2017/09/15
--------------------
ذكريات عام سابق
----------------------
في خضمّ الزحام، وبين ناس وناس... كلّهم إنسان ...
لا فرق بين أحدهم والآخر... لا فرق بين من اقتنى الباهظ الثمين، وبين من اقتنى بالبخس الزهيد ...
هذا أبٌ، وتلك أمّ ... وذاك ولد، وتلك بنت ...
كلّهم شَغَلهم الدخول المدرسيّ، وصارت لُغَتُهم بمفرداته... بين "مسطرة"، و"قلم"، و"كراسة"، و"ممحاة"، و"مبراة"...
ولكلّ حادث حديث... وإن هذه أيام هذا الحديث ...
وبين مَن يطلب، ويطلب، ويطلب، ويُملي على المُلبّي حاجاتِه ...
ويا وَيْح المُلبّي ... !!
وقد غدا ريشةً في مهبّ الرياح ... فريحٌ تطوّح به ذات اليمين، وأخرى تطوّح به ذات الشمال ...
لا تكاد تراه ساكنا هامدا ... وكأنّه ساعتها قد صُنع من مادة "الاضطراب"، فلا هو الذي جَنَّ على عقله ليل سرمديّ ... ولا هو العاقل الذي تعرف له حركات العُقلاء ...
تتعالى أصوات الأطفال فرِحةً بالمقتنيات الجديدة، وكأنّهم لم يعرفوا للأدوات يوما شكلا ولا رسما، فهُم صُنّاع الفرح وصُنّاع الأعياد ...
ولَيْتَ شعري.. كيف لا يكون عامهم الجديد بكل ما فيه من جديد عيدا سعيدا، صُنّاعَ الأعياد ...!
ليت شعري ... أرى أيامي الصغيرة فيهم، وأرى أعيادي التي كنتُ أصنعها، أياما كانت بلون البراءة، وأعيادا كانت بنكهة الفرح القلبيّ العميق ...
أياما كنتُ أركض فيها مزهوّة بأقدام تطير بي، وتقفز، فتنقلني من الأرض إلى عَنان السماء، ولكأنّ الأرض والسماء عندي صِنوان لا يفترقان، وكأنهما الجارتان لا البعيدة عن البعيدة ...
وكأنّهما سماء وسماء، فهذه سماءٌ للفَرَح الطائر أبدا ... وتلك سماء للطائر الفَرِح أبدا ...!!
وبين سماء وسماء حياة الطفولة ...

أيا أُصَيْحابي أما اشتقتُم لتلك الحياة ؟!!
تتعالى أصواتهم، وتقفز الكلمات من أفواههم، ومع الكلمات تقفز أرواحهم ...
صوت رقيق، وآخر رقيق، وآخر أكثر رقة...
وتأتأة ولثغة، ولثغة وتأتأة...
فالمسطرة تغدو "مِثطرة"، والقلم يغدو "كلم" والمبراة قد تتمدّد بفعل حرارة ضربت الحروف عندهم فتغدو "مبْبْبْبْبْبْبْراة" :)
أما الأولياء .... !! فيا وَيْح الأولياء ....

يالنا من مُتعبين نحن الكبار...
يالنا من مُفارقين دنيا السعادة بلا شرط، واللامابالاة والعيش بلا تفكير في القضايا وفي أمهات القضايا وفي بنات القضايا ...!!
الأولياء ؟ ... إنهم.. فيما أبناؤهم يصدعون بأصواتهم كالقويّ المِقدام الباسل الضرغام ، يلبسون الجديد، ويقتنون الجديد، ويستقبلون الجديد ... هُم ... يا ويْحَ "هُم" ...

