2017/10/16
--------------------------
ما أصل انتشار تصديق الخرافة بين المسلمين ؟! كيف يصير المسلم الذي فتح الآفاق يوما بالسذاجة التي تجعل عقله نهبا للخرافة والأكاذيب ؟! ربما في هذا المقتطَف من كتاب الغزالي رحمه الله "ركائز الإيمان بين العقل والقلب" نجد شيئا من أصل الداء .. يستحق القراءة ..
-----------------------------------------
الإيمان بالغيب ليس إيمانا بالوهم ولا إيذانا بالفوضى
الخواص من عقلاء المؤمنين أدق تفكيرا وأصدق أحكاما من أندادهم الملحدين، لأن العالم الملحد قد يحيط علما ببعض آفاق الوجود، لكنه يجهل أو يجحد الحقيقة الأولى بينما زميله المؤمن لا يقل عنه علما بهذه الأفاق، ثم هو يضم إليها معرفة حسنة برب الكون، ومصدر الوجود.
ونحن فى هذا نقارن بين فئات متساوية الذكاء بعضها مؤمن وبعضها كافر. ولا نقارن بين عالم فى الذرة ومدرس حساب فى إحدى القري.
وكما أن خواص المؤمنين أرجح عقلا وأصوب حكما، فإن معيشة الاستقامة التى يعيشونها تجعلهم أهدى سبيلا وأقوم قيلا، وتجعل قدرتهم على قياد الحياة أشد، وبصيرتهم فى علاج مشكلاتها أشد.
وقد رمقت الأجيال الأولى من المسلمين السابقين فوجدتهم أنشط عقولا، وأسلم وجهة وأحكم سياسة من غيرهم. ولم يحدث بتة أن كان الإسلام قيدا على انطلاقهم الفكرى، أو عاتقا دون اقتحام المجاهيل المادية والأدبية.
بل الذى وقع هو العكس، كان الإسلام محرضا على البحث الجرىء والفكر العميق. وكانت آيات القرآن الكرحبم باعثا هائلا على إحياء الموات الذهنى والاجتماعى حيث تليت.
وعلى سناها انطلق العقل الإسلامى الأول انطلاقته البعيدة المدى، فجدد ونقى التراث الأول للإنسانية، ومهد وأعان على خلق حركة الإحياء فى الغرب. بيد أننا نلحظ أنه- من عدة قرون- كبا هذا العقل كبوة خطيرة، كما نلحظ أن جماهير المسلمين قد أصابتها لوثات وعلل أزرت بقدرتها الفكرية، وحكمها على الأشياء.
ومن تأملى فى نفسى، وفى نفوس المؤمنين حولى، أسجل الحقائق الآتية حتى يعرف بالضبط مدى قربنا أو بعدنا من الإسلام ومنطقه ومنهجه:
تضمن الإسلام- كما تضمن غيره من الديانات السماوية- حديثا عن عوالم أخرى غير محسوسة، وهو حديث محدد البدايات والنهايات، فهناك ملائكة لشئون الحياة والموت، وهناك جن مكلفون مثلنا بالإيمان والصلاة ، فيهم الفاسد والطيب.
وعلمنا بهذه الأجناس قاصر، والمصدر الأول لإثباتها هو الدين، والنصوص الدالة على وجودها لا يمكن نفيها. وقد وردت بأوصافها آيات قاطعة، كما جاءت أحاديث آحاد ببعض أعمالها وأحوالها، وهذه الأحاديث تفيد الظن العلمى، وهو ظن يقوى ويضعف حسب درجة ثبوتها وقبولها.
غير أن الخياليين والخرافيين من النالس وسعوا دائرة الكلام فى هذه العوالم المغيبة، وأقحموها فى شئون مادية كثيرة، ونسبوا إليها من التصرفات والآثار ما يبرأ منه الدين، وما شردت به الحياة العادية.
