وكعادتها مكتبتي، كلما أوعزها الحال بكتْ قديما كان فيها، وأصرّت أن يكون فيها منه جديد، شأنها في ذلك شأن الوفيّ وفراقُه ما تعوّد عليه مساوٍ لفراقه الجزء منه، بل الفرحة منه، بل الحياة منه ....
كم أنت صادقة يا رفوف مكتبتي...

كم لا تجيدين الكذب والادّعاء ! كم هو واضح حالك، جليّ بيّن ، فإن كنتِ الطّاعمة الشبعى، افترّ منكِ الثغر ألوانا ، وجَهْوَرَ فيكِ الصوت طربا وانتشاء، وبانَ منكِ الحزن والأسى بيْنا...
فإذا هي الحياة بين جنباتك والازدحام على الحياة لقومٍ جمع بينهم مكان وزمان بألّاف وألفة حتى غدوا مصطفّين متجاوِرين، متعايشين، يمضون الوقت سويا،يتقاسمون الزمان والمكان، وكأنهم السكان، وكأنّ الرفوف سُكناهم ...!
أما سيد القوم فيهم فأكثرهم بقاء فيها، وأقدمهم، وأرسخهم قدما ووفاء لحَديدها ولَوحها....

ذاك الذي لا يُباع ولا يُسأل بحال من الأحوال عن حاله...

ذاك سيد القوم وصاحب الرأي فيهم والمهابة بإصراره على البقاء،وأنّه الذي لا يتزحزح ولا يُزَحْزِحه مزحزح، ولا يُشقّ لغباره غُبار...!

شِرعته في قوم من الأدوات والكتب غيرُ ما تختزنه كُتُب الفكر الحق من أنّ السلطة دُول كما هي الأيام دُول ، وتداول وتبادل، وأنّ السيادة في القوم محض اختيار القوم وقرارهم وجامعُ الرأي فيهم... وأنّ مقياس البقاء والخلود ليس هو مكان السيادة في القوم والذي يختاره السيّد وحده ويضع نفسه به وحده... غير ملتفت لقومه ليسألهم مترقّبا لجواب الحقيقة منهم على الوجه الذي يُرضي جَمْعهم وجَمْهرتهم...بل إنّه المُختَار والمُختَار.... والمُحتال والمُحتلّ،والباقي والقديم، والمجدّد بيدِه عُهَدَه والممدّد بيده عَهْدَه...والقابع والجاثم وصاحب كل الأسماء السوأة....!!حتى لَيُضحي خَلاصُه من الرُّوح المصّعّدة أهون عليه من خلاصه من سيادة ذاتيّة الاختيار والقرار! وإن كثرت عُصبته فإنها وهو وجهان لعملة واحدة، ليست إلا عصبة لاهث خلف بقاء ذاته، فلا يكونون منه إلا هو، منسوخا في أفئدة تعبده إلها، تحقّق له هواه ومَرْجاه، وتحقّق لنفسها شيئا من إغداق الإله على عبيده من بَعد التبتّل والتسبيح بحمده بكرة وعشيا، ومن بعد ترسيخ العبودية له ونشرها بين قومه دينا يستعيضون به عن دين الإله الأوحد ...!وأنّ الذي ينطق عن الهوى من غير وحي إلههم المعبود فإنّما قد كفر، وجزاؤه ألا يبقى بين القوم على أديم الأرض لئلا ينقل إليهم هرطقات الهوى، وحتى يبقى الجمع على دينه من غير مريدين فيه بإلحاد يُسامون أليم العذاب ... !!