يتخافتون، يُخفون عن صاحب المكتبة ضجرهم من المَطالب والمُطالِبِ، يتظاهرون بأنّ الأمر عليهم هيّن، وهو عليهم عظيم ... ولكنّ السيل يبلغ الزُّبى، فيُسفر منهم ما جاهدوا لإخفائه ...
يُسفر في تذمّر خفيّ بَيْنِيّ ... في نظرات مُحدّقات وعيون جاحظات يصَوِّبُونها نحو أبنائهم ...
أو ربما في وخزة بيدٍ تنقلب الإبرة الواخزة في جنب ابنه أو ابنته...
أو في دَوْس القدم الكبيرة على القدم الصغيرة، فالحرب تحتيّة مخفيّة خلف الطاولة العارضة والسلام فوقيّ ظاهريّ كدأب الحروب تحت الطاولات والسلام فوقها ... !!
والبائع في انشغال وغفلة يظنها الوليُّ دائمة، ولكنّها التي لا تدوم...

فهي بين الحين والحين تنقلب انتباهة، ليرى البائع ما لا مناصّ من رؤيته، والعين ترمق الأشياء كعادة العين لِما خُلِقتْ...فلا لَوْم ولا تثريب ...

فتكون مبعث الضحكة المُجتثة من الأعماق المُنْهكة...
وكأنّ البائع المسكين وهو يلبّي ويلبيّ كاللولب الذي لا يستقرّ، يأتيه المُتنفَّس ليُذهب من تعبه الكثير، وليجدّد نشاطه وهمّته ...
ذلك ممّن استحيا منهم أن يُظهر ضجره ...
أمّا غيرهم فيطفح الكيل بهم، فتراهم كالسلاح الماضي الذي يُشهَر بوجه العدوّ، فيتذمر، ويُزمجر، وينظر لابنه شَزَرا، يكاد يلوكه بأسنانه..

ولكنّ الأطفال ... لله دَرُّ الأطفال ...لله دَرُّ الأطفال ...!!!
شُجعان أبطال لا يَرْعَوون، لا يُخَوَّفون، ولا يَقتُل الفرحةَ فيهم تهديدٌ ولا وعيد ... !!
ألا شيئا من إرادتهم وعزمهم وصمودهم يُباع فنشتري ...

والأولياء ؟! ويْح الأولياء ...
إنك لتجد أحيانا من يُمسك بتلابيبه الثلاثة والأربعة والخمسة من الوِلدان، كلّهم ينهش منه جزءا، كلّهم يريد... ولا يُريد إلا من ذلك الواحد الوحيد أبيهم ...
فأعانك الله يا أباهُم ... :)
وبينما الحال هو الحال، هذا منهمكٌ مع الآلات يحسب، وذاك ملبٍّ يلبي للطالبين... وأصوات، وأمزجة...
وجوّ من الجدّ والهزل يجتمعان ...إذ برجل يدخل ....رجل لا كالكلّ ..!!
لا كمَن طلب، ولا كمَن تعالى صوته، ولا كمَن خفتَ وبَهت، ولا كمَن زمجر وتذمّر ... ولا كمَن دارت عيناه دوران الذي أعجزه الطلب ، وأعيتْه حاجة هي واحدة من حاجات وحاجات يقضيها...
دخل ذلك الرجل متكبّرا ... متعاليا ... وكأنما هو الجبل والناس مِن حولِه حجارةُ سَفْحِه ... !!
يتكلّم وكأنما كلماته الدُّرر يستكثر أن يلقيها، فإذا أُلقِيَت،ْ خِلْتَ نفسك المُرغَم المغرمَ المثقَل بدفع ثمنها وقد أُلْقِيَتْ إلى أذنَيْك تلقفانها ...