والمسلم يلتزم ما ورد فحسب، وهو لن يخالف معلوما من الدين بالضرورة، ولكن من حقه تكذيب الأخبار التى يقصها الواهمون، كما أن من حقه حراسة الحقائق المادية والدينية من شغب المنحرفين.
روى أن مالك بن أنس سئل: أيتزوج الإنس من الجنية؟ ورد مالك: يجوز- هكذا حكوا- ثم سئل: أيتزوج الجنى من الإنسية؟ فقال مالك: لا!.. لماذا؟ مع أن الحالين سواء!. قالوا: خشى مالك أن تزل أى امرأة ثم تزعم أنها تزوجت من عالم الغيب!! فحرس حدود الشرع والخلق بهذا النفى القاطع..
وإذا كان الإمام الكبير قد صان الدين بنفى الشطر الأخير من السؤال فنحن اليوم نصون الدين والعقل بنفى كل ما يشيع بين العوام من ترهات فى هذه المجالات، فاستحضار الجان- وهو ما يسمى فى عصرنا بتحضير الأرواح- شغل بباطل. وتصديق السحر والشعوذة وخلط المعارف الطبية بأعمال الشياطين الخفية، لا صلة له بالدين. ويتصل بذلك حساب الجمل، والطوالع.
والغريب أن بعض المفسرين والمؤرخين ينساق مع البله فى هذا التيار، وسائر المزاعم التى تؤكد صلة ما بين بعض الناس، وبعض الجن أو الملائكة، لا حرمة لها قط. فإن السمعيات لا مصدر لها إلا الكتاب والسنة، أما أخبار الناس فليست مصدر علم، بل كثيرا ما تكون محور أساطير.. ولا ضير على من يكذبها ويقيم فهم الناس لشئون الحياة على الواقع المحسوس وحده.
وقد كان صحابة الرسول فى معايشهم وعلاقاتهم نماذج لنضج التفكير وسلامة الحواس، ودقة الأحكام. ولم تتلوث الحياة الاجتماعية فى العالم الإسلامى بهذه الأوهام إلا فى عصور التخلف وغفلة الفقهاء..
ومما يؤخذ على المسلمين فى الأعصار المتأخرة خلطهم بين عالم الغيب وعالم الشهادة.
إن العالم الأول غامض الصورة مبهم المعالم لا تعرف من حقائقه إلا القليل الذى عرفنا به الشارع لحكمة قصد إليها. أما العالم الذى نعيش فيه فهو واضح الصورة بين المعالم. لعناصره خصائص ثابتة وللعلاقة بين بعضها والبعض الآخر قوانين محكمة..
غير أن بعض المتدينين يلبس هذا بذاك فلا تتماسك فى ذهنه صورة دقيقة للحياة وسننها، بل تتحول المادة وصفاتها وقوانينها إلى سائل رجراج يتساوى فيه الممكن والمستحيل..
وما نقول فى فقيه يفترض أن الميت غسل نفسه غسل الجنازة؟ وآخر يقود قافلة مشيعيه كيف يشاء؟.
ولقد انتشر هذا اللغو فى أمصار وأقطار شتى فوقف تقدمها العلمى ورسب فى الأذهان أن حقائق الأشياء غير ثابتة، وأن قوانين الكون غير مضبوطة.
والغريب أن عددا من المؤلفين فى فروع الثقافة الإسلامية أذنوا لهذا الباطل أن يشيع. ويستحيل أن ترقى أمة يسودها هذا الفكر المكذوب.
أقرأ هذه الأقوال المنسوبة إلى المتصوفين، وانظر هل يبقى بعد تصديقها مجال لارتقاء كونى، أو تقدم صناعى وكيمائى؟.
زعم الخواص أنه كان يركب حماره، وكان يضربه، فرفع الحمار رأسه، وقال للخواص: اضرب، فإنك هو ذا تضرب على رأسك.
وزعم غيره أن حية سقطت على الجيلانى، وهو يدرس، ثم قامت بين يديه، تكلمه بكلام لا يفهمه سواه. وأن تمساحا ابتلع صبيا فناداه الدسوقى، فخرج يمشى من البحر ووضع الطفل بين يدى الشيخ.