وهكذا هو السيّد "مختار ذاته" ، مقرّر بقاء ذاته ، "الحاكم بأمره"، اللاهث خلف ترسيخ أمره ، يصنع لنفسه من حوله عبيدا يتقوّى بأصدائهم..... ولو أنّه أبرّ لوصف "الإله" الذي ادّعاه لأبرّ لصفة الألوهية في استغناء الإله عن كل عباده المتعبّدين المسبّحين المُخبتين ....ولكنّه كما ادّعى ما ليس له ولا لأحد من أبرّ أبرار الخلق، فهو الإله المحتاج لعصبة تحميه بأن يصبحوا ويُمسوا يمجدّوه ويسبّحوه ويذكّروا كل ناسٍ أنه إلههم ....إلههم الفقير لعبوديّتهم، المحتاج لذلّهم بين يديه ....!
مقياس البقاء والخلود عنده -ذلك السيد بين أدواتٍ وكُتب- ليس ما تَبُثّه كتب الحق والفكر الحر من أنّه مفعول الخير والنفع وأثره فيمَن كان الحاكمُ فيهم حاكما ،وأنّه بنكرانه "أناه" وذاته، لقاء الوفاء لرعيّته وحاجات رعيّته ، ببذل راحته في سبيل راحة وهناءة رعيّته....بأن يعطي لرعيته أول ما يعطي من عروقه وأعصابه ، ومن خوالج خوالجه وهو يستثقل الحِمل ويستثقل ويستثقل .... ويَعي حقّ الوعي ويفهم حقّ الفهم أنّه المسؤول الأوّل عن شعب بأسره، بشيبه وشبابه، بمَن هو اليوم فيهم، وبمن هو قادم فيهم، لا لتفخر بها نفسه أو لتراها تاجا فوق التاج بل ليعلم فوق علمه كم هو ثقيل حِملُه فوق حِملِه ....!
مقياس البقاء والخلود ليس عدّادا يجمّع الأرقام بعضَها إلى بعض لتصبح أكبر باستحلال السنوات من خلفها السنوات.... سنَتُه التي بين يديه وكلّ ما هو آت... ولكأنّه العالم أنها الآتية وهو بين أحضان الحياة، ولكأنّه الضامن أنّها مُلكُه لا ملك غيره، بل إنّ سباقه السُنونيّ من أجل أن يصبح ملك السنوات والعمر والحياة لأشدّ ضراوة من أيّ سباق ليومه وأثر فعله في يومه الذي بين يَديه ساعاته...
سباق من أجل البقاء للبقاء وعلى البقاء ومع البقاء بغية ترسيخ أقدامه وتثبيتها على مدى ما هو قادم، مما يصيّر كل تفكيره في آليّة الحفاظ على بقاء ذاته لا في آليّة بقاء عمل اليوم وإنجاز اليوم الذي يبقى للرعيّة خيرا على مدى الآتي من السنوات من غير ما صراع ولا سباق، ذلك أنّ أثر الفعل للخير هو امتداد بقاء الذكر من بعد الهلاك ، ولَهو العُمر الممتدّ الذي لا ينقطع بانقطاع الأنفاس، أمّا العمل من أجل الذات وإرضاء الذات وإشباع اللذّات وتلبية الشهوات فإيذان برحيل الذكر ساعة رحيل الأنفاس .
فهذا الحاكم صاحب ذاته والقائم على لذّاتِه قصيرٌ عمرُه ما طال، مَدّه بمَدّ الأنفاس التي تلج وتخرج، والذكر المصاحب لعمره ذكر مدح وإفك ونفاق وكذب ومداهنة، وقصير قصير مّا هو ذكر كذكره.... وذاك الحاكم منكر ذاته القائم على إنكارها وملذّاتها، كلما عرَض له حديث من أحاديث النفس التي لا تفلح محدّثة مَن مِثله وإن استماتت محدّثة حديث الغرور والتغرير، طويل عمره مدَّ أنفاسه وما بعد أنفاسه، ترثها أنفاس تحيا على فعله وعمله . وقلوب مع الأفواه تذكره بالخير كلما أصابها من نفع صيّب أيام حكمه وإن كانت قليلة تلك الأيام .... وعمره طويل طويل ببقائها مِن خلفه، يحيا فيها وهي تُحيي النفوس والنفوس زرعا من غرس يده إنْ مادّة لحياة الأجساد أو مادّة لحياة الأرواح والفِكر، ولِسُمُوّ الإنسان في الإنسان من بذور الإنسانية التي لا يضاهي نماءَها وعطاءَها بذر ولا زرع ....