فسارِعْ... سارِعْ يا ملتَقِف الدُّرر ... سارع وادفَعْ ...
ادفعْ وإن لم تكن تقوى على دفع ثمن قلم وممحاة ... فإنك المُرغَم لا البطل ... وهذه اللآلئ المنتظِمات، وهذا الدُرُّ المنثور من فم ذلك الرجل الموفور ....!!
التفِتْ عن ابنك الصائح بكَ : "يا أبتِ أريدها ... أريدها " ...
والتفِتْ أيها البائع عن الكلّ ... وعن حساباتك ... وعن ضحكاتك المنفِّسات ...
وانصبَّ كُلَّكَ على ذلك الرجل الموفور ...
كيف لا وهو يلقي بدُررِه بين يديك ... ما أكرمه !!
ما أكرمه بائع الكلمات الدُريّة !!!
رأيتُه وكأن الأرض تحمله وحده، وكأنّ الدنيا ملكُه وحده ...
وبينما هو كذلك ... وقد شذّ عن جمع هو الكلّ مع الكلّ، هو الفرد مع الكلّ... هو الناس، هو السواسية كأسنان المشط ... هو بالغاضب بينهم والراضي، بالصائح بينهم والصامت...
كلهم ذلك الكلّ المندمج، ذلك الكلّ المتشابه وإن اختلف ...
ذاك الذي أنا منه وهو مني .... ذاك الذي هو أنا وأنا هو ... سواسية على الأرض، سواسية في الدنيا ... سواسية في الفرح كما في الهمّ ...
وبينما هو كذلك ما فتئ أن دخل خلفه رجلٌ بسيط .... جارُنا البسيط، المتواضع ... !
يلقي السلام ويبتسم ... ويُحدّثنا بالكلمات المتواضعة، بالكلمات البسيطة، بالنبرة التي نعرفها وتعرفنا عن ابنه "بُبُّو" وهو ذلك الحذِق، الفطِن الذي تولّى عن أبيه هذا العام مُؤنة إخوته، فتكفّل بمصاحبتهم، وباقتناء الأدوات لهم بدلا عنه ...

"بُبُّو" هو ذلك الصغير الكبير الذي علّمَتْه حاله البسيطة المتواضعة أن يحذو حذو الرجال وأن يخاطبك كما الرجال، وأن يشتري كما تشتري الرجال فلا يُفْرِط ولا يُفرِّط ... رجلٌ هو "بُبُّو" وإن كان صغيرا ... صغير هو "بُبُّو" وإن بدا كما الرجال ..
وعندما سمعت تلك الكلمات ... وهو يُشيد بيده الطُّولَى معه هذا العام، لا تغادر البسمة وجهه، مُفتخرا به ... وددتُ لو كان بمَلْكي القيام إجلالا للرجل البسيط، وهو يقف خلف الرجل المتكبّر بائع الكلمات الدريّة !! وعيني لم تعد ترى المتكبّر إلا صغيرا، صغيرا ... والبسيطُ بعينيّ كبيرٌ كبير ...
رأيته وهو الذي أعرفه، وكأنني أعرفه من جديد.. أعرفه أكثر .. أعرف وزنه قياسا بالمتكبّرين ...
كم بدا لي كبيرا ... وكم بدا لي جميلا ابنُه "بُبّو" ...
لم يدرِ أنّه الذي يستحق الإجلال ...لم يدرِ أنه الذي يستحقّ التقدّم وإن تقدّمه الذي يبيع كلامَه بيعا ولا يرى له ثمنا ..
لم يدرِ أنه كان الصُّعَداء تنفستُها من خنق ذلك الرجل المتعالي ...
إنه ابن الأرض الذي تحمله الأرض لا السماء ... كما أنني ابنتها ... فهو منها وأنا منها، وما خُلِقنا إلا منها، وما مآلنا إلا إليها ...
وبدأتُ أسمع من جديد تلك الضوضاء المحبّبة، وكأنها النغمات المتناسقات، المُتّسقات وقد قطعها لِحِين نشازُ المتكبرين...
من أصوات البُسطاء المندمجين في "كلّ" لا فرق فيه بين غنيّ وفقير ... فيهم الميسورون حالا نعمْ ... ولكنهم الذين لا يتكبّرون ...فهُم مع غيرهم كما غيرهم ...
فيا أيها المتكبّرون ... إنكم لن تخرقوا الأرض ولن تبلغوا الجبال طولا ...
وإن المتواضعين هُم أهل الاحترام والتجلّة والتقدير ... وإنّه لن يقدّركُم ولن يتمسّح بكم إلا كلّ متملّق، يريد مصلحة بين المصالح... فلتهنؤوا بهم، وليهنؤوا بكم ...
أما أنا فإنّ "بُبُّو" وأمثاله عندي هم الأعلَوْن َ وإن بعتَ ما بعتَ من دررك يا بائع الكلمات الدريّة !!