وينقض غزله بعد قوة أنكـــاثــــادخل قاعة الانتظار على حين غرّة ...
قاعة مخصصة للنساء ...
طفل يعدّ من سنوات عمره ما بين التاسعة والعاشرة ... سلّم على الجميع وجال ببصره القاعة يمنة ويسرة ، أحاط بمن فيها نظرا ، ثم تقدم يصافح الواحدة تلو الأخرى ... وبنبرة متوددة يلقي سلاما وتحية ... ويردف بنبرة أعلى يحدّث بها الجمع مع حركة من يده عنت كل من بالقاعة ....يسلم ويؤكد السلام وتمنيه الشفاء والعافية والسلامة !!!
وكل واحدة منا لم تملك في غمرة استغراب وحَيرة ، وخبر لم يُسفَر بعد عنه إلا أن تمدّ له اليد مصافحة مع ردود سلام باهتة بنظرة سائلة ونبرة حائرة ... !!!!
ومن بين المقاعد الشاغرة راح واتخذ له مقعدا ...
و لوّح ببضع كلمات حسيرا حزينا أنّ المرض قد أخذ منه كل مأخذ فحال دون مواصلته دراسة أو مواضبته على عمل ...!!!
وثقته بنفسه صوت يعلو على صوته وثوب يربو على ثوبه ...
وبعد قعوده جعل يلفت له الأنظار ، وما كان له من حاجة ليفعل فإنما هي كلها صوبه تريد أن تكشف سرّ هذا الزائر الغريب ، وجرأته في اقتحام قاعة المنتظرات ثم سلامه عليهن... ثم قعوده بينهنّ يبتغي أن يكون راويا لقصة حزنه وآلامه ...
وها هي الأعين إليه ناظرة ، محدّقة ، باحثة ، وها هي الآذان مشنّفة مرتقِبة
وزائرنا على غير عادة أترابه ، يصبح الراوي المحدّث ، بين جمع نسوة أصغرهنّ جاز أن تكون من سنّ أمه
وبكلمات مهذبة منمّقة مرتبة .... وبثقة غير مقطوعة ولا مهزوزة ، جعلتْني أسائل نفسي أتراه طفلا أم أنّه شيخ عجوز يلقي علينا ذكرا من حكيم ذكر الشيوخ إذا ما حدّثوا ...
ألفاظ ليست ببنات سنّه ولا هي ببنات عقله ....
وإنّما راحت تَشي بشيء من سرّه أن يا أيتها السامعات الحائرات إنّما كلماته نقل حرفيّ عن كبار لقنوهُها ، وإنما هي كلماتهم هم ، وبنات عقولهم ووليدات أعمارهم جعل عقلُه الذكي يلتقطها فيرصفها رصقا واحدة تلو أخرى فتجعل من أذن منصته وعين رائيه تجدّدان النية وقد خالطهما بعض تكذيب وشيء من ريب فلعلّ الأذن لم تعد تحسن التمييز بين صوت كبير وصوت صغير و لعلّ العين لم تعد تفرق بين كبير وصغير ...
زائرنا وقد أحكم قبضة سرّه على كل من ينتظر ويترقب ...
وبثقة الواثقين بدأ يتحدث وبقوة لا تعرف التلعثم ولا التردد ، كأبرع ممثل يفتكّ اهتمامك افتكاكا فلا تجد نفسك إلا وقد أسِرت بقوة تعبيره ونطق حركاته ، فلا حجة لك عليه ولا مأخذ ...
يقول زائرنا الصغير ، بل الكبير ، لا بل الصغير ، لالا بل الكبير ...

عجبا له من زائر
.gif)
، كيف لي أن أصفه صغيرا وقد غابت من وجهه وكلماته وحركاته كل ملامح الطفولة إلا من صوت ما يزال شاهدا على سنّه الذي لم يبلغ مبالغ الرجولة ....
يقول وقد أصبح زائرنا راوينَا : آآآآآآآآآه لو تدرون بقصتي ، آه لو علمتم تفاصيل مرضي وعيائي لتخبطتم في أوحال الحيرة دهرا لا تملكون منها فِكاكا ولا تعرفون فيها عين خلاص توصوص ....
ذهلت عن دفتر كان بين يدي وقلم كنت أخط به عليه شيئا أقطع به حبال وقت انتظار يطول لدور يأتي على شقيقتي تلاقي به طبيبتها
ذهلت عما كنت أكتب
.gif)
، وعرفت أنّ بأمره سرا دفينا ما يزال شقيق الأسرار ...
بدأت الأسئلة تترى على راوينا وتتوالى من هذه التي تجلس قربه ومن تلك التي تقابله ومن شقيقتي ومني ...، كل منا تسأل وتستفسر ، وراوينا ربما حلّقت به اهتماماتنا عاليا فزادت إلى ثقته ثقة وزادت إلى قوته قوة ،
قال راوينا:
آه يا أخواتي شفاكن الله جميعا وأبعد عنكن كل سوء ، إنني مذ كنت رضيعا كنت مصاحبا للمرض وكان لي المرض مصاحبا ...