وزعم القشيرى أن بعض شجر الرمان خاطب إبراهيم بن أدهم، ورجاه أن يأكل من ثمره، فلم يفعل ابن أدهم، فكرر شجر الرمان رجاءه ثلاث مرات، ثم توسل شجر الرمان إلى رفيق ابن أدهم أن يشفع فى هذا الأمر، فشفع. فتناول إبراهيم رمانتين!!
وأن صوفيا ركز رمحه فى الأرض، فجاء طير ووقف عليه، وأخبره عن سرية كانت تقاتل فى أرض الروم أنها سلمت وغنمت، وأنها ستعود فى يوم كذا، فسأله الصوفى: من أنت؟ فأجابه الطير أنا مذهب الحزن من قلوب المؤمنين.
"حكى عن أبى جعفر الأعور أنه قال: كنت عند ذى النون المصرى، فتذكرنا حديث طاعة الأشياء للأولياء، فقال ذو النون: من الطاعة أن أقول لهذا السرير يدور فى أربع زوايا البيت، ثم يرجع مكانه، فيفعل! قال!: فدار السرير فى أربع زوايا البيت، وعاد إلى مكانه ".
ويقص القشيرى أيضا عن ذى النون المصرى أنه أقسم على شجرة ليس فيها رطب أن تنثر رطبا جنيا، فنثرت، ويقص أن حية فى فمها طاقة نرجس كانت تروح بها على ابن أدهم وهو نائم.
وأن أبا تراب النخشى عطش أصحابه فضرب برجله الأرض، فانفجرت عين من ماء زلال، فقال أحدهم: أريد فى قدح: فضرب النخشى بيده إلى الأرض ثم رفعها، وفيها قدح من زجاج أبيض كأحسن ما رأى الشاب.
وأن شابا صوفيا اتهمه ذى النون المصرى بالسرقة وهما فى سفينة، فقال له الشاب: ألى تقول ذلك؟ أقسمت عليك يا رب ألا تدع واحدا من الحيتان إلا جاء بجوهرة. قال ذو النون: فإذا وجه الماء كله حيتان فى فم كل منها جوهرة!!.
وأن جماعة أنكروا الكرامات فخرج إليهم صوفى يركب أسدا ويقول: أين المنكرون؟. ويقول الغزالى: كان أبو الخير التينانى مشهورا بالكرامات، وأن إبراهيم الرقى صلى وراءه المغرب، فوجد أن التينانى لا يحسن قراءة الفاتحة فقال الرقى فى نفسه قد ضاعت سفرتى، ثم خرخ إلى الطهارة فهاجمه سبع، فعاد إلى التينانى، وأخبره بما حدث من السبع، فخرج التينانى وصاح بالأسد: ألم أقل لك لا تتعرض لضيفانى؟ فتنحى الأسد، فتطهر الرقى، ورجع التينانى، فقال له: اشتغلتم بتقويم الظاهر، فخفتم الأسد واشتغلنا بتقويم الباطن، فخافنا الأسد.
ونقل القشيرى عن أبى عمرو الأنماطى قوله: كنت مع أستاذى فى البادية فأخذنا المطر، فدخلنا مسجدا نستكن فيه، وكان بالسقف خلل، فصعدنا السطح، ومعنا خشبة نريد إصلاح السقف، فقصر الخشب عن الجدار، فقال أستاذى: مدها فمددتها فركبت الحائط من ههنا، وههنا.
وذكر أيضا أن صوفيا أمر جبلا، فتحرك، فقال له: اسكن، لم أردك، فسمكن.