ومن شِرعة الحاكم صاحب ذاته شِرعةُ أقدم الأشياء بين أشياء مكتبتي.....

لا "ديمقراطية" ولا تبديل، ولا "تداول على السلطة"، ولا مَحيد عن المكان وإن تبدّل الزمان، ليس من إصرار الوفاء بل من إصرار البقاء، وشتّان شتّان بين إصرار وإصرار...! فالأول لا يأبه لحياة عَيْنه بقدر ما يأبه لحياة أعين أحبّها، والثاني لا يأبه لغير حياة عينه ...
صمتُ قومه الأبديّ رأس الفضل في بقائه، وجُمود أدوات المكتبة وكُتُبها وانعدام الحِراك فيها قَوام بقائه الحاكم الآمر الناهي بأمر قِدَم وُجُوده، وسنوات بقائه، وشهادة الرفوف أنّه الأقدم والأحقّ بأن يكون الأكبر ... !
وهذه الأقلام مِن حولي، على رفوفها وقُدّامي، والألوان منها والأشكال، والمعادن موادّ صناعتها ومَيْزُ رِفعتها من وضاعتها كما فِعل المعادن في البشر بطِباعهم وسجاياهم ....!
كم هو كبير قدرك ومقامك أيها المسطور بين آيِ الذكر ذكرا ! "
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)" ،
-العلق-"
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ(1)"
-القلم-كنتَ مُعلّما يا قلم ما كانت اليد القابضة على رأسك يدَ معلّم تُعلّم الحقّ بحروف من نور الحقّ السماويّ الذي هو الحق خالصا، فتزرع الخير والنفع ليُثمر خيرا ونفعا على الأرض يمشي ...وكم كنتَ مُهَدِّما يا قلم ما كانت اليد القابضة على رأسك يد مُهدّم يستنّ بسنّة آبائه الأولين من أولي الهدم والتخريب، وما موضوع تخريبهم وهدمهم على مدى الأعصار إلا عقول البشر بمعاولهم الهَدْمِيّة ....
وفجأة بين الفَجآت في هدْأة من سكون الجماد... في بلاد الجماد أسمع صراخا وصياحا.. وكلمات غيظ وغضب ........
إنّي لأسمع صراخك وصياحك ونَدْبك كلماتي يا قلم ...يكاد يأتي عليّ تميّزك غيظا، وأكاد أرى شَزَر نظرك بعينيّ هاتين، وأنت الصائح أنّني ملقية التّهم عليك بلا برهان ولا دليل، وتبكي بُؤس حظّك وشُؤم طالعك أن كنتَ قلما جمادا بلا حِراك ولا صوت، والتّهم تنهال عليك جزافا من صاحبة الحِراك والصوت... تتمنّى لو كان لك من الحِراك لانقضضتَ تقتصّ من لساني الأعوج ... ولو كان لك من الصوت لرفعتَ بي قضيّة لمحكمة العدل الدوليّة !!
دوليّة ...دوليّة ...المهم ألا تكون "الإلهية" يا قلم

، يا أيها الذكر بين الذّكر الأعظم ...

عفوا يا أيها القلم بألوان... عفوا فليتسع صدرك لسماعي من قبل أن ترفع الدعاوي والشكاوي وتهمّ بالحَكايا والقضايا ....فلعلّك –أكرمك الله والفضل لك- مع سعة معرفتك، وطويل باعك في عالَم المعارف والمخابر، لم تنتبه بين كلماتي لمفتاح معانيها : "ما كانت اليد القابضة على رأسك يدَ معلّم تُعلّم الحقّ " و "ما كانت اليد القابضة على رأسك يد مُهدّم يستنّ بسنّة آبائه الأولين من أولي الهدم والتخريب" ...
أرأيت؟؟ أرأيت ؟؟ أنا من صراخك وعويلك ونَدبِك بَراء بَراء يا قلم ...
قد علّمني فيما علمني "بكَ" ربي وربّك أنّ الإنسان هو صانع الخير والشرّ ،وقد هُدي النجدين، وأنّكم -وإن كنتم ما كنتم- أدوات لنا سُخِّرت، كما أنّك اليوم يا قلم أداة بين أدوات أبيعها بمكتبتي ....
إنّي لأرى رَوعك وقد هدأ... وأراك وقد عُدت وكلّ ألوانك وآلِك يا قلم على الرفوف لسابق هدوئك وعهدك وحالك...أحسنت صنعا بك وبكل آلِك يا قلم ...فأنت والله من خير من عرفت، ومن أكثر أهل مكتبتي خيرا ونفعا .فاسلَمْ...اسلم ولا تجزع...
واسمع حديثي عن الحاكم بأمره بينكم، أمهلني يا صاحبي واتّبعني، ولا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، واصغَ لحديثي، ودعني أقول لكم من القول ما قد ينفع...دعني أحدثكم عن حال الحاكم فيكم بأمره من تراب سنيّ بقائه ذريعةً لدوام بقائه ....
أقبل أسارُّك يا قلم فإنّ من الألفة والثقة لما يكون مبتدؤه خِصام ...إنني قد جئتكم يا قوم مكتبتي من بلاد العرب بنبأ عجب يقال أن اسمه "ثورة"، فاهدأ واسمع مني ما يصنع الصمتُ في الحاكم بأمره فيمَن حَكَم ...
اهدأ فمن فوارق الفوارق أنّ استيعاب حقيقة الثورة يستوجب هدوءا يُنبتها في الرؤوس فهما ووعيا، هدوء كالذي يسبق العاصفة، يُخيَّل للمرء الحالم فيه أنّه السكون الأبديّ ...
وأقلام الرصاص على تلكم الرفوف...قد زيّنوكِ أيتها الأقلام أيضا ! فمنك الزهريّ، ومنك الأخضر، ومنك الأبيض، بمسحة لمّاعة تجلب الرائي إليك كما يجلبه جمال الزهر، وإن كان لا يعرف أنّ لبّك وقلبك رصاص في رصاص... !!
قد بتَّ مزيّنا يا قلم الرصاص في هذا الزمان ! ليس حالُك ببعيد من حال رصاص العرب إلا أنّك منه "القلم" ومن عربيّ الأصل ذاك ..."الألم"...حرف يا رصاص، حرف واحد لا أكثر ...لا ضير...ولا حَزَن... !
ولكن في الحرف الفرق تكمن كل الفروق، في الحرف يكمن كلّ الألم وكُنه الألم . !
رصاص العرب من حكم الحكّام بأمرهم في العرب، لم يَعُد ذاك المُعَدّ لصدر العدو الحاقد المتربّص الرابض على الحدود، يستبيح الأرض والعرض ويغتصب العقل والفِكر...رابض على الحدود، على الهامش يدّعي الهامشيّة وأنّه الوقّاف عند الحدود!! فيما هو الآمر الناهي في الحاكم بأمره في أمر العرب، يُملي الشروط حروفا من عجب على حكام العرب... يُملي الأوامر في بلاد العرب وأنهار العرب..وبحار العرب ...وأحلام العرب.... وكلّها لأوامره المَصَبّ ...!
يُملي الدّلال على عَوَاره وعارِه على حكّام ما صَدقوا الوعد إلا معه، وما أوفوا إلا بعقود هي معه، عقود بطرفَين، فطرفها الأول "العدوّ العدوّ"، وطرفها الثاني
"حامي الديار وحراميها" ... !وخائنها وسائسُها ومكّاسُها وسمسارها .....البائع بلا ثمن....... !وآلات رصاصهم –وإن كانت لا تُشبه عملك- تُشبه شيئا مما فيك يا قلم الرصاص، تُزيّن بالعنوان والاسم والمظهر بُهْرُجا أنها ما جُعلت إلا لتسكن صدر العدو، فالعناوين والمظاهر والأسماء من ذلك في ألوان وبريق ولَمَعان "ممانعة" "مواجهة" "مقاومة"، "صمود"، "مُعاداة"، والحقيقة من رصاصهم المزيّن بالمسميات أنه اليوم يملأ الشوارع لا الحدود ولا الهوامش...! أنّها تدُكّ بيوت شوارع البلاد، وتنهال على رؤوس عباد البلاد، وتقطّع أوصال عباد البلاد... وترمي حتى حمير البلاد وقطط البلاد يا رصاص مكتبتي المزيّن ... !
هل أتاك يا قلم الرصاص حديث عاد إرَم ذات العِماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد ؟ وهل أتاك حديث فرعون ذي الأوتاد؟
وهل أتاك حديث ثمود الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، واستحبوا العمى على الهُدى... وحديث أصحاب الرسّ ؟
لا أحسب أنّك من كل هذه الأحاديث في غفلة يا قلم، ولكن لا أحسبك من حديث كالذي به جئتك من بلاد العرب في علم وخبر يا قلم ...
إنّ الحامي الباقي الذي جاؤوا به خَلَفا لأبيه الغابر وارثا بلا ميراث، قد استباح عِرض أهله...
إنّ جنوده قد قطّعوا أوصال أبناء البلاد، وهتكوا الأعراض، وشهدوا ألا إله إلا الذي جاء فيهم يدّعي البِشر والبشارة لمن به آمن وصدّق، والنذر والنِّذارة لمن به كفر وكذّب...! ذاك الذي سمّوه "بشّار"، وأكرهوا الناس بمقصلة أظافر الأطفال أن يكونوا به مؤمنين ....!!
إنّه وجنوده قد عذّبوا الأطفال وقطّعوهم وقتّلوهم، وعاقبوا شعبا بجريرة أصابع الأطفال الذين كتبوا على جدران المدارس من وحي ثورة عربية قريبة رأوا فيما رأوا أنّها أسقطت ظالما حكم شعبا، فأحبوا أن يقلّدوا الإسقاط والإطاحة، فكتبت أصابع الأطفال الصغيرة : "
الشعب يريد إسقاط النظام "، فاستحال النظام بعثرةً وخَبطاً وخَلطاً ...وهام عبيده على وجوههم يستسقون الأطفال من أرصفة الشوارع باسم إلههم الغاضب الساخط الناقم على الأطفال إذ قالوا قول الصدق فيه والحق،فكتبوا أنّ غاية ما يريده شعب مستبَدّ إسقاطه لمستبِدّه المتألّه...
فيقبض على أعناقهم الصغيرة، ويقتاد قاماتهم القصيرة إلى مخافر التعذيب والألم والإذلال ....ويالهول خبر وفجيعة سقوط الصغار بين أيدي مستسقي الدماء سقيا لغرائزه بهيميّة الأصل، حيوانية المنبت .....!!إنّ بين مُدُن الدنيا الحرة مدينة يقال له "
درعا" إلى الشرق منها بأربعين كيلومترا "
بُصرى الشام" حيث ارتحل رسول العالمين محمد عليه من الله الصلاة والسلام وهو طفل من سنّ أطفال جدران حُرّة لمدارس درعا... في زهرته الثانية عشرة من ربيع عمره إلى هناك ارتحل... وهناك رأى الراهبُ بحيرى ما رأى، وما غيرُه لم يره، هنالك بالقرب من درعا أطفال الإباء... رأى الحجر والشجر وقد سجد لنور محمد....ورأى الغمامة تتعقّب رأس محمد ...
هنالك قرب درعا الحرة، سجد حجر وشجر لنبيّ العالمين وهو طفل أغرّ .... وهنالك قرب بُصرى بدرعا بكى الحجر والشجر بدمع الدم لحم الأطفال يتطاير، وأظافر الأطفال تُقتلع من المتألّه وجُندِه ....إلا أن كذّبوا به إلها من وحي صدق قلوبهم ونقاء سرائرهم وقوة الفطرة فيهم أنهم عباد الواحد الأحد، لا عبيد أحد ....!
فهل أتاك يا قلم رصاص مكتبتي من هذا الخبر؟؟ وهل أتى على قلبك "الرصاص" رصاصُ هذا الخبر ؟ !
أما زال في قلبك رصاص ينبض أيها القلم؟ أمازلت تتحمّل؟ أرى العينَ منك تشقّق عن حبيبات دمع... لا بأس اسمع منّي فمازال المزيد.... لن أستهجن دمعك ولا بكاءك، فلعمري إنّ القصص التي بها أتيتكم ليبكي منها الحجر... أما قلوبهم هُم فإنها أشدّ قسوة، وإنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار، وإنّ منها لما يشقّق فيخرج منه الماء، وإنّ منها لما يهبط من خشية الله ....أما قلوبهم هُم فالحجر منها براء.........
اصبر يا رصاص الأصل ....واسمع...
ولمّا طال غياب الأكباد الصغار عن حنايا الآباء والأمهات، طالبوا بأطفالهم وقد علِموا أنّهم اقتادوهم واعتقلوهم، واقتلعوا من أناملهم الأظافر وطيّروا من لحمهم اللحم، وسفَحوا من عروقهم الدم ....وأوسعوهم ضربا وركلا وعفسا ....فتعالت حناجر الآباء تنادي بأنّ الأكباد قد احترقت على الأكباد .... !
ومن هنا بدأت القصّة يا قلم ....من هنا بدأت وليست هذه نهايتها...من هنا بدأ الرصاص يعمل عمله الحقيقيّ وبدأت المجنزرات والمدافع والآليات الحربية الثقيلة والخفيفة تخرج للشوارع، وتتربّص بأهل الشوارع، بالمرأة وبالرجل، بالطفل وبالعجوز، بالفتاة وبالفتى، بالشيب وبالشباب، لا تميّز بين أصغر ولا أكبر إلا بمقدار ما تجرأت الأقدام ووطئت تلك الشوارع مدفعيّة الزينة مُجَنْزريّة الديباج والحُلي .... !
ضرب جند "بشار" الجامع العمريّ، وقصفوه، ودخلوا على مصلّيي الفجر برصاصهم المرّ الملحد يصيبون قلوب المؤمنين في مقتل، يُهْدونهم على شرف المشّائين في الظُّلَم شرفَ الشهادة في سبيل الله وفي بيت الله، وبشهادة المؤمنين بالله...
ودسّوا السلاح في جنبات المسجد، وطلعت وسائل إعلامهم العمياء تبصّر الناس بأنّ أهل المسجد يدسّون السلاح في المسجد... وبدأت أصوات الإعلام الأعمى تنعت المؤمنين الثائرين ثورة الغضب وثورة الحرية وثورة نَشَدانها بالمندسّين.... !
وبدأت حكايات المندسّين ....وتنادت المدن بالفَزعة لدرعا ولحوران، وتنادت الأطراف بالثورة للثورة، ومع الثورة .... وتنادت الأحاسيس والمشاعر والقلوب بالانتقام والثأر من صمت السنين والأعوام، وتنادت الأيادي بإسقاط الأكمّة قبل إسقاط النظام.... وتنادى الأحرار بالثأر لأهل قرى ومدن أبادها الأب الغابر القابع تحت الأرض في سرداب التراب، ذاك الذي سوّد التاريخَ بسواده ويده التي تقطر من دم أهل سوريا الحرة .... تنادوا بالثأر لحماة فوقفت على قدميها "حماة" وتعالى من حنجرتها المِليونية صوت الثأر الزائر...ونفضت عن عينيها تراب السنين، وأعادت لساقيتَي دمعها المحفورتين على الوجه الشاحب الحزين ماءَهما الذي غيض من فعل اغتصاب الدمع في مآقي المفجوعين الملوّعين...شأنهم في ذلك شأن الذي يقتل ويحرّم على المفجوع في قتيله الدمع وإلا ألحقه به راضيا أو ساخطا ...!!
صمتُّ برهة ...من فعل صوت جديد بين ثنايا مكتبتي.... صوت لم أعهده، ليس هو عن حركة شيء بين الأشياء آل للسقوط مآله من رفّ بين الرفوف، ولا هي شقشقة كيس بين الأكياس، ولا هي حركة الجماد من فعل ذبابة تحطّ عليه تُفاخِر بالحياة فيها...ولا من صوت ضوء العصر في فتيل قناديل العصر العُلْويّة في سقفها ساعة هدوء الحركة بين الساعات...لا لا ... ليس عن كل هذا، فكلّه قد ألِفْتُه وصرت لا أستهجنه ولا أستغربه ...
ولكنّها جَلَبة تحرّك الجماد غير حركته المعتادة... آآآه .....إنه لنَحيبُ الجماد وهو يسمع من حكايات العصر ما فاق حكايات كل عصر، وهو يسمع من حكايات المستبدّين ما فاق فعل كلّ المستبدّين .... إنها ريح الثورة في مكتبتي، إنه فعل الحقيقة في الغافلين.... إنه فعل التاريخ الصادق فيمن لم يكن يعرف غير تزوير المزوّرين ....هكذا ....هكذا تحدث حركة الأحياء أيضا من بعد جمودهم وجمادهم دهورا، سمح فيها الجمود والصمت بتزوير التاريخ، وبإخفاء الحقائق، وبتبديلها، وبإنزال المسمّيات على غير من يستحقّها، وبتعليق النياشين في غير مواضعها،وبغمط حقّ أهل الحقّ.... فأصبح السفاح بطلا مغوارا، وأصبح التقتيل والتزوير واغتصاب الكرسيّ "حركة تصحيحية"، وأصبح الجزار الذي يعشق دماء البشر ولحمهم "الفاتح أبدا" ، وأصبح المتكبّر المتعالي بائع الأرض والعِرض سادّ منافذ النَّفَس على نفوس غزة "الأب الرؤوم".... !!
واسترسلت أعطي أنباء الثورة في بلاد العرب...وصار القوم كلّهم آذانا صاغية :....
وبين الحين والحين يا قوم كان سيد قومهم ذاك يطلّ على العالم بطلّته الثعلبية يضحك حينا ويغرق بالضحك حينا آخر فيما يقتل جندُه أهل بلده، ويَغرقون بدماء أحراره .... ويطلّ حينا أخيرا ليقول أنّه الذي لم يأمر بأن يُقتَل شعبُه......ويالسخريّة اللسان حين ينعقد عن كل حلّ.... !!
إنّ أهل حمص العديّة يستصرخون العالَم أنّ ديارهم لم تعد آمنة، يستصرخون فيه الضمير أنّ حرماتهم قد انتهكت، يستصرخون الحميّة في قلوب الإنسانية أنّ نساءهم استباحتها أيدي الإثم والعدوان، أيدي الجُند العمي عن ذرة حق وضمير...
إنّ نساءهم تَخطّفهم أياديهم النّجسة ... إنّ رجالا استبيحت نساؤهم قد خرجوا ينادون "الموت ولا المذلّة".... يحملون على الأكفّ أرواحَهم، غاية ما يتمنّون النصر بالثأر من منتهك عرضهم، أو الشهادة للخلاص من كابوس الحياة في بلد يقال أنّ "المجنون بعظمته" رئيسها وقائدها الأعلى .....
واشتعلت حمص، واستعر أوارها ....وأنارت نور نارها الدرب نحو الخلاص ... وهي تولد من جديد وثراها يوري جثمان سيف الله المسلول للحق خالد بن الوليد، حمص الخالدية تعطي من خيرة شبابها ورجالها عربون حرية سنيّة ....
وها هو النذل وأعوانه، يجتهدون حفرا كأمهر الحفّارين، يحيطون المدينة بخنادق الموت، يقال أنّ "الأسد الابن" سليل الإجرام والإعتام يخطّط لأن يصبّ فيها ذهب البلاد الأسود... ليؤمّن لأهل البلاد مستقبلا زاهرا يذكّرهم به إذا ما ولّى عن الحياة !!
ويْح أمّه وثُكلاها ..!! بل ليشعل المحيط الحِمصيّ كله، ويصيّر حمص العديّة محرقة يتولّى أمر رمي أهلها بخنادقها الذهبية ....ليس هو في ذلك ببعيد من صاحب الأخدود الذي حرق أهل البلاد بالنار ذات الوقود وما نقموا منهم إلا أن آمنوا بالله العزيز الحميد ...!!
وقطّعوا أوصال "حمزة الخطيب"،واستأصلوا ذَكَرَه،فيما أعلوا ذِكْرَه، وأسكتوا نبض "هاجر الخطيب"،وأبكوا مدامع دميتها، وأذهبوا ضحكة "قاسم"... وأتبعوهم جميعا بحرقة مَن خلفهم نارا تزيد لهيب السخط عليهم ...وما فعلوا إلا خوفا من تمرّد الأطفال مشعلي نار الثورة والحرية،
و استأصلوا حنجرة الشادي على ضفاف الوادي....وادي الحرية لشعب صادي ... وما استأصلوها إلا أن قال فيما قال، وشدا فيما شدا "يسقط الحاكم الغاشم وتحيا بلادي" ..."
يا الله ارحل يا بشار...
نحنا الكل مْنِفْدِي الكل ولحظة وحدة ما منمل** والحر ما بيرضى الذل ويا الله ارحل يا بشار...
يا بشار ومانّك منّا خود ماهر وارحل عنّا** شريعتك سقطت عنّا ويلا ارحل يا بشار...
ويا بشار حاجة تدور ودمك بحماه مهدور** وخطأك مانو مغفور ويا الله ارحل يا بشار"...
قد استأصلوا حُنجرته من بعد ما أسكتوا النبض فيه، فهي التي قتلتهم ألف ألف مرة قبل نبضه، ولكأنّها القلب فيه والنبض، والروح والدماء والعروق، ولكأنهم يعلنونها برصاصهم الذي طالما تزيّن وزيّن أنّهم ما يُقتَلون -والنبض في قلوبهم الميتة سارٍ-، وما يقاتلون وما يرمون بحمم غيظهم إلا من حناجر تعالت منها الأصوات من بعد ما ظنّوا أنّ الصمت عِماد بقائهم، وأنّ جثومهم دائم مخيّم أبدا ...!!
اسمع مني الخبر والنبأ يا
رصاص المكتبة الملفوف في خشب، المرصوف في عُلَب، المُقتَنَى لرسمٍ ذي ألوان...اسمع مني خبر الرصاص القاتم الذي يرسم العار في شوارع البلاد، وينحت على أجساد أهل البلاد معاني "الممانعة" و "المقاومة" و "الصدّ"، لعدوّ هو إذا عرّفتَه سميتَه في كلمة واحدة، قليلة الحروف، عظيمة المدلول.......... "
الشعب" !!
ماذا أخبرك يا رصاص مكتبتي عن ثورة في بلاد العرب، ثم ماذا؟ ثمّ ماذا ؟...........
---------------------------------
ومازال المزيد من أخبار حديث الثورة في مكتبتي ........ فهل نكمل ؟