كنا نعيش ببيت .......... و....و....و
وكلمات لها من الخرافة بعد ، ومن متداول الخزعبلات مدّ ... تنبؤك أنّه قد أتى بها من عندهم ولم يأتِ بها من عنده ...
وألفاظ تبلغ من الكبر عتيا ، لو قضيتُ أعمارا فوق عمري لما استطعت إليها سبيلا ، ألفاظ شيوخ وعجائز كما دأبهم حينما يحيط بهم الصغار والكبار فيروون ويفصّلون ويعزفون من الحكمة ألحانا ويلقون من القصص ألوانا وألوانا
وأشارت إلي من كانت تجلس قربه بحركة من يديها أنّه مصاب في عقله
فأومأت لها برأسي منكِرة ، لم أصدق ذلك ولم أره مَلمَحا فيه
قاطعته إحداهنّ سائلة : إلينا بقصة مرضك ، ترى ما خبرها ؟
أجاب أنه يتعرض لنوبات صرع لا تنفكّ تزوره .... وآه ثم آه ثم آه يطلقها بزفرات ، يرجف منها رأسه ويرتجّ لها كل عضو من أعضائه
سألته عندها ، كيف يصيبك الصرع ؟؟ أين يأتيك تحديدا ؟؟
فأجابني أنّه آلام ببطنه ، كلما أكل من الأكل شيئا ألمّت بأحشائه فلا يتخلص منها إلا إذا جاء عليه حينٌ تخلّص فيه مما أكل
دهشت
.gif)
!!! ولكنّ دهشتي حينها كانت شفاء حيرتي الأولى ، كانت جواب سؤال عيني وسؤال أذني ، وكانت خلاصي من حيرتي وفِكاكي وكانت عينا وصوصت لي بحقيقته
أجبته : ولكن هذه ليست أعراض الصرع ... كيف للصرع أن يصيبك ببطنك؟
إنما هو شيئ مصيب أمعاءك ...
وكذلك كان رد جمع النسوة السابر غور راوينا الحاذق...وقد تجلّى الأمر وبدأ يسفر عن كنهه ...
وغلبتني ضحكات وأنا أرقب لسانه المتأتئ ، ذاك الذي كان قبل قليل يغزل بقوة ولا تثنيه نظرة ولا يتلكأ ...
وتعالت ضحكات النسوة وتوالت ، في شيء بين إسرار وإعلان
واختفت نظرات راوينا الراسخة وحركاته الواثقة خلف ما أصابه ، بنقض غزله الذي غزل ...
وتدخل الممرضة ضاحكة ، تسأله :
هل أنهيت حكايتك ؟ هيا انصرف الآن فما عاد لك من داع للبقاء !!!
وانصرف راوينا مطأطئ الرأس وقد انتهت مسرحيته بفصل أبطل بطولته المزعومة ...
ولكن .....وما أكد لي ذكاء الطفل هو إصراره على أن يسلم علينا حتى وهو مطرود مهزوم داعيا لنا بالشفاء والعافية ....!!!!

وقد بدت الممرضة له عارفة ، سألتها فأخبرتني أن ذاك دأبه وهذا حاله وأنّه قصاص يلفق القصص ، و رغم طرده مرارا إلا أنه لا ينقطع عن زيارة العيادة ، ويتسلل بين المرضى ليدخل قاعات الانتظار ويصبح بينهم راوي الزمان ........
سألتها إن كانت تعرف سكناه ، فأخبرتني أن له أما وأبا ومسكنا وأنه يعيش عيشة عادية لا يشوبها عسر أو ضيق
وأنه يسلك هذا كسبيل لجمع المال ممن يشفقون لحاله بعدما يصدقون قصصه
ذلك كان زائرنا وراوينا المريض الذي أقعدته علته المزعومة عن دراسة وعن عمل وعن حياة يحياها كباقي الناس ...
وأي عمل هذا الذي يعمله من كان في سنه ؟؟!!! وأية علة تلك التي خانته طفولته وشحُّ معرفته فلم يلفِ لها من الخيوط ما لا يظهرها منقوصة أو يترك بها فراغا لم يسدّ
وبقدر ضحكي من قصته ومسرحيته ، ومن خزي حاله إثر كشف كذبه ،مع بقائه على عهده بوداع رسم به آخر خطوط الرجولة المهزومة والحكمة المزعومة يرثي به عهدا منها زاهرا قبل قليل قد ولى ... بقدر ما دقت نواقيس الحزن في نفسي على هذا الطفل الذي لم أعرف لعمله سببا غير أب غافل وأم تلهت !!!!!!!!!
وأحزنني ذكاء نما ببيئة فاسدة فما طرح إلا فسادا ولن يطرح إلا فسادا يؤيده الفساد كلما مرت به السنون ....
وقصة كانت غزله القويّ ....فنقضته الطفولة أنكاثا أنكاثا ........
وآه ثم آه ...ما عساه ينقض غزله عندما يكبر....
11-12-2005, 05:59 PM