية تتلقى التعليمة الأمْريّة، لتنفذ العملية بالحرفيّة ....وشتان شتان بين سائس النفوس، وسائس الآلات...!!!

جلستُ قُبالتها، كما تعودنا الجلوس متقابلَتَين في جلسة المُحدِّث والمحدَّث، نتبادل الدّورين كما شأن كل اللقاءات الحديثيّة ...
وبعد السلام وفرحة الأخت بأختها الحبيبة في لقاء هو المتجدّد أبدا، والسؤال عن الأحوال، وحمد الله على كل حال، بدأ حديث الجديد...

بدأتْ، وعلى مُحيّاها علامات نورانيّة بابتسامة رضائية، أرضيّة الوجود، ربّانية السبب، نوريّة السَّمْت...تقول فيما تقول، ودمع لا ينحبس، ينساح مع الكلمات، ولكنه لا يقطعها، ولكأنّه مع الكلمات كلمات، ومع الأنفاس المتعالية أنفاس ، تقول فيما تقول :

- يااااه يا أسماء سبحان الله ...سبحان الله .... كم بتّ ليلة البارحة متأمّلة فيما فيّ... في الجديد الذي فيّ...
 وكم بتّ أسترجع ماضيا قريبا كدت فيه أموت حزنا وكمدا لمّا لحق بي ما لحق يوم شاب علاقتي بإمام المسجد ما شابها، فبتّ قاب قوسين أو أدنى من أن أذهب عنه إلى غير رجعة.... كم كنت من الحياة وأنا لست منها، ساعة هدّدني أنّني وأنا المداومة متطوّعة بمسجد "زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم" من غير ما إذن رسميّ وتسمية رسمية بالعمل فإنني المهدّدة بالرحيل عن خدمته لا محالة، ساعة لم يعترفوا بعمل متطوّعة طال ودام ولم ينقطع...! وأصبحت المداومةَ عليه دوام الموظفين، في غير ما تسجيل وظيفيّ ولا أمر بمهمة بعينها من صاحب الأمر في المساجد، وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، و زاد على ما بهم استمرار مداومتي وحسن رعايتي وقيامي بمسؤوليتي كأحسن ما يقوم بالمسؤولية موظف يتقاضى الراتب،وكلّ هذا وأنا بلا تعيين ولا راتب....لم يفقهوا أنها لله خالصة، وأنني عليها مقيمة لله خالصة ...!

وأسمع منها الكلمات، وأنا الأدرى بعُسر حالها، وبأنّها التي لا تعمل أيّ عمل تتقاضى عليه أجرا، وهي وشقيقتها المريضة من بعد أب توفيّ ، وأمّ لحقته منذ أعوام قليلة، لا عائل لهما ولا مُعيل ....ويكاد لا يُصدَّق حالها وهي التي تصرّ على ما تفعل ومَن مِثل حالِها حالُه -منطقا وعقلا- أقرب وأدعى للبحث عن مورد رزق من الإصرار على عمل بلا راتب تتقاضاه، ليس هو الزيادة على الأصل، بل هو الأصل والزيادة ...ولكنه هو حالها هذا ........

لم يكن عسر حالها حائلا دون حبّها عملها لله، بل دون جمّ حبّ عملها لله... حتى أنك إذا خِلْتَ قلبها يُفتح وتُرى أجزاؤه وأطرافه وسويداؤه، لم تجد مكانا فيها إلا وهو لحبّ عملها ذاك .... ولوجدتَ اسم "زينب بنت محمد" محفورا بالسويداء منه مسجدا تؤمّه كل أجزاء قلبها المحبّ ....
ولكن في هذا العصر الذي نحيا، أصبحت المادة وأفاعيلها بالنفوس حاكما يوشِك أن يعمّم حكمه على أنّ الناس ما أقاموا على عمل ولم ينقطعوا إلا وهو الأكمة التي وراءها ما وراءها من عائد أو عمالة أو نسبة بين النسب، وأنّ شِرعة الدنيا تستفحل ماديّة ماديّة مادية حتى النخاع...!

وغفلوا في حمأة ظنّهم وإغراق فكرهم الماديّ أنّ الدنيا بكل أعصارها تحمل فيما تحمل الصادقين والمخلصين والمُخبتين، والعالمين بحقيقتها وبمآلها، والذين لا يغرّهم منها صفارها، ولا ضحكتها الصفراء، ولا كلّ أصفر فيها....
وكنتُ دوما أستحضر حديثا من الزمن الماضي، وحديثا من زماننا اليوم emo (30):، وحالا من الزمن الجميل الماضي، وآخر من زماننا اليوم، وحالا من هناك وحالا من هنا....وهكذا بين هناك وهنا، لا للمقارنة بقدر ما هو للموازنة، ولمعرفة مقدار ما يبقى الثابت ثابتا، ومقدار ما يليق للمتغير أن يتغير بالقدر الذي يجب لا بالقدر الذي يزيد فيه عن الحدّ...وربما رُميتُ بالرجعية، أو بالخلفية أو بكل المرادفات الورائية التي تُنزَل غير منازلها .... ولكنّني في موضع من الزمن أن أعضّ على الثابت بالنواجذ...فلا آبه لقول الرماة ....

ومن أكثر ما أجعله موضوع تساؤلي: أترى أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي تبلغ السمقة وسنام الأمر من حالها، وتُنعت ببنان الانبهار والتقدير والتبجيل،بالفاتحة وبناشرة الحضارة و بصاحبة الفضل الأول في العلوم، إنسانيّها وماديّها ... وتاريخُها الناصع المشرّف إكليل على رأسها وإن نالت منها صوارف الخطوب، وأصبحت أبعد ما يكون عن أصيل حالها، إلا أنّ ما سطرته حياة الأرض بنورها يشهد ولا ينفكّ يشهد ....أترى هذه الأمة التي كانت على ما كانت، كان رأس أمرها وقوام حالها المال ووفرته، ولو لم تكن صاحبة المال والنقود لما كانت على ما كانت عليه ؟ أكان المال قوامها والسبب فيما كانت عليه ؟

وينفتح التاريخ بسطوره المشرقة، يحكي عن حال رجال فتحوا الأرض، ومضوا على خطى قائدهم الأعظم محمد صلوات ربي وسلامه عليه...يحكي فيما يحكي عن سواد كبير من صحابة رسول الله، وقد ذاقوا من لذع سياط الفقر ما إنّ أوجاعَه لَتنال من الفؤاد ومن الاعتقاد إذا قيست بأفئدة هواء كأفئدة عصرنا الماديّ النقديّ ....
ولا يخفى عمن بحث في أغوار حياة الحبيب المصطفى مِسْكيّة الأريج، وَرْدِيّة العبق، كم كان يعاني من الفقر والفاقة، وهو صلى الله عليه وسلم الذي بُعث لتعديل مسار الأرض قاطبة، وبالدواء لعلل البشر كلّها ....