ونقل عن الواسطى قوله: انكسرت السفينة، وبقيت أنا وامرأتى على لوح وقد ولدت فى تلك الحالة صبية، فصاحت بى، وقالت لى: يقتلنى العطش، فقلت: هو ذا يرى حالنا، فرفعت رأسى، فإذا رجل فى الهواء جالس، وفى يده سلسلة من ذهب، وفيها كوز من ياقوت أحمر، وقال: هاكما اشربا، فأخذت الكوز وشربنا منه، وإذا هو أطيب من المسك، وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل، فقلت: من أنت يرحمك الله؟ فقال عبد لمولاك، فقلت: بم وصلت إلى هذا؟ فقال: تركت هواى لمرضاته، فأجلسنى فى الهواء.
وينقل عن صوفى بالبصرة أنه كان إذا خطرت على سره مسألة، سأل شيخه عنها، فيجيبه عنها من إصطخر!.. على بعد المسافة، وقال أحد تلاميذ الكرخى إنه رأى فى وجه أستاذه إصابة لم تكن فيه من قبل، فسأله عنها، فأخبره الكرخى أنه اشتهى ذات ليلة- وهو بالعراق- الطواف حول البيت، فطار إلى مكة، ثم أراد أن يشرب من زمزم، فزلت قدمه على بابها، فأصيب وجهه!..
وكان بشر الحافى يمشى على الماء. ومات صوفى فى سفينة، فجهزه الناس وهموا بإلقائه فى البحر، فجف البحر، واستقرت السفينة على أرضه، فنزلوا وحفروا له قبرا، ودفنوه، فلما فرغوا، استوى الماء فارتفع المركب.
وهمَّ شاب بسلب ثوب إبراهيم الخواص فأشار إبراهيم إلى عينيه، فسقطتا. وزعم أن الآجرى قذف بثوبه وبثوب يهودى فى النار، ثم اقتحم أتون النار، وأمسك بالثوبين، وخرج من باب آخر للأتون دون أن يمسه شىء.
ويظل القشيرى ينعق بهذه الأساطير حتى يسود بها أكثر من ست عشرة صفحة من رسالته، فى كل صفحة قرابة أربعين سطرا.
***
بأى حق يأخذ هذا اللغو الفارغ طابع الدين؟ وبأى وجه يروجه الملتاثون بين صفوف المؤمنين؟.
لقد كان من رحمة الله بالأمة الإسلامية أن سلفها الصالح سلم من هذا الداء، وأن النبى وأصحابه وتابعيهم بإحسان لم يعرفوا هذه الظلمة، فسعدت بهم الدنيا ورشدت بهم الحياة. وبلغوا أمانات الوحى بصدق، وغرسوها فى أرجاء الأرض بقدرة، فكانت الحضارة الإسلامية بركة على الإنسانية كلها.
ولو أن تلامذة محمد- حماهم الله- غرتهم هذه الأوهام عن الكون والكائنات ما فتحوا مصرا، ولا هدوا قطرا، ولا أعقبوا أثرا.
وإنه ليحزننا أن أجيالا من المسلمين ظنت مادة الكون عجينة يشكلها بعض الناس كيف يشاء، فليست لها سمات معتادة ولا قوانين مطردة..
وإنه ليحزننا أن من تقربوا إلى الله ببعض العبادات يتصورون أن قرباتهم تنقض لبنات الكون وتشيع فى نظامه الفوضى.
والأغرب من ذلك أن يظل هذا التصور المعتل قائما فى خطب بعض الناس ومقالاتهم، فى الوقت الذى طفر فيه العلم المادى فغاص فى أعماق الذرة وغاب فى أجواز الفضاء، وتقلب فى علو الكون وسفله يتدبر سنن الفطرة وعجائب الخلق ويعود من هنا وهناك بالروائع.
والإسلام دين يطارد الخرافة من الفكر، والرذيلة من القلب والزيغ عن الخطو، والشرود عن السيرة. بل هو إيجابى فى هذه المجالات كلها، فهو يشكل المشاعر والأفكار الإنسانية تشكيلا يجتذب العقل إلى الحق والفؤاد إلى الفضيلة، ويقتاد البشر من نواصيهم ليثبتهم على الصراط المستقيم..
والذى يهمنا هنا أن نقول فى عموم وإطلاق: إن كل ما ينيم التفكير أو يخمله يستحيل أن يكون من الإسلام. وإن ما يلاحظ أحيانا على بعض المتدينين من صدأ عقلى وكسل ذهنى هو فضح علل شخصية أو بيئات متأخرة، ولا علاقة له بالدين.
وارتباط المسلم بطائفة من العبادات السماوية لا يعنى بتاتا أن فى حياته جوانب مبهمة، تشيع الغموض فى الجوانب الأخرى.. فإن الله- فى جميع الديانات وعلى اختلاف الزمان- كلف عباده بأمور قد ترتفع عن مستوى الفهم العام كصور الصلاة ومناسك الحج..
وهذه العبادات المقررة تساوى فى دنيا الناس كثيرا من المراسم الشعبية والحكومية التى يتواضع الخلائق عليها ويلتزمون بأشكالها ودلالاتها دون تهمة أو حرج..
وكم نرى فى الأحفال العسكرية والمدنية من تقاليد توضع وتصان. ويقف عند حدودها أصحاب الفكر المادى المؤمنون بالمحسوس وحده..
ومع احتواء الإسلام- كأى دين سماوى- على تعاليم من هذا القبيل. فقد تميز بأمور ذات بال منها أن هذه التعاليم معقولة الحكمة وغير مضادة للفكر السليم. فالصلاة حركات وسكنات لا دخل للعقل فى وضعها، بيد أن العقل يعى جيدا ما يقرأ فى وقفاتها وما يمجد به الله فى ركوعها وسجودها.
وعلى قدر يقظة العقل والقلب فى أثناء الصلاة تكون مكانة المصلى عند الله ويكون حظه من المثوبة. وفى الحديث الشريف: "إن الرجل لينصرف وماكتب له إلا عشر صلاته!.. تسعها!. ثمنها!. سدسها!. خمسها!. ربعها!. ثلثها!. نصفها! " .
إن درجته تزيد أو تنقص على قدر حضور قلبه وألق فكره وأدب جوارحه، كما يأخذ التلامذة درجاتهم فى الصف الدراسى على قدر استيعابهم العلوم وإحسانهم الجواب. وقبل الصلاة الموقوتة نداء مفصل الكلمات، محدد المعانى، يخاطب الإنسان فى تؤد وبصر!.
إن العبادات وإن كانت من وضع الله، جل شأنه، ولا صلة لنا بأشكالها وإعدادها، إلا أنها أولا وآخرا وعاء لمعان معقولة وغايات مقبولة. وفى هذا ما يكفى للحفاوة بها.
وقد بلغنى أن بعض معاهد التربية النفسية تفرض على بعض المنتسبين إليها "وردا" معينا يردده بصوت جهير ليتخلى به عن أفكار باطلة، أو يثبت به أفكارا صحيحة!.. وكأنها بهذه الصيحات التى يكررها الشخص تريد أن تلصق بفؤاده أو تنتزع منه، ما تحب أو ما تكره.. والأعداد التى تقرر فى هذا المجال لا تقصد لذاتها قدر ما تقصد لآثارها المرجوة...
وعندما استحب لنا الدين مثلا أن نسبح الله ونحمده ونكبره ثلاثة وثلاثين... فالمراد الأهم إيقاظ القلب لتنزيه الله وشكره وإعظامه. بيد أن بعض المتعبدين يتيه عن هذه الغاية، ويظن أن العدد مقصود لذاته، وأن له سرا مغيبا مرهوبا!.. ويجتهد أن يبلغ هذا العدد ترديدا باللسان، وإن كان القلب غافيا، ويظن أنه قد أدى العبادة المستحبة وإن كان ذكر الله لم يتسلل إلى باطنه بشعاع مضىء ولا إلى سلوكه بخلق ذكى.
وما أكثر المتدينين الذين يتقنون من الدين هذا الجانب، ويحرصون عليه ويذهلون عما وراءه أو يفرطون..
وما جدوى إيمان الشفتين وتزويق الظواهر؟.
وقد يقبل البعض هذا الإيمان، لأنه أفضل على كل حال من الإلحاد الذى شاع فى عصرنا ولوث شتى الآفاق.. إلا أننا نلفت الأبصار إلى شىء خطير، هو أن مستقبل الإيمان أمام هذا الإلحاد الزاحف منوط بيقظة البصائر وحدة المشاعر وطول التضحية، وشدة البذل.
أى أن الإيمان الخامد، والذكر القليل لا يغنيان فتيلا فى ميدان يتطلب الصدق والجد... وإذا لم يفلح الدين فى شد زناد الفكر والشعور إلى أبعد مدى مستطاع فحقيق به أن ينهزم، وحقيق بأتباعه أن يبيدوا...
إن احترام الشكل أمر حسن قانونا وعرفا. لكن التهويل فيه والتعويل عليه أمر عجيب. وقديما حاول بعض الناس أن يؤدى الصلاة المكتوبة، حركات مجردة من قيام وقعود وركوع وسجود، وظن أنه بذلك يفرغ ذمته ويؤدى واجبه.
ولكن صاحب الرسالة، صلوات الله عليه، لم تنطل عليه هذه الحيلة. فقال لمن أدى صلاته كنقر الديك: "صل فإنك لم تصل " . وصح أنه قال فى شأنه: "لو مات على ذلك مات على غير ملة محمد"!
والموت على غير ملة محمد لا يكون نتيجة استعجال بدنى فى أداء واجب ما. فلا البطء دليل إيمان إذا كان القلب غافلا، ولا السرعة دليل نفادق إذا كان القلب ذاكرا.
نعم، لا بد من الاطمئنان فى أداء الأركان، وتسويتها على نحو يجعل صورتها مهيبة كريمة. لكن التسوية المطلوبة هى ما يدل على خشوع القلوب وأدب الجوارح، وسكينة المرء بين يدى رب العالمين.
والمؤسف أن عددا كبيرا من المتدينين لم يفهموا الدين على ذلكم الأساس المبين. فظنوا الصورة هدفا مقصودا لذاته، وألفوا أداء العبادات وأفكارهم ذاهلة وعقولهم شاردة وضبطهم للحقائق مضطرب مائع.. فزاغت فى الحياة وجهتهم، وغامت سيرتهم، وملك زمامهم هوى لم يقمع، وجماح لم يكبح. حتى أن بعض المفتونين ساءت ظنونهم بالعبادات وآثارها، لما رأوه من البلادة النفسية والفكرية عند هؤلاء المتعبدين البله.
وإنه لثقل على صدر الحياة أن يوجد جيل من الناس لا يعى أن الكون محكوم بقوانين دقيقة، ولا يدرى أن العقل اليقظ هو الوسيلة الفذة لمعرفة الله، عن طريق تأمل ملكوته وتدبر وحيه وإنفاذ وصاياه، وإعلاء كلماته..
إن الدين يتضمن جانبا من الإيمان بالغيب، وهو كذلك يتضمن جوانب من عالم الحس والحركة، والجانب الأول ينظم الجوانب الأخرى ويساندها ولا يحيف عليها أو يشرد بها. ومن ثم قلنا: إن الإيمان بالغيب ليس إيمانا بالوهم ولا إنذارا بالفوضى.
وأفعال المسلمين التى تنافى ذلك شىء غير الإسلام الذى يقوم على احترام العقل ونبذ التخامين والأحداس، وعلى إعظام الكون ولفت النظر إلى ما فى بنائه من روعة وجلال... وعلى إيقاظ الضمير وجعله مهيمنا على الحركات والسكنات..
إن أبعد الناس عن الإسلام رجل بصره فى مواطىء قدميه. وهمته لا تعدو ملء بطنه وكسوة بدنه... وصلته بالدين تنشأ عن وجل بما يدرى، أو اقتناع غامض بما يقال.
الشيخ #محمد_الغزالي
https://www.facebook.com/em.elghazaly