حتى أنّ عائشة رضي الله عنها  قالت : "مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ الْبُرِّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ" -رواه البخاري ومسلم-
فهل كان من هذا الحال إلا ليكون أقرب للموعظة وللدرس من عموم المسلمين ومن فقرائهم؟ وليتعلم فقراء الأمة من صبره وهو مَن هو عند إلهنا العظيم، وهو الحبيب المقرّب الذي سوف يعطيه ربه فيرضى ....
وعنها أيضا رضي الله عنها في حكاية أمّ البِنتَيْن التي طرقت باب أطهر الخلق تسأل من العطاء، فلم تجد ما تعطيها إلا تمرة، و ليس في البيت من الطعام إلاها، فأعطتها إياها....!!

وصحابَتُه الكرام العظام نجوم الهدى، لم يكونوا بجمعهم أصحاب مال وأعمال... بل ما أكثر ما كان بينهم من أهل الفقر والحاجة والفاقة، فهل حال فقرهم وعوزهم دون أن يؤدوا الأمانة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟؟، ودون أن يتحمّلوا في سبيل الرسالة الشدائد؟؟  أكان فقرهم فتنة حالت دون أن يجاهدوا في سبيل إعلاء كلمة الله، ورفع راية الإسلام ؟ أقعدوا عن العمل لله بحجة أن حاجتهم وفقرهم مُقعِد، ولا حاجة لمحتاج فقير أن يكون صاحب رسالة ولا حمّال أمانة ؟.... أفكان هذا حالهم ؟!

فهذا أبو هريرة الذي لو لم يكن له من العلم والفضل غير ما روى للأمة من حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من واقع ما عايشه ولازَمَه لكان فضله هذا غامرا كاسحا معجزا عن كل ثناء وشكر....هذا هو يحكي عن نفسه أنّه الذي كان يَخِرّ فيما بين المكان والمكان الدنيّ منه مغشيا عليه من الجوع، وكان الناس يظنون به الصرع والجنّ فيما سبب خرِّه الجوع...! وهو الذي كان يعتمد بكتفه على الأرض من الجوع...! وهو الذي كان يشد الحجر على بطنه من الجوع ....!

فهل حال هذا دون أن يكون مقصده الله؟  أكان سببا لأن يُفتَن في دينه ويقول مالي ومال العناء والشقاء وحالي كلها من الفقر عناء وشقاء ؟

وعائشة التي روت وروت عن زوجها الحبيب القريب، تروي عن اشتداد الحال بهم حتى ما يجدون ما يوقدون عليه نارا طوال الشهرين من الزمان والهلال فيهما أهلة ثلاثة، وأنه كان يأتي الشهر عليهم ما يحتوي بيت الرسول العظيم فيه إلا على تمر وماء...

وابنته حبيبة قلبه فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، تشتكي أثر الرَّحى في يديها، من بعد ما صبرت على شظف من العيش، حتى إذا بلغته شكاتُها،وسؤالها خادمة تحمل عنها شيئا مما بها،قال لها ولزوجها علي بن أبي طالب : " ألا أدلكما على خير مما سألتما ؟ إذا أخذتما مضاجعكما أو أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبرا أربعا وثلاثين فهو خير لكما من خادم "

ولما أراد الصحابي أن يتزوج لم يجد مهراً ولا خاتماً من حديد، ليس له إلا إزاره يواري به عورته، لو أعطاه للمرأة لم يغنِ عنها شيئاً وبقي هو بغير ثياب...!!
وما كان يغني عن جهادهم أو عملهم للدعوة رضوان الله عنهم هذا الحال وشدّته، وما بهم من عُسرة، بل كانوا المجاهدين أصحاب الخِفاف المشققة والثياب المرقعة، ولو لم يجدوا في طريق الجهاد إلا ورق الشجر.

ومن هذه الصور كنت أستقي مقارنتي، وموازنتي emo (30): شاء من شاء وأبى من أبى من أهل حمل كلّ حديث عن زمان مدرستنا وتربيتنا وقدوتنا الأصيل على محمل الأسطورة والخرافة والحكاية التي لا يليق أن يؤخذ منها الدرس لزماننا اليوم ...فإنّما هؤلاء من أهل الحضّ والحثّ على نسيان أصلنا والتنكّر لجذورنا وهويتنا، بحجة أن العصر غير العصر، والمعطيات غير المعطيات...!
وكأنّ شمس المصطفى صلى الله عليه وسلم التي ننشد شعاعها وضياءها، إنّما هي القديمة التي لم تعد تصلح شمسا ...كحكمنا -إن شئنا مقام الحَكَم- على شمس السماء بالقِدَم، وأنّ عليها أن تُستبدل بشمس سماء عصرية تليق بعصر الضياء الإلكتروني !!!

----------------------------------------
ولحكاياتنا بقية وتفصيلات أخَر ....فهل من منتظر ؟  emo (30):
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6547
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #110 في: 2012-01-03, 14:58:11 »
وتبيّن أنه ما مِن منتظر ...وعلى هذا نكمل

---------------

الجزء الرابع والأخير

وهكذا هم أولاء سواد عظيم من "آل عَصْر"... ماديّون مغرقون في ماديتهم، حتى أنّ المقيم عاملا لله بينهم لن يتأخروا في وضعه موضع الشبهة، وأنّه الطارئ، الشاذ عن القاعدة الذي قد يكون ممثلا دور العامل المخلص وهو الذي يجد ما يجد في دائرة عمله، وإلا ما كان أصبره عليه كل هذا وهو المُعسر المحتاج، وباقي الخلق في لهث خلف الدنيا بضرورياتها وكمالياتها !!

وحتى لا نطيل الكلام في غير لزوم، هاهي كلمات من المُؤتى جوامع الكلِم تصف سبب المآل : " فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبْسَط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوا فيها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم "

لقد كانوا أهل دين في الدنيا، ولم يكونوا أهل دنيا في الدين....!
كان الإسلام عندهم ونشر رسالته البغيةَ والمرادَ وسببَ وجودهم... ورَوْحة وجودهم، فعملوا له وإن كانوا في أشدّ أحوالهم وأرزئها، ولم يفتنهم عن الدين فقرُهم، كما عملوا له وهم الأغنياء، وعملوا بمالهم للدين ولم يفتنهم عن الدين مالُهم ....

ومن شاكلة هؤلاء كنت أرى "رزيقة"، وإن كان في عصر غير العصر، وفي زمان غير الزمان، منطق أهله غير منطق أهل زمان مضى، ولكنها هي هي..... ولكنها كذلك ....
وعلى هذا قد جاهدتْ، وبالإيمان تقوّت لتجاهد كلّ متحيّر من أمرها، وما تزال حالها هي حالها، وعسرها هو عسرها، وإصرارها هو إصرارها، بل يزداد ويكبر ....وكلماتها وردودها على أهل الحيرة تتقوى أكثر، وتتزيّن بنور حكمة مشعّ قوي يذهب ببصر كل منافق يرى في العمل لله شيئا من التاريخ والماضي واستعجام لغة الحياة ....!

ومضت قُدُما تكمل حكايتها وسببَ تأمّلها في ضعفٍ قديم فيها، لم تجد حِيالَه صبرا على أمرهم فيها بأنّها التي كيف تبقى القائمة بشؤون مسجد من غير تعيين ولا راتب ....تأمّلها في قوة جديدة انبعثت فيها تُفرِحها وتُنعشها وتبعث في ثنايا روحها معنى الحياة على الحياة .... وعربونُ فرحتها حمد لله على نوره وهداه، وراحة الرضى بما قسم لها ....فتقول :
-ركبت حافلة، فوجدتُ أختا أعرفها، سألتني إن كنت ما أزال بعدُ قائمة على مسجد "زينب"، فأجبتها أنْ بلى أنا فيه وأتمنى من الله أن يميتني فيه... فقالت لي : جعل الله موتتك ببيته الحرام . فأجبتها متهلّلة الأسارير أنّ الله كريم، كريم وما عنده أكبر مما نتصوّر ...
وبينما نحن في ذلك الحديث نتجاذب أطرافه، إذ بأخت لم أعرف لها من قبل اسما ولا رسما، أمسكتْ بكتفي سائلة وقد دلّل سؤالها عن إمساكها بطرف من أطراف حديثنا، كما دلّل حالها على جديّة وغضب:

-أي مسجد أنتِ فيه ؟

-هو بيت من بيوت الله .

-أيها هو ؟

-مسجد "حمزة بن عبد المطلب"

-عجبا ....أنا بذلك المسجد، ولم أرَك من قبل فيه قطّ..!

-بل أنا التي فيه، ولم أرَك من قبل فيه قطّ...!

-مستحيل، التي كانت قائمة على مسجد "حمزة" أوقفتُها منذ زمن بعيد ....

-أنا لم أكذُبْكِ قولا، فأنا حقيقةً أحضر دروس محو الأميّة فيه إلى يومنا .

نطقت الأخت محدَّثَتي الأولى :

-هي في مسجد زينب .

استشاطت الثانية غضبا، وردّت بائنة الغيظ، مستطيرة الشرر:

-وأي إمام هذا الذي يبقيك متطوّعة ما أبقاك دون إذن من الشؤون الدينية ؟

-أنا هناك منذ عام 2007، والأئمة الذين مروا على المسجد من يومها كُثُر.

-أتعلمين؟ أنا مسؤولة بمديرية الشؤون الدينية، ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن تبقى متطوّعة بمسجد ما بقيتِ من غير تعيين رسميّ ، ولا أدنى صفة رسمية .
تبسّمتُ، وانبعث في نفسي هدوء عجيب، لم أعهده من قبل، وثقة قوية لم يهزّها أسلوبها القوي، ولا استشاطتها غضبا، وقلت :

-ألم تسمعيني أقول لأختي هذه أنّ أمنيتي من الله عزّ وجلّ أن توافيني المنيّة فيه ؟

-ما هذا الحديث الذي به تُهَرْطِقين؟؟! وأي ضمان من الضمانات لديك؟ وأيّ أمل تنشدين هراء، وأنت بلا أدنى  صفة تستمرين بهذا المسجد ؟ سآخذك معي الآن إلى مديرية الشؤون الدينية .وحتما سآتي للمسجد الذي أنت به ...

ولا مِن قوة منها، ولا عن ضعف مني، كان ما كان... وجرى الحديث الذي جرى... وقلت في نفسي، لا بدّ أن هذا الذي يحصل ثمرة استخارتي الأخيرة الله في أمر مسجد "زينب"، وبكل ما قضى الله وحكم أنا راضية مطمئنة، لا أبالي إلى أي المآلَين شاء سبحانه أن يصير مآلي، إن أنا بقيت فيه فيا سعدي ويا فرحي، وإن أنا أخرِجْت منه، فيا سعدي ويا فرحي، وإنما هو أمر الله، لا أمر أحد غيره،استشعرت رضى يغشاني، وطمأنينة تكسوني من رأسي إلى أخمص قدمي، وأرى فيما أرى أمامي أنّ الذي يجري بقدر من الله، فلم أعد منه خائفة ولا من حدّته منكمشة ضعيفة....

-أذهب معك ولمَ لا ؟ بل وإن أحببتِ أخذتك معي للمسجد من فوْرِنا هذا .

-يوم الجمعة أكون بين يديك هناك ...

-يوم الجمعة قد لا تكون أي منا هناك ...!

-وكيف؟ ماذا يعني ؟!!

-فإن متنا اثنتانا ؟ أو واحدة منا ؟

-يا إلهي ما كل هذه القوة التي أراها فيكِ، وما كل هذه الأجوبة القويّة ؟

ذهلتِ المرأة من جوابي وقوّته، حتى أنّ حِدّتها الأولى جعلت تتناقص وتضمر...
وهكذا وجدتُني البارحة متأمّلة في هذه القوة التي أشعر أنّ الله تعالى قد ألقاها في رَوعي، وأستشعر عظم نعمة نور الله تعالى ووزن التوكّل عليه ووَكْل الأمر إليه، والرضى بما يقسم ويحكم ويرى سبحانه، ليجد المؤمن في نفسه قوة، وراحة وطمأنينة، ويعرف فيها حقيقة قوة لا تهزها ادعاءات القوة ....
الحمد لله .... ما شاء الله فليفعل، واليقين بأنّه مصرّف الأمر بغاية الحكمة وغاية الحق يغمرني، ولا يربو عليه خاطر ولا فكر ولا رأي ....

وهذه هي رزيقة، ومن هذه دروسها التي أتلقى، قد يقول قائل عاقل يساير ويجاري واقع ما يسمّونه قانونا: ولكنّ هذه المرأة غاضّة الطرف عن كل قانون، وللقانون باب يجب أن يُدقّ ، ومنه يجب أن يكون الولوج.... فلمثله أقول: إنّ منطق اللاعدل في بلاد ادعاء القانون ساعة شاؤوا ادعاءه، والتشدق بمواده ونصوصه ساعة شاؤوا تخويفا وتقريعا لكل شحيح حيلة وقليل كتفٍ مساند تجعل منه مسخا ممسوخا لا تُرفع كلمته إلا في باطل، ولا تُنكّس إلا في حق ....

وإنّا لنرى بأمّ العين كيف أنّ إدارات "الشؤون الدينية " ككل إدارة فيها من الباطل ومن التعسّف ومن الظلم ما فيها، حتى إنّه ليغدو من الحماقة أن تتحيّر فيها فتقول: حتى الشؤون الدينية ؟!!
وهذه رزيقة المتمرّدة على قانون الانتقائية والتمييز، تصرّ وهي المتوكلة فتتحدى قانون الوضع والادّعاء بقانون الحق والإخلاص والصدق .....لم تكن مستحضرة فيما فعلت فِعل سابقين راشدين مُرشَّدين كان المسجد في حياتهم منبرا للعلم والحق، والحياة، ومنارة تضيء لكل من يعيش، فلا قانون يحظُر على الناس أن يقيموا متطوّعين، بل إنّ التطوّع فيه القاعدة والأساس، حينما كان الدين مادة الحياة، وأسلوب الحياة، ومنبع الحياة....بل هي تفعل ما تفعل ويقين يخالجها لا يساوِرُها معه شكّ أنّ المسجد لله، وأنّ حبها له ولعمله يفوق كل وضع وكلّ قانون، وأنّ لا أحد سيحرمها من هوائه ما دام بيت الله .........

وهكذا هي رزيقة ........
« آخر تحرير: 2012-01-03, 16:21:54 بواسطة حازرلي أسماء »
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

جواد

  • زائر
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #111 في: 2012-01-03, 15:33:42 »
جزاكم الله خيرا كثيرا، ومعذرة على ضعف المتابعة،

التوكل واليقين من أصعب المعاني التي توصف في كلمات، خاصة في زمننا هذا،

وأما إدارات الشؤون الدينية، فهي هم كبير، فالحال هنا في مصر مؤلم جدا ، خاصة أئمة المساجد ..

ومن كثرة مشاكلنا عدنا لا نحصي ولا نتعجب..

لله الأمر من قبل ومن بعد.

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6547
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #112 في: 2012-01-04, 07:00:53 »
جزاكم الله خيرا كثيرا، ومعذرة على ضعف المتابعة،

التوكل واليقين من أصعب المعاني التي توصف في كلمات، خاصة في زمننا هذا،

وأما إدارات الشؤون الدينية، فهي هم كبير، فالحال هنا في مصر مؤلم جدا ، خاصة أئمة المساجد ..

ومن كثرة مشاكلنا عدنا لا نحصي ولا نتعجب..

لله الأمر من قبل ومن بعد.

أهلا بك أخي ونسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المتوكلين عليه حقّ التوكّل، ومن الراضين بما يقسم لنا سبحانه .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6547
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #113 في: 2012-01-05, 14:50:56 »
وكعادتها مكتبتي، كلما أوعزها الحال بكتْ قديما كان فيها، وأصرّت أن يكون فيها منه جديد، شأنها في ذلك شأن الوفيّ وفراقُه ما تعوّد عليه مساوٍ لفراقه الجزء منه، بل الفرحة منه، بل الحياة منه ....

كم أنت صادقة يا رفوف مكتبتي... emo (30):كم لا تجيدين الكذب والادّعاء !  كم هو واضح حالك، جليّ بيّن ، فإن كنتِ الطّاعمة الشبعى، افترّ منكِ الثغر ألوانا ، وجَهْوَرَ فيكِ الصوت طربا وانتشاء، وبانَ منكِ الحزن والأسى بيْنا...

فإذا هي الحياة بين جنباتك والازدحام على الحياة لقومٍ جمع بينهم مكان وزمان بألّاف وألفة حتى غدوا مصطفّين متجاوِرين، متعايشين، يمضون الوقت سويا،يتقاسمون الزمان والمكان، وكأنهم السكان، وكأنّ الرفوف سُكناهم ...!

أما سيد القوم فيهم فأكثرهم بقاء فيها، وأقدمهم، وأرسخهم قدما ووفاء لحَديدها ولَوحها.... emo (30): ذاك الذي لا يُباع ولا يُسأل بحال من الأحوال عن حاله... :emoti_64: ذاك سيد القوم وصاحب الرأي فيهم والمهابة بإصراره على البقاء،وأنّه الذي لا يتزحزح ولا يُزَحْزِحه مزحزح، ولا يُشقّ لغباره غُبار...! :emoti_389:
شِرعته في قوم من الأدوات والكتب غيرُ ما تختزنه كُتُب الفكر الحق من أنّ السلطة دُول كما هي الأيام دُول ، وتداول وتبادل، وأنّ السيادة في القوم محض اختيار القوم وقرارهم وجامعُ الرأي فيهم... وأنّ مقياس البقاء والخلود ليس هو مكان السيادة في القوم والذي يختاره السيّد وحده ويضع نفسه به وحده... غير ملتفت لقومه ليسألهم مترقّبا لجواب الحقيقة منهم على الوجه الذي يُرضي جَمْعهم وجَمْهرتهم...بل إنّه المُختَار والمُختَار.... والمُحتال والمُحتلّ،والباقي والقديم، والمجدّد بيدِه عُهَدَه والممدّد بيده عَهْدَه...والقابع والجاثم وصاحب كل الأسماء السوأة....!!حتى لَيُضحي خَلاصُه من الرُّوح المصّعّدة أهون عليه من خلاصه من سيادة ذاتيّة الاختيار والقرار! وإن كثرت عُصبته فإنها وهو  وجهان لعملة واحدة، ليست إلا عصبة لاهث خلف بقاء ذاته، فلا يكونون منه إلا هو، منسوخا في أفئدة تعبده إلها، تحقّق له هواه ومَرْجاه، وتحقّق لنفسها شيئا من إغداق الإله على عبيده من بَعد التبتّل والتسبيح بحمده بكرة وعشيا، ومن بعد ترسيخ العبودية له ونشرها بين قومه دينا يستعيضون به عن دين الإله الأوحد ...!وأنّ الذي ينطق عن الهوى من غير وحي إلههم المعبود فإنّما قد كفر، وجزاؤه ألا يبقى بين القوم على أديم الأرض لئلا ينقل إليهم هرطقات الهوى، وحتى يبقى الجمع على دينه من غير مريدين فيه بإلحاد يُسامون أليم العذاب  ... !!

وهكذا هو السيّد "مختار ذاته" ،  مقرّر بقاء ذاته ، "الحاكم بأمره"، اللاهث خلف ترسيخ أمره ، يصنع لنفسه من حوله عبيدا يتقوّى بأصدائهم..... ولو أنّه أبرّ لوصف "الإله" الذي ادّعاه لأبرّ لصفة الألوهية في استغناء الإله عن كل عباده المتعبّدين المسبّحين المُخبتين ....ولكنّه كما ادّعى ما ليس له ولا لأحد من أبرّ أبرار الخلق، فهو الإله المحتاج لعصبة تحميه بأن يصبحوا ويُمسوا يمجدّوه ويسبّحوه ويذكّروا كل ناسٍ أنه إلههم ....إلههم الفقير لعبوديّتهم، المحتاج لذلّهم بين يديه ....!

مقياس البقاء والخلود عنده -ذلك السيد بين أدواتٍ وكُتب-  ليس ما تَبُثّه كتب الحق والفكر الحر من أنّه مفعول الخير والنفع وأثره فيمَن كان الحاكمُ فيهم حاكما ،وأنّه بنكرانه "أناه" وذاته، لقاء الوفاء لرعيّته وحاجات رعيّته ، ببذل راحته في سبيل راحة وهناءة رعيّته....بأن يعطي لرعيته أول ما يعطي من عروقه وأعصابه ، ومن خوالج خوالجه وهو يستثقل الحِمل ويستثقل ويستثقل .... ويَعي حقّ الوعي ويفهم حقّ الفهم أنّه المسؤول الأوّل عن شعب بأسره، بشيبه وشبابه، بمَن هو اليوم فيهم، وبمن هو قادم فيهم، لا لتفخر بها نفسه أو لتراها تاجا فوق التاج بل ليعلم فوق علمه كم هو ثقيل حِملُه فوق حِملِه ....!

مقياس البقاء والخلود  ليس عدّادا يجمّع الأرقام بعضَها إلى بعض لتصبح أكبر باستحلال السنوات من خلفها السنوات.... سنَتُه التي بين يديه وكلّ ما هو آت... ولكأنّه العالم أنها الآتية وهو بين أحضان الحياة، ولكأنّه الضامن أنّها مُلكُه لا ملك غيره، بل إنّ سباقه السُنونيّ من أجل أن يصبح ملك السنوات والعمر والحياة لأشدّ ضراوة من أيّ سباق ليومه وأثر فعله في يومه الذي بين يَديه ساعاته...

سباق من أجل البقاء للبقاء وعلى البقاء ومع البقاء بغية ترسيخ أقدامه وتثبيتها على مدى ما هو قادم، مما يصيّر كل تفكيره في آليّة الحفاظ على بقاء ذاته لا في آليّة بقاء عمل اليوم وإنجاز اليوم الذي يبقى للرعيّة خيرا على مدى الآتي من السنوات من غير ما صراع ولا سباق، ذلك أنّ أثر الفعل للخير هو امتداد بقاء الذكر من بعد الهلاك ، ولَهو العُمر الممتدّ الذي لا ينقطع بانقطاع الأنفاس، أمّا العمل من أجل الذات وإرضاء الذات وإشباع اللذّات وتلبية الشهوات فإيذان برحيل الذكر ساعة رحيل الأنفاس .

فهذا الحاكم صاحب ذاته والقائم على لذّاتِه قصيرٌ عمرُه ما طال، مَدّه بمَدّ الأنفاس التي تلج وتخرج، والذكر المصاحب لعمره ذكر مدح  وإفك ونفاق وكذب ومداهنة، وقصير قصير مّا هو ذكر كذكره.... وذاك الحاكم منكر ذاته القائم على إنكارها وملذّاتها، كلما عرَض له حديث من أحاديث النفس التي لا تفلح محدّثة مَن مِثله وإن استماتت محدّثة حديث الغرور والتغرير، طويل عمره مدَّ أنفاسه وما بعد أنفاسه، ترثها أنفاس تحيا على فعله وعمله . وقلوب مع الأفواه تذكره بالخير كلما أصابها من نفع صيّب أيام حكمه وإن كانت قليلة تلك الأيام .... وعمره طويل طويل ببقائها مِن خلفه، يحيا فيها وهي تُحيي النفوس والنفوس زرعا من غرس يده إنْ مادّة لحياة الأجساد أو مادّة لحياة الأرواح والفِكر، ولِسُمُوّ الإنسان في الإنسان من بذور الإنسانية التي لا يضاهي نماءَها وعطاءَها بذر ولا زرع ....

ومن شِرعة الحاكم صاحب ذاته شِرعةُ أقدم الأشياء بين أشياء مكتبتي..... emo (30): لا "ديمقراطية" ولا تبديل، ولا "تداول على السلطة"، ولا مَحيد عن المكان وإن تبدّل الزمان، ليس من إصرار الوفاء بل من إصرار البقاء، وشتّان شتّان بين إصرار وإصرار...! فالأول لا يأبه لحياة عَيْنه بقدر ما يأبه لحياة أعين أحبّها، والثاني لا يأبه لغير حياة عينه ...
صمتُ قومه الأبديّ رأس الفضل في بقائه، وجُمود أدوات المكتبة وكُتُبها وانعدام الحِراك فيها قَوام بقائه الحاكم الآمر الناهي بأمر قِدَم وُجُوده، وسنوات بقائه، وشهادة الرفوف أنّه الأقدم والأحقّ بأن يكون الأكبر ... !

وهذه الأقلام مِن حولي، على رفوفها وقُدّامي، والألوان منها والأشكال، والمعادن موادّ صناعتها ومَيْزُ رِفعتها من وضاعتها كما فِعل المعادن في البشر بطِباعهم وسجاياهم ....!
كم هو كبير قدرك ومقامك أيها المسطور بين آيِ الذكر ذكرا ! "الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)" ،-العلق-"ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ(1)-القلم-

كنتَ مُعلّما يا قلم ما كانت اليد القابضة على رأسك يدَ معلّم تُعلّم الحقّ بحروف من نور الحقّ السماويّ الذي هو الحق خالصا، فتزرع الخير والنفع ليُثمر خيرا ونفعا على الأرض يمشي ...وكم كنتَ مُهَدِّما يا قلم ما كانت اليد القابضة على رأسك يد مُهدّم يستنّ بسنّة آبائه الأولين من أولي الهدم والتخريب، وما موضوع تخريبهم وهدمهم على مدى الأعصار إلا عقول البشر بمعاولهم الهَدْمِيّة ....

وفجأة بين الفَجآت في هدْأة من سكون الجماد... في بلاد الجماد أسمع صراخا وصياحا.. وكلمات غيظ وغضب ........

إنّي لأسمع صراخك وصياحك ونَدْبك كلماتي يا قلم ...يكاد يأتي عليّ تميّزك غيظا، وأكاد أرى شَزَر نظرك بعينيّ هاتين، وأنت الصائح أنّني ملقية التّهم عليك بلا برهان ولا دليل، وتبكي بُؤس حظّك وشُؤم طالعك أن كنتَ قلما جمادا بلا حِراك ولا صوت، والتّهم تنهال عليك جزافا من صاحبة الحِراك والصوت... تتمنّى لو كان لك من الحِراك لانقضضتَ تقتصّ من لساني الأعوج ... ولو كان لك من الصوت لرفعتَ بي قضيّة لمحكمة العدل الدوليّة !!
دوليّة ...دوليّة ...المهم ألا تكون "الإلهية" يا قلم  emo (30):، يا أيها الذكر بين الذّكر الأعظم ... emo (30):

عفوا يا أيها القلم بألوان... عفوا فليتسع صدرك لسماعي من قبل أن ترفع الدعاوي والشكاوي وتهمّ بالحَكايا والقضايا ....فلعلّك –أكرمك الله والفضل لك- مع سعة معرفتك، وطويل باعك في عالَم المعارف والمخابر، لم تنتبه بين كلماتي لمفتاح معانيها : "ما كانت اليد القابضة على رأسك يدَ معلّم تُعلّم الحقّ " و "ما كانت اليد القابضة على رأسك يد مُهدّم يستنّ بسنّة آبائه الأولين من أولي الهدم والتخريب" ...

أرأيت؟؟ أرأيت ؟؟ أنا من صراخك وعويلك ونَدبِك بَراء بَراء يا قلم ...
قد علّمني فيما علمني "بكَ" ربي وربّك أنّ الإنسان هو صانع الخير والشرّ ،وقد هُدي النجدين، وأنّكم -وإن كنتم ما كنتم- أدوات لنا سُخِّرت، كما أنّك اليوم يا قلم أداة بين أدوات أبيعها بمكتبتي ....
إنّي لأرى رَوعك وقد هدأ... وأراك وقد عُدت وكلّ ألوانك وآلِك يا قلم على الرفوف لسابق هدوئك وعهدك وحالك...أحسنت صنعا بك وبكل آلِك يا قلم ...فأنت والله من خير من عرفت، ومن أكثر أهل مكتبتي خيرا ونفعا .فاسلَمْ...اسلم ولا تجزع...
واسمع حديثي عن الحاكم بأمره بينكم، أمهلني يا صاحبي واتّبعني، ولا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، واصغَ لحديثي، ودعني أقول لكم من القول ما قد ينفع...دعني أحدثكم عن حال الحاكم فيكم بأمره من تراب سنيّ بقائه ذريعةً لدوام بقائه ....

أقبل أسارُّك يا قلم فإنّ من الألفة والثقة لما يكون مبتدؤه خِصام ...إنني قد جئتكم يا قوم مكتبتي من بلاد العرب بنبأ عجب يقال  أن اسمه "ثورة"، فاهدأ واسمع مني ما يصنع الصمتُ في الحاكم بأمره فيمَن حَكَم ...
اهدأ فمن فوارق الفوارق أنّ استيعاب حقيقة الثورة يستوجب هدوءا يُنبتها في الرؤوس فهما ووعيا، هدوء كالذي يسبق العاصفة، يُخيَّل للمرء الحالم فيه أنّه السكون الأبديّ ...
وأقلام الرصاص على تلكم الرفوف...قد زيّنوكِ أيتها الأقلام أيضا ! فمنك الزهريّ، ومنك الأخضر، ومنك الأبيض، بمسحة لمّاعة تجلب الرائي إليك كما يجلبه جمال الزهر، وإن كان لا يعرف أنّ لبّك وقلبك رصاص في رصاص... !!

قد بتَّ مزيّنا يا قلم الرصاص في هذا الزمان ! ليس حالُك ببعيد من حال رصاص العرب إلا أنّك منه "القلم" ومن عربيّ الأصل ذاك ..."الألم"...حرف يا رصاص، حرف واحد لا أكثر ...لا ضير...ولا حَزَن... !
ولكن في الحرف الفرق تكمن كل الفروق، في الحرف يكمن كلّ الألم وكُنه الألم . !
رصاص العرب من حكم الحكّام بأمرهم في العرب، لم يَعُد ذاك المُعَدّ لصدر العدو الحاقد المتربّص الرابض على الحدود، يستبيح الأرض والعرض ويغتصب العقل والفِكر...رابض على الحدود، على الهامش يدّعي الهامشيّة وأنّه الوقّاف عند الحدود!! فيما هو الآمر الناهي في الحاكم بأمره في أمر العرب، يُملي الشروط حروفا من عجب على حكام العرب... يُملي الأوامر في بلاد العرب وأنهار العرب..وبحار العرب ...وأحلام العرب.... وكلّها لأوامره المَصَبّ ...!
يُملي الدّلال على عَوَاره وعارِه على حكّام ما صَدقوا الوعد إلا معه، وما أوفوا إلا بعقود هي معه، عقود بطرفَين، فطرفها الأول "العدوّ العدوّ"،  وطرفها الثاني "حامي الديار وحراميها" ... !وخائنها وسائسُها ومكّاسُها وسمسارها .....البائع بلا ثمن....... !

وآلات رصاصهم –وإن كانت لا تُشبه عملك- تُشبه شيئا مما فيك يا قلم الرصاص، تُزيّن بالعنوان والاسم والمظهر بُهْرُجا أنها ما جُعلت إلا لتسكن صدر العدو، فالعناوين والمظاهر والأسماء من ذلك في ألوان وبريق ولَمَعان "ممانعة" "مواجهة" "مقاومة"، "صمود"، "مُعاداة"، والحقيقة من رصاصهم المزيّن بالمسميات أنه اليوم يملأ الشوارع لا الحدود ولا الهوامش...! أنّها تدُكّ بيوت شوارع البلاد، وتنهال على رؤوس عباد البلاد، وتقطّع أوصال عباد البلاد... وترمي حتى حمير البلاد وقطط البلاد يا رصاص مكتبتي المزيّن ... !

هل أتاك يا قلم الرصاص حديث عاد إرَم ذات العِماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد ؟ وهل أتاك حديث فرعون ذي الأوتاد؟
وهل أتاك حديث ثمود الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، واستحبوا العمى على الهُدى... وحديث أصحاب الرسّ ؟
لا أحسب أنّك من كل هذه الأحاديث في غفلة يا قلم، ولكن لا أحسبك من حديث كالذي به جئتك من بلاد العرب في علم وخبر يا قلم ...
إنّ الحامي الباقي الذي جاؤوا به خَلَفا لأبيه الغابر وارثا بلا ميراث، قد استباح عِرض أهله...
إنّ جنوده قد قطّعوا أوصال أبناء البلاد، وهتكوا الأعراض، وشهدوا ألا إله إلا الذي جاء فيهم يدّعي البِشر والبشارة لمن به آمن وصدّق، والنذر والنِّذارة لمن به كفر وكذّب...! ذاك الذي سمّوه  "بشّار"، وأكرهوا الناس بمقصلة أظافر الأطفال أن يكونوا به مؤمنين ....!!

إنّه وجنوده قد عذّبوا الأطفال وقطّعوهم وقتّلوهم، وعاقبوا شعبا بجريرة أصابع الأطفال الذين كتبوا على جدران المدارس من وحي ثورة عربية قريبة رأوا فيما رأوا أنّها أسقطت ظالما حكم شعبا، فأحبوا أن يقلّدوا الإسقاط والإطاحة، فكتبت أصابع الأطفال الصغيرة : "الشعب يريد إسقاط النظام "، فاستحال النظام بعثرةً وخَبطاً وخَلطاً ...وهام عبيده على وجوههم  يستسقون الأطفال من أرصفة الشوارع باسم إلههم الغاضب الساخط الناقم على الأطفال إذ قالوا قول الصدق فيه والحق،فكتبوا أنّ غاية ما يريده شعب مستبَدّ إسقاطه لمستبِدّه المتألّه... فيقبض على أعناقهم الصغيرة، ويقتاد قاماتهم القصيرة إلى مخافر التعذيب والألم والإذلال ....ويالهول خبر وفجيعة سقوط الصغار بين أيدي مستسقي الدماء سقيا لغرائزه بهيميّة الأصل، حيوانية المنبت .....!!

إنّ بين مُدُن الدنيا الحرة مدينة  يقال له "درعا" إلى الشرق منها بأربعين كيلومترا "بُصرى الشام" حيث ارتحل رسول العالمين محمد عليه من الله الصلاة والسلام وهو طفل من سنّ أطفال  جدران حُرّة لمدارس درعا... في زهرته الثانية عشرة من ربيع عمره إلى هناك ارتحل... وهناك رأى الراهبُ بحيرى ما رأى، وما غيرُه لم يره، هنالك بالقرب من درعا أطفال الإباء... رأى الحجر والشجر وقد سجد لنور محمد....ورأى الغمامة تتعقّب رأس محمد ...
هنالك قرب درعا الحرة، سجد حجر وشجر لنبيّ العالمين وهو طفل أغرّ .... وهنالك قرب بُصرى بدرعا بكى الحجر والشجر بدمع الدم لحم الأطفال يتطاير، وأظافر الأطفال تُقتلع من المتألّه وجُندِه ....إلا أن كذّبوا به إلها من وحي صدق قلوبهم ونقاء سرائرهم وقوة الفطرة فيهم أنهم عباد الواحد الأحد، لا عبيد أحد ....!

فهل أتاك يا قلم رصاص مكتبتي  من هذا الخبر؟؟ وهل أتى على قلبك "الرصاص" رصاصُ هذا الخبر ؟ !
أما زال في قلبك رصاص ينبض أيها القلم؟ أمازلت تتحمّل؟ أرى العينَ منك تشقّق عن حبيبات دمع... لا بأس اسمع منّي فمازال المزيد.... لن أستهجن دمعك ولا بكاءك، فلعمري إنّ القصص التي بها أتيتكم ليبكي منها الحجر... أما قلوبهم هُم فإنها أشدّ قسوة، وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار، وإنّ منها لما يشقّق فيخرج منه الماء، وإنّ منها لما يهبط من خشية الله ....أما قلوبهم هُم فالحجر منها براء.........

اصبر يا رصاص الأصل ....واسمع...

ولمّا طال غياب الأكباد الصغار عن حنايا الآباء والأمهات، طالبوا بأطفالهم وقد علِموا أنّهم اقتادوهم واعتقلوهم، واقتلعوا من أناملهم الأظافر وطيّروا من لحمهم اللحم، وسفَحوا من عروقهم الدم ....وأوسعوهم ضربا وركلا وعفسا ....فتعالت حناجر الآباء تنادي بأنّ الأكباد قد احترقت على الأكباد .... !
ومن هنا بدأت القصّة يا قلم ....من هنا بدأت وليست هذه نهايتها...من هنا بدأ الرصاص يعمل عمله الحقيقيّ وبدأت المجنزرات والمدافع والآليات الحربية الثقيلة والخفيفة تخرج للشوارع، وتتربّص بأهل الشوارع، بالمرأة وبالرجل، بالطفل وبالعجوز، بالفتاة وبالفتى، بالشيب وبالشباب، لا تميّز بين أصغر ولا أكبر إلا بمقدار ما تجرأت الأقدام ووطئت تلك الشوارع مدفعيّة الزينة مُجَنْزريّة الديباج والحُلي .... !
ضرب جند "بشار" الجامع العمريّ، وقصفوه، ودخلوا على مصلّيي الفجر برصاصهم المرّ الملحد يصيبون قلوب المؤمنين في مقتل، يُهْدونهم على شرف المشّائين في الظُّلَم شرفَ الشهادة في سبيل الله وفي بيت الله، وبشهادة المؤمنين بالله...
ودسّوا السلاح في جنبات المسجد، وطلعت وسائل إعلامهم العمياء تبصّر الناس بأنّ أهل المسجد يدسّون السلاح في المسجد... وبدأت أصوات الإعلام الأعمى تنعت المؤمنين الثائرين ثورة الغضب وثورة الحرية وثورة نَشَدانها بالمندسّين.... ! وبدأت حكايات المندسّين ....

وتنادت المدن بالفَزعة لدرعا ولحوران، وتنادت الأطراف بالثورة للثورة، ومع الثورة .... وتنادت الأحاسيس والمشاعر والقلوب بالانتقام والثأر من صمت السنين والأعوام، وتنادت الأيادي بإسقاط الأكمّة قبل إسقاط النظام.... وتنادى الأحرار بالثأر لأهل قرى ومدن أبادها الأب الغابر القابع تحت الأرض في سرداب التراب، ذاك الذي سوّد التاريخَ بسواده ويده التي تقطر من دم أهل سوريا الحرة .... تنادوا بالثأر لحماة فوقفت على قدميها "حماة" وتعالى من حنجرتها المِليونية صوت الثأر الزائر...ونفضت عن عينيها تراب السنين، وأعادت لساقيتَي دمعها المحفورتين على الوجه الشاحب الحزين ماءَهما الذي غيض من فعل اغتصاب الدمع في مآقي المفجوعين الملوّعين...شأنهم في ذلك شأن الذي يقتل ويحرّم على المفجوع في قتيله الدمع وإلا ألحقه به راضيا أو ساخطا ...!!

صمتُّ برهة ...من فعل صوت جديد بين ثنايا مكتبتي.... صوت لم أعهده، ليس هو عن حركة شيء بين الأشياء آل للسقوط مآله من رفّ بين الرفوف، ولا هي شقشقة كيس بين الأكياس، ولا هي حركة الجماد من فعل ذبابة تحطّ عليه تُفاخِر بالحياة فيها...ولا من صوت ضوء العصر في فتيل قناديل العصر العُلْويّة في سقفها ساعة هدوء الحركة بين الساعات...لا لا ...  ليس عن كل هذا، فكلّه قد ألِفْتُه وصرت لا أستهجنه ولا أستغربه ...

ولكنّها جَلَبة تحرّك الجماد غير حركته المعتادة...

آآآه .....إنه لنَحيبُ الجماد وهو يسمع من حكايات العصر ما فاق حكايات كل عصر، وهو يسمع من حكايات المستبدّين ما فاق فعل كلّ المستبدّين .... إنها ريح الثورة في مكتبتي، إنه فعل الحقيقة في الغافلين.... إنه فعل التاريخ الصادق فيمن لم يكن يعرف غير تزوير المزوّرين ....هكذا ....هكذا تحدث حركة الأحياء أيضا من بعد جمودهم وجمادهم دهورا، سمح فيها الجمود والصمت بتزوير التاريخ، وبإخفاء الحقائق، وبتبديلها، وبإنزال المسمّيات على غير من يستحقّها، وبتعليق النياشين في غير مواضعها،وبغمط حقّ أهل الحقّ.... فأصبح السفاح بطلا مغوارا، وأصبح التقتيل والتزوير واغتصاب الكرسيّ "حركة تصحيحية"، وأصبح الجزار الذي يعشق دماء البشر ولحمهم "الفاتح أبدا" ، وأصبح المتكبّر المتعالي بائع الأرض والعِرض سادّ منافذ النَّفَس على نفوس غزة "الأب الرؤوم".... !!

واسترسلت أعطي أنباء الثورة في بلاد العرب...وصار القوم كلّهم آذانا صاغية :....
وبين الحين والحين يا قوم كان سيد قومهم ذاك يطلّ على العالم بطلّته الثعلبية يضحك حينا ويغرق بالضحك حينا آخر فيما يقتل جندُه أهل بلده، ويَغرقون بدماء أحراره .... ويطلّ حينا أخيرا ليقول أنّه الذي لم يأمر بأن يُقتَل شعبُه......ويالسخريّة اللسان حين ينعقد عن كل حلّ.... !!
إنّ أهل حمص العديّة يستصرخون العالَم أنّ ديارهم لم تعد آمنة، يستصرخون فيه الضمير أنّ حرماتهم قد انتهكت، يستصرخون الحميّة في قلوب الإنسانية أنّ نساءهم استباحتها  أيدي الإثم والعدوان، أيدي الجُند العمي عن ذرة حق وضمير...

إنّ نساءهم تَخطّفهم أياديهم النّجسة ... إنّ رجالا استبيحت نساؤهم قد خرجوا ينادون "الموت ولا المذلّة".... يحملون على الأكفّ أرواحَهم، غاية ما يتمنّون النصر بالثأر من منتهك عرضهم، أو الشهادة للخلاص من كابوس الحياة في بلد يقال أنّ "المجنون بعظمته"  رئيسها وقائدها الأعلى .....
واشتعلت حمص، واستعر أوارها ....وأنارت نور نارها الدرب نحو الخلاص ... وهي تولد من جديد وثراها يوري جثمان سيف الله المسلول للحق خالد بن الوليد،  حمص الخالدية تعطي من خيرة شبابها ورجالها عربون حرية سنيّة ....
وها هو النذل وأعوانه، يجتهدون حفرا كأمهر الحفّارين، يحيطون المدينة بخنادق الموت، يقال أنّ "الأسد الابن" سليل الإجرام والإعتام يخطّط لأن يصبّ فيها ذهب البلاد الأسود... ليؤمّن لأهل البلاد مستقبلا زاهرا يذكّرهم به إذا ما ولّى عن الحياة !!
ويْح أمّه وثُكلاها ..!! بل ليشعل المحيط الحِمصيّ كله، ويصيّر حمص العديّة محرقة يتولّى أمر رمي أهلها بخنادقها الذهبية ....ليس هو في ذلك ببعيد من صاحب الأخدود الذي حرق أهل البلاد بالنار ذات الوقود وما نقموا منهم إلا أن آمنوا بالله العزيز الحميد ...!!
وقطّعوا أوصال "حمزة الخطيب"،واستأصلوا ذَكَرَه،فيما أعلوا ذِكْرَه، وأسكتوا نبض "هاجر الخطيب"،وأبكوا مدامع دميتها، وأذهبوا ضحكة "قاسم"... وأتبعوهم جميعا بحرقة مَن خلفهم نارا تزيد لهيب السخط عليهم ...وما فعلوا إلا  خوفا من تمرّد الأطفال مشعلي نار الثورة والحرية، و استأصلوا حنجرة الشادي على ضفاف الوادي....وادي الحرية لشعب صادي ... وما استأصلوها إلا أن قال فيما قال، وشدا فيما شدا "يسقط الحاكم الغاشم وتحيا بلادي" ...

"يا الله ارحل يا بشار...
نحنا الكل مْنِفْدِي الكل ولحظة وحدة ما منمل** والحر ما بيرضى الذل ويا الله ارحل يا بشار...
 يا بشار ومانّك منّا خود ماهر وارحل عنّا** شريعتك سقطت عنّا ويلا ارحل يا بشار...
ويا بشار حاجة تدور ودمك بحماه مهدور** وخطأك مانو مغفور ويا الله ارحل يا بشار
"...

قد استأصلوا حُنجرته من بعد ما أسكتوا النبض فيه، فهي التي قتلتهم ألف ألف مرة قبل نبضه، ولكأنّها القلب فيه والنبض، والروح والدماء والعروق، ولكأنهم يعلنونها برصاصهم الذي طالما تزيّن وزيّن أنّهم ما يُقتَلون -والنبض في قلوبهم الميتة سارٍ-، وما يقاتلون وما يرمون بحمم غيظهم إلا من حناجر تعالت منها الأصوات من بعد ما ظنّوا أنّ الصمت عِماد بقائهم، وأنّ جثومهم دائم مخيّم أبدا ...!!

اسمع مني الخبر والنبأ يا رصاص المكتبة الملفوف في خشب، المرصوف في عُلَب، المُقتَنَى لرسمٍ ذي ألوان...اسمع مني خبر الرصاص القاتم الذي يرسم العار في شوارع البلاد، وينحت على أجساد أهل البلاد معاني "الممانعة" و "المقاومة" و "الصدّ"، لعدوّ هو إذا عرّفتَه سميتَه في كلمة واحدة، قليلة الحروف، عظيمة المدلول.......... "الشعب" !!
ماذا أخبرك يا رصاص مكتبتي عن ثورة في بلاد العرب، ثم ماذا؟ ثمّ ماذا ؟...........

---------------------------------
ومازال المزيد من أخبار حديث الثورة في مكتبتي ........ فهل نكمل ؟
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل سيفتاب

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 7766
  • الجنس: أنثى
  • إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #114 في: 2013-10-27, 11:29:48 »
فراشتنا اشتقنا لهذه الخواطر جدا
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6547
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #115 في: 2013-10-27, 12:18:15 »
جزاك الله كل خير يا سيفتاب.
كم كنت أتمنى فعلا المواظبة على هذا الموضوع، ولكن الظروف لها أحكامها. ومكتبتي ما تزال في كل يوم حُبلى بالأحداث التي أجدني أكتب منها النزر القليل من حين لحين، ولكن مع الانشغال لا مجال للمواظبة على التفصيل . ربما أركز الاهتمام أكثر للعودة بخواطرها هنا . :)


ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل ماما هادية

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 15907
  • الجنس: أنثى
  • احفظ الله يحفظك
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #116 في: 2013-10-27, 15:01:17 »
تلك هي المشكلة
تتدفق التجارب في حياتنا
فتنبعث الخواطر في اذهاننا
وتتعمق الحكمة من خبراتنا
ونرغب في مشاركتها مع اخوتنا
فننتظر الفرصة السانحة، التي تعيينا على اخراج هذه الخبرات في ثوب قشيب، وأسلوب بهي ذي رونق وألق
فنؤجل ونسوف
حتى تتبعثر الخواطر.. وتبهت الافكار


 :emoti_144:
*رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ*

غير متصل حازرلي أسماء

  • أحلى.شباب
  • *****
  • مشاركة: 6547
  • الجنس: أنثى
  • غفر الله لنا ما لا تعلمون
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #117 في: 2013-10-28, 06:57:02 »
تلك هي المشكلة
تتدفق التجارب في حياتنا
فتنبعث الخواطر في اذهاننا
وتتعمق الحكمة من خبراتنا
ونرغب في مشاركتها مع اخوتنا
فننتظر الفرصة السانحة، التي تعيينا على اخراج هذه الخبرات في ثوب قشيب، وأسلوب بهي ذي رونق وألق
فنؤجل ونسوف
حتى تتبعثر الخواطر.. وتبهت الافكار


 :emoti_144:


عسانا "نمشي بنور الله" أتذكرينه ؟ ::)smile:
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

غير متصل ابنة جبل النار

  • شباب إيجابي
  • ***
  • مشاركة: 618
  • الجنس: أنثى
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #118 في: 2013-10-28, 09:46:14 »
اليوم فقط انتبهت للموضوع بعد الرفع..
وصلت للصفحة الخامسة. .رائع...لي عودة بإذن الله
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن ﻻ إله إﻻ أنت أستغفرك وأتوب إليك[/co

غير متصل زينب الباحثة

  • أحلى شباب
  • *****
  • مشاركة: 1938
  • الجنس: أنثى
  • إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
رد: خواطر مَكْتَبَتِية
« رد #119 في: 2013-10-28, 12:48:56 »
بدأت في قراءة الخواطر عن الفتاة سيرين

جميييلة جدًا مبدعة يا أسماء